يُعد موقف السودان تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية واحدًا من بين المواقف التي تشوبها الضبابية والازدواجية، ما بين التأكيدات المستمرة على أهمية الحل الدبلوماسي والحوار السياسي لمعالجة مسببات التصعيد العسكري الروسي الأوكراني، وما بين تزايد خط التفاعل السوداني الروسي في الفترة الأخيرة تكلل بزيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني “محمد حمدان دقلو” إلى موسكو أواخر فبراير 2022، ليخلق وضعًا ملتبسًا حول التفاعل السوداني مع تلك الأزمة.
وبالرغم من إعلان وزير الخارجية السوداني “على الصادق” بأن تلك الزيارة كان من المقرر أن تتم قبيل اندلاع الأزمة الأوكرانية بغرض بحث أوجه التعاون الثنائي بين البلدين، إلا أن لها أصداءً واسعة في ظل التأويلات المختلفة حول موقف السودان من الأزمة الروسية الأوكرانية.
موقف مُشتت
إن السودان اتخذ موقفًا مماثلًا لباقي دول العالم وهو النأي بالنفس عن الانخراط والاصطفاف مع طرف دون آخر، وهو الموقف الرسمي الذي اتخذه مجلس السيادة الانتقالي في السودان منذ اندلاع الأزمة، بيد أن التحركات الخارجية تبرز أن هناك انحيازًا نسبيًا للموقف الروسي في ذلك المشهد المعقد، وتجلى في زيارة “حميدتي” إلى موسكو يوم العملية العسكرية وإطلاق تصريحات تُرسخ حق روسيا في الدفاع وحماية شعوبها.
ولقد شهد السودان مثله مثل باقي دول المنطقة العربية والإفريقية ضغوطًا أوروبية من جانب سفراء الاتحاد الأوروبي لاقتناص موقف داعم لأوكرانيا في خضم أزمتها مع روسيا وإصدار موقف لإدانة العملية العسكرية الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، إلا أن الخرطوم لم تنجرف إلى هذا المسار وأكدت على أهمية الحوار والدبلوماسية لحل تلك الأزمة وإن كانت ظاهريًا تبدو أقربًا لموسكو في إطار تفاعلها مع تلك الأزمة.
واتبع السودان نهج الرفض والامتناع عن التصويت لانتزاع قرار أممي إبان جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة روسيا في عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا، وآخرها الجلسة المنعقدة في الثاني من مارس 2022، وهو أمر يُكرس من فكرة الانحياز الشكلي لروسيا في إطار تلك الأزمة.
أبعاد وتداعيات متباينة
بالنظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية يمكن القول إن هناك تداعيات سلبية سوف تُلقي بظلالها على السودان الذي يعاني من وضع سياسي واقتصادي متأزم؛ إذ إن السودان كغيره من دول المنطقة سوف يتأثر بتذبذبات الأسعار العالمية الخاصة بالطاقة، وكذلك في ضوء أمنه الغذائي في ظل الاستيراد للسلع الاستراتيجية الخارجية، وهو ما يسبب ضغطًا على الاحتياطيات النقدية لتوفير تلك السلع الاستراتيجية، ولعل الأوضاع المالية تشهد حالة من التأزم في ظل توقف المساعدات الدولية على خلفية مسار تصحيح الوضع الداخلي في أكتوبر 2021.
بينما هناك تبعات ناجمة عن زيارة “حميدتي” إلى موسكو والتي تصب في إطار مساعي سودان ما بعد البشير إلى هندسة شبكة التحالفات الخارجية خاصة مع روسيا والصين للحصول على الدعم السياسي والاقتصادي والمال وكذلك الأمني والعسكري، ولعل تلك الزيارة جاءت في ضوء توقيت