اتجاه العالم نحو الطاقة النظيفة والمتجددة، يعني انخفاض أهمية النفط في الاقتصاد العالمي وهذا ما سيجعل الاقتصادات النفطية في موقف لا يُحسد عليه خصوصاً التي تعتمد على النفط بشكل كبير الآن ولم تفكر في مستقبل تتضاءل أهمية النفط فيه كما هو حال العراق…
هناك علاقة وثيقة بين النفط والاقتصاد العالمي، في الوقت الحاضر؛ لكنها ستكون أقل في المستقبل، بفعل توجه العالم نحو الطاقة النظيفة؛ مما سيجعل الاقتصادات النفطية في موقف لا تحسد عليه.
حيث يعتمد الاقتصاد العالمي على النفط الخام بنسبة كبيرة، إذ لا يزال الوقود الاحفوري يمثل 80% من انتاج الطاقة العالمي[i].
وأصبح سلعة استراتيجية نظراً لدخوله في العلاقات الدولية، أي ان الدول اخذت تعمل علاقات مع الدول التي تمتلكه وعلى مختلف المجالات، واستخدامه كسلاح من قبل الدول المنتجة له.
استخدم النفط كسلاح من قبل الدول العربية عام 1973 ضد الدول المتحالفة مع اسرائيل في الحرب العربية–الاسرائيلية، والتي تسببت في ارتفاع اسعار النفط بشكل كبير ومفاجئ عرفت ب”صدمة النفط الاولى”، وبعدها لجأت الدول المستهلكة للتفكير في تقليص اعتمادها على النفط الخام لجنب الصدمات واثارها.
جذور التحول واتفاق باريس
وبالفعل تم انشاء وكالة الطاقة الدولية عام 1974 واخذت على عاتقها دراسة الطاقة وكيفية تأمينها بأسعار معقولة ومستدامة، وبمرور الوقت أخذت الآثار الوخيمة المرافقة لإنتاج واستخدام النفط بالتزايد، حتى اعتبر الوقود الاحفوري السبب الرئيس لتغير تغير المناخ، من قبل الامم المتحدة؛ وحثت الدول على تحول الطاقة.
اجتمعت الدول (193 دولة) عام 2015 في باريس للاتفاق على مواجهة تغير المناخ والذي عُرف باتفاق باريس الذي يهدف الى التزام الدول الاعضاء في تخفيض الانبعاثات بنسبة 45% عام 2030، وصولاً لتصفيرها عام 2050 لضمان عدم زيادة درجة الحرارة أكثر من 1.5 درجة[ii].
عملت دول العالم على وضع العديد من السياسات الوطنية الرامية لاعتماد الطاقة المتجددة في سبيل تقليل الانبعاثات والحد من ارتفاع درجة الحرارة والحفاظ على المناخ، بلغ عددها أكثر من 1265 سياسة سارية المفعول[iii] وتختلف نوعياً (تمويل، ضرائب، تشريع وهكذا) وجغرافياً (اوربا، اسيا والمحيط الهادي، وهكذا)، وقطاعياً (توليد الطاقة، النقل، التدفئة والتبريد وهكذا) وزمنياً لكن اقصاها كان لعام 2050 العام الصفري للانبعاثات.
انخفاض وارتفاع متعاكس
وعلى هذا الاساس انخفاض الاستثمار السنوي في الوقود الاحفوري من 1.3 تريليون دولار عام 2015 الى 1.1 تريليون دولار، وبالمقابل ارتفع الاستثماري السنوي في الطاقة النظيفة من 1.1 تريلون دولار عام 2015 الى 1.8 تريليون دولار عام 2023، علماً ان مسار صافي الانبعاثات يتطلب زيادة هذا المعدل الى اكثر من 4.5 تريليون دولار[iv].
الاستثمار السنوي في الوقود الأحفوري والطاقة النظيفة 2015-2023
المصدر: وكالة الطاقة الدولية.
مبيعات السيارات الكهربائية
يُمكن القول ان هذا الاستثمار -وعلى الرغم انه لم يكن بمستوى الطموح إلا أنه-انعكس على الواقع وإن لم يكُن بالشكل المطلوب بسبب التحديات إلا ان العالم سائر بهذا الاتجاه، كما موضح في الشكل أعلاه؛ حيث تشير البيانات ان عدد مبيعات السيارات الكهربائية تطور بشكل كبير، حيث ارتفع من 600 الف سيارة عام 2015 الى 13.8 مليون سيارة عام 2023، أي ارتفع 22 ضعفاً؛ وحسب سيناريو السياسات المعلنة من المتوقع أن يكون 38 مليون سيارة عام 2030 وكما موضح في الشكل أدناه.
مبيعات السيارات الكهربائية في سيناريو السياسات المعلنة 2015-2030
المصدر: وكالة الطاقة الدولية.
