د. أحمد سلطان
منذ اندلاع شرارة الحرب الروسية الأوكرانية، توالى العديد من مؤتمرات القمة في مختلف دول العالم وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، فهل ستتوصل تلك القمم إلى نتائج مرضية لجميع أطراف الصراع العالمي؟ وهل ستتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة؟ وهل ستعمل على تأسيس قواعد وأسس جديدة في العلاقات الدولية بين الدول، والشعوب؟
وفي إطار هذه القمم، يجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني إبراهيم رئيسي في طهران اليوم في إطار قمة تتناول الملف السوري وتتخللها محادثات روسية إيرانية تركية، ومن جهة أخري من الممكن أن يصبح النفط والطاقة مسألة رئيسة على مائدة الحوار للعديد من الدوافع.
وبصفة عامة تؤدي الصادرات النفطية ودبلوماسية الطاقة دورًا مختلفًا في السياسة الخارجية بين موسكو وطهران، وتشترك إيران وروسيا في موقفهما السياسي المعاكس للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تضررتا من العقوبات الغربية والأمريكية وذلك لأسباب كثيرة ومختلفة، حيث تضررت موسكو بسبب حربها في أوكرانيا ومحاولة تصدرها مشهد المتحكم في مفاتيح النفط والغاز الطبيعي، أما طهران فبسبب برنامجها النووي.
تحركات موسكو في منطقة الشرق الأوسط تزامنت مع زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة، مما يعكس مساعي بوتين إلى تحييد الدول الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية من الدخول في صراعات النفط والطاقة بين موسكو وواشنطن. ومن الممكن القول إن زيارة بوتين إلى طهران تأتي ردًا على زيارة بايدن، حيث يحاول الرئيس الروسي أن يضع نفسه أمام رئيس أكبر قوة في العالم، ويُظهر دور روسيا في منطقة الشرق الأوسط بأنه لا يقل عن الدور الأمريكي، أو من جهة أخرى من أجل تحييد آثار العقوبات الغربية والأمريكية على موسكو وطهران، ومحاولة فتح أسواق نفطية جديدة أو تنسيقًا فيما بينهما بشأن الأسواق الآسيوية.
فقد لوح جو بايدن بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستبذل كل ما في وسعها من أجل منع حصول طهران على سلاح نووي، وعلى أساس أنه بات أكثر ما يهدد عددًا من دول المنطقة، متحدثًا عن رغبته في كسب ود السعودية لمواجهة موسكو فيما يتعلق بصراع النفط والطاقة، وأملًا في كبح جماح بوتين باللعب بورقة الطاقة في وجه القارة الأوروبية. وفي المقابل حافظت العلاقات الإيرانية الروسية على استقرارها ولم تشهد تقلبات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، حيث تحاول موسكو منع طهران من الاقتراب أكثر من اللازم من الغرب، ومن جهة أخري انصب اهتمام السياسة الخارجية الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورة على ضرورة تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة ومحاولة حل التوترات.
وأولت إدارة الرئيس الإيراني الأسبق، أحمدي نجاد، اهتمامًا خاصًا بالتوجه شرقًا؛ وذلك بهدف تعميق العلاقات مع بكين. ومع تولي الرئيس الإيراني الحالي، حظيت سياسة حل التوترات مع جيران طهران بمزيد من الاهتمام، وسعى إلى تعزيز مجالات التعاون المختلفة مع موسكو، ولكن شكلت الطاقة والنفط أحد أهم المحاور المستقبلية للعلاقات بين البلدين، أثناء زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو في يناير الماضي.
النفط الأيراني والوضع الحالي
تمتلك إيران والبالغ عدد سكانها حوالي ٨٣ مليون نسمة احتياطيات كبيرة من النفط الخام في العالم، وتُصنف من بين قائمة الكبار في إنتاج النفط على مستوى العالم، حيث تحل في المرتبة الثالثة بعد فنزويلا والسعودية بين دول أوبك من حيث الأعضاء الأكثر امتلاكًا للاحتياطيات النفطية المؤكدة؛ إذ تستحوذ طهران على حصة قدرها حوالي أكثر من ١٣٪.
ويأتي إنتاج النفط الإيراني وسط ضغوط كبيرة من العقوبات المفروضة على طهران بسبب برنامج طهران النووي، ومنذ عام ٢٠١٨، فاتبع إنتاج إيران النفطي منحنى هبوطيًا، حيث بلغ حوالي ٣٬٥ مليون برميل قبل أن يسجل حوالي ٢٬٣ مليون برميل يوميًا وذلك في عام ٢٠١٩، ويتراجع أكثر في عام ٢٠٢٠ إلى مستوى حوالي ١٬٩ مليون برميل يوميًا، وعادت معدلات الإنتاج الإيراني للصعود مرة أخري وذلك خلال عام ٢٠٢١، حيث وصل إلى حوالي ٢٬٤ مليون برميل يوميًا في المتوسط، وذلك بزيادة حوالي ٤٠٠ ألف برميل يوميًا، عن نهاية عام ٢٠٢٠.
وفي المقابل، بلغ استهلاك النفط حوالي ١٬٧ مليون برميل يوميًا. وعلى جانب آخر، كانت هناك آمال قوية برفع العقوبات عن إيران بعد تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في يناير من العام الماضي، ولكن الموضوع برمته لا يزال في طور التكهنات. وبسبب العقوبات المفروضة قبل الاتفاق النووي الإيراني، واجه إنتاج النفط ومبيعاته قيودًا كبيرًا، ومع تنفيذ الصفقة ورفع العقوبات، وذلك قبل ٥ سنوات تقريبًا، استطاعت طهران من زيادة مبيعات النفط الخام لأكثر من حوالي ٢ مليون برميل في غضون مدة زمنية قصيرة.
وعلى الرغم من أن الدول الكبري المنتجة للنفط الخام تريد عودة طهران تدريجيًا إلى السوق، وأن طهران تريد العودة إلى السوق بكل الطاقة الإنتاجية المتاحة، فإن تلك العودة غير ممكنة دون رفع العقوبات وإبرام اتفاقية إيران الجديدة مع مجموعة (1+4). وتعاني طهران من آثار عقوبات أميركية أعادت واشنطن فرضها بدءًا من ٢٠١٨، وذلك بعد انسحابها الأحادي من الاتفاق بشأن برنامج طهران النووي. وحرمت العقوبات الأمريكية طهران من حوالي أكثر من ١٠٠ مليار دولار من عائدات النفط الخام، ومنعتها من تصدير حوالي ١٬٨ مليار برميل من النفط من أبريل ٢٠١٨ إلى أبريل من عام ٢٠٢١.
موسكو وطهران توافق أم اختلاف
على مدى العقد الماضي، حاولت طهران كثيرًا إيجاد طرق لتفادي العقوبات الأمريكية، وذلك عن طريق بيع النفط إلى بكين، والتي لم تُنفذ العقوبات الأمريكية بشكل كامل، وذلك عن طريق إرسال النفط المُعالج مثل البنزين والأسفلت والبتروكيماويات وغاز البترول المُسال (LPG) إلى الأسواق المختلفة في أفغانستان والهند وتركيا.
وبصفة عامة، يُشكل الصراع بين موسكو وطهران على حصصهما في السوق النفطي العالمي مثالًا واضحًا على الدور الذي تلعبه الحرب الروسية الأوكرانية في أسواق النفط والطاقة العالمية، وبالأخص بعدما خرجت موسكو من الأسواق الغربية، ولكنها تعاود الظهور مرة أخرى في أماكن أخرى وبالتحديد في دول القارة الآسيوية.