قدرات الطاقة الشمسية الكهروضوئية
وعلى مستوى اضافة قدرات الطاقة الشمسية الكهروضوئية، فقد ارتفعت من 50 كيكا واط عام 2015 الى 349 كيكا واط عام 2023، أي قرابة ستة اضعاف؛ وسيناريو السياسات المعلنة تتوقع أن تبلغ 498 كيكا واط عام 2030.
إضافات قدرات الطاقة الشمسية الكهروضوئية في سيناريو السياسات المعلنة، 2015-2030
المصدر: وكالة الطاقة الدولية.
قد لا تعطي الارقام أعلاه الصورة الكاملة عن تحول الطاقة في العالم، ومن المؤكد ان طريق التحول لم ولن يكن سلساً، لأنه يحتاج لثلاثة نقاط مهمة وهي التزام جميع الاطراف بسياسات التحول نحو الطاقة النظيفة، توفير التمويل اللازم لذلك التحول، وتوفر المواد البديلة الحيوية دون احتكارها خصوصاً وأنها أكثر تركزاً من النفط.
فعلى سبيل المثال، ان ثلثي الكوبالت العالمي (يستخدم في البطاريات التي تستخدم في السيارات الكهربائية) يُستخرج حصرياً من جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويسيطر أكبر ثلاثة منتجين للنيكل والليثيوم على أكثر من 60% من المعروض وبالمقارنة فإن النفط يتسم بتنوع أكبر[v].
إلا ان التحول مسألة حتمية، اليوم أو غداً؛ لانه اذا لم ينفد النفط فان تغير المناخ وآثاره السلبية يحتم ذلك، وهذا ما تعمل عليه الدول، خصوصاً المتقدمة والمستهلكة؛ كما اتضح في عدد السياسات أعلاه.
إذن اتجاه العالم نحو الطاقة النظيفة والمتجددة، يعني انخفاض أهمية النفط في الاقتصاد العالمي وهذا ما سيجعل الاقتصادات النفطية في موقف لا يُحسد عليه خصوصاً التي تعتمد على النفط بشكل كبير الآن ولم تفكر في مستقبل تتضاءل أهمية النفط فيه كما هو حال العراق.
ارقام نفطية ومؤشرات اقتصادية
حيث يعتمد العراق على النفط في تمويل اقتصاده، بحكم امتلاكه احتياطي نفطي كبير، بلغ أكثر 145 مليار برميل؛ وزيادة انتاجه ليبلغ أكثر 4.4 مليون برميل يومياً، وزيادة صادراته لتبلغ أكثر من 3.7 مليون برميل يومياً عام 2022 حسب بيانات أوبك.
هذا الارقام انعكست على المؤشرات الاقتصادية، حيث يشكل النفط أكثر من 57% (تقديرات اولية فصلية) من الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية، وأكثر من 95% من الايرادات العامة، وأكثر من 99% من اجمالي الصادرات عام 2022، حسب بيانات البنك المركزي العراقي.
هذه الارقام والمؤشرات توضح مدى اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط الذي تسبب، نتيجة ضعف المؤسسات[vi]؛ في مشاكل عديدة ليست موضوع المقال[vii]، والذي سيضع الاقتصاد العراقي مستقبلاً في موقف حرج في ظل استمرار ضعف المؤسسات وتراجع أهميته الاقتصادية عالمياً.
وما زيد الأمر سوءً هو تعداد السكان الآخذ بالتزايد، حيث ازداد من 7 مليون نسمة عام 1960 إلى قرابة 45 مليون نسمة عام 2022 حسب بيانات البنك الدولي، ومن المتوقع أن يصل إلى أكثر من 51 مليون نسمة عام 2030 حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء.
تدارك المشهد القاتم
إذن كيف سيكون مشهد الاقتصاد العراقي في ظل انخفاض أهمية النفط عالمياً بفعل تحول الطاقة وتزايد تعداد سكانه؟ سيكون مشهداً قاتماً بلا شك في حال عدم تدارك الأمر من الآن.
ولأجل تلافي الوقوع في هذا المشهد، يتطلب من الجميع (الجامعات، مراكز الابحاث، منظمات المجتمع المدني، السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، الاعلام…) العمل على وضع الاقتصاد العراقي على الطريق الصحيح وإلا كلما يسير بما هو عليه الآن سيزداد المشهد قتامةً.
يُمكن القول من الخطوات المهمة في وضع الاقتصاد العراقي على الطريق الصحيح الآتي:
اولاً: تفعيل الدور الاشرافي والتنموي للدولة في الاقتصاد العراقي، لا الدور الحيادي ولا الدور الانتاجي.
ثانياً: توظيف الايرادات النفطية في البنية التحتية، لان النفط ثروة عامة والجميع سيستفيد من البنية التحتية.
ثالثاً: فتح الباب أمام القطاع الخاص من خلال عمل بيئة اعمال سهلة وجاذبة ومنع الفساد ومكافحته.
رابعاً: حوكمة المؤسسات العامة (خدمية، انتاجية، تمويلية) لتكون مؤسسات واضحة وشفافة ورصينة بذاتها ولغيرها.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/38101