وبصفة خاصة، تخوض موسكو وطهران منافسة كبيرة على حجم وأسواق مبيعات النفط والمنتجات والمشتقات النفطية والمعادن في الصين والهند ودول القارة الآسيوية؛ فتبيع موسكو منتجاتها النفطية بأسعار تنافسية تقوض مبيعات طهران، فتمسكت الصين والهند -وهما من أكبر مستهلكي السلع الأساسية على مستوي العالم- بموقف محايد إلى حد كبير في الحرب الروسية الأوكرانية (مبدأ المحايد من أجل عدم تضارب المصالح)، رافضتين الانضمام إلى العقوبات الغربية والموجه صوب موسكو، وواصلتا الشراء وبكميات كبيرة وضخمة من النفط والمنتجات النفطية والمعادن الروسية الرخيصة وذلك على حساب طهران، والتي كانتا تعتمدان عليها في السابق للحصول على منتجات مخفضة السعر. واتسعت حدة المنافسة بينهما عبر دول أخرى في القارة الآسيوية، وامتدت إلى أسواق أصغر، مثل الأسواق التركية.
وقبل بدء الحرب الأوكرانية وحزم العقوبات الموقعة ضد موسكو، أسهمت اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين طهران وبكين في ارتفاع صادرات النفط الإيراني بنحو٨ أضعاف وذلك قياسًا مع الفترة ما قبل الاتفاقية حيث ارتفعت في عام ٢٠٢١ بمقدار بأكثر من ١٩٠٪، وفي عام ٢٠٢٢ ارتفعت بأكثر من ١٦٠٪ قياسًا مع العام السابق. وكل هذه الأرقام على مائدة الحوار بين موسكو وطهران وذلك بسبب وعي إيران جيدًا بإن المنافسة بينها وبين موسكو ستضر بقوة على حجم مبيعات النفط والمنتجات النفطية الأخري والتي تُشكل جوهر جهود النظام الإيراني لمواجهة الضغوط والأزمات الاقتصادية، وأيضًا بقدرة طهران على تجنب العقوبات، مما يعمل على تقليص نفوذها خلال المحادثات النووية المتوقفة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنظر إلى موسكو فنجد إنها تبيع الغاز النفطي المسال (LPG) في الأسواق الآسيوية بسعر مغري ويبلغ حوالي ٣٠٠ دولار للطن، وهو يُشكل ثلث السعر العادي والبالغ حوالي ٩٠٠ دولار، وأيضًا تبيع الديزل بسعر حوالي ٩٠٠ دولار للطن مقارنة بالسعر العالمي والمقدر بحوالي ١٢٠٠ دولار للطن. ومن زاوية أخرى، تُعد الصين أكبر عميل للنفط الخام الإيراني، فقد انخفضت مبيعات طهران من النفط الخام إلى بكين بمقدار حوالي أكثر٥٠٪ ولتصل إلى حوالي أكثر من ٣٩٠ ألف برميل يوميًا، وأيضًا تسبب بيع روسيا للخام المخفض إلى مصافي التكرير الهندية في تعطيل تجار النفط الإيرانيين، حيث حافظت إيران على تجارة شبه سرية من الأسفلت المخفض مع الهند، والآن باتت تتحصل على إمدادات وكميات هائلة من النفط الخام الروسي وذلك بتخفيضات تصل إلى حوالي أكثر من ٤٠ دولارًا للبرميل وذلك مقارنة بالأسعار العالمية.
وبالرغم من التناقض الكبير فيما يخص الجانب الاقتصادي بين موسكو وطهران، لم يتسبب التنافس على حجم مبيعات المنتجات النفطية في حدوث خلاف دبلوماسي واضح بين البلدين، فقد صرح ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء الروسي ورئيس قطاع الطاقة إن موسكو وطهران سيتمكنان من تجنب العقوبات الغربية والأمريكية من خلال العمل معًا، وهذا ما يساعد في فهم زيارة الرئيس الروسي بوتين الحالية إلى طهران؛ إذ تخطط موسكو وطهران لتعزيز تجارتهما لحوالي عشرة أضعاف الأرقام الحالية، ولكي تصل إلى نحو ٤٠ مليار دولار سنويًا، وذلك من مستوى ٤ مليارات دولار في عام ٢٠٢١.
قمة طهران ودوافع سياسية واقتصادية عديدة
وبصفة عامة يمكننا أن نستلخص أهم دوافع القمة الروسية الإيرانية التركية في طهران، في:
- السعي الروسي الإيراني إلى تجنب العقوبات الغربية الأمريكية على النفط.
- موسكو جادة ومجبرة في نفس الوقت في توسيع علاقاتها الاقتصادية مع طهران وأن التخطيط لهذا الهدف سيكون على رأس جدول أعمال بوتين في إيران.
- وفيما يخص شركات النفط الروسية، فأصبح أمامها القليل من الخيارات المتاحة، إذ باتت صهاريج تخزين النفط الخام والوقود الفائض ممتلئة في روسيا وهولندا، فإن هذه الشركات بحاجة إلى بيع النفط الموجود لديهم، ولذلك من المتوقع أن تتطرق المبحاثات حول كيفية خلق أو التعاون حول أسواق جديدة للنفط الروسي الإيراني.
- تُشكل الحرب الروسية الأوكرانية نقطة التجاذب الأساسية في الوقت الحالي بين موسكو من جهة، والدول الغربية من جهة أخرى، وبالأخص الولايات المتحدة الإمريكية وحلف شمال الأطلسي والذي تنتمي إليه تركيا، ومرتبطة بشكل مباشر بالوضع العام الذي كرسته الحرب الأوكرانية والمواجهة القائمة مع الغرب.
- سعي موسكو إلى تشجيع طهران على ضرورة إحياء الاتفاق النووي والذي انسحبت منه واشنطن في عام ٢٠١٨ وذلك رغبة منها في تفادي التصعيد بين إيران ودول المنطقة.
- استضافت إسطنبول الأسبوع الماضي مباحثات بين موسكو وكييف لكسر الجمود في تصدير الحبوب من أوكرانيا الذي تسبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا، لا سيما في ظل تزايد أسعار الطاقة بسبب العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا ردًا على الغزو، وهذا يُفسر الحضور التركي في القمة الروسية الإيرانية من أجل إمكانية لعب دور الوسيط.
- التنسيق الروسي مع الشريكين الإيراني والتركي حول كيفية التعامل مع الجانب الأمريكي في سوريا، خلال المرحلة المقبلة.
- سعي الرئيس التركي إلى الحصول على الموافقة الروسية الإيرانية بشأن العملية العسكرية المتوقعة والهادفة إلى إقامة منطقة آمنة بعمق ٣٠ كيلو مترًا داخل الأراضي السورية لاستكمال الحزام الأمني للحدود الجنوبية التركية.
مجمل القول، علاقة موسكو وطهران من أجل المصالح وبناء سد لمواجهة العقوبات الغربية الأمريكية، ولكن أصبحت مسألة اصطفاف موسكو مع طهران فكرة مثيرة للانقسام داخل المجتمع الإيراني؛ إذ لا يثق الكثير من الإيرانيين بموسكو والتي احتلت الأراضي القوقازية التابعة للإمبراطورية الفارسية، مثل أذربيجان في القرن التاسع عشر، وتدخلت في الشؤون الإيرانية حتى الأربعينيات، ولدرجة جعلت بعض المسؤولين التنفيذيين الإيرانيين يخرجون في تصريحات علنية بإن الشراكة مع روسيا قد تُضر بمجتمع الأعمال في البلاد.
ولكن ومن زواية أخري، تُعد سياسة خلق وفتح وإيجاد أسواق جديدة ومناسبة لبيع النفط الخام ومنتجاته المختلفة من أنسب الطرق لبيع النفط الخام وبشكل آمن وذلك في ظل حزم العقوبات والتقلبات الحادة السعرية والتي تشهدها أسواق النفط العالمية، فعندما تدخل دولتان في مثل هذا النوع الشراكة والتعاون، تصبح تجارة النفط الخام ومشتقاته المختلفة وحاملات الطاقة في ذيل هذه الشراكة. وبصفة خاصة موسكو وطهران باتباعهما سياسة خلق أسواق جديدة لنفطها، يمكنهما أيضًا أن يقوما بخفض بيع نفطهما الخام والعمل على زيادة بيع المنتجات والمشتقات النفطية والبتروكيمياوية.
.
رابط المصدر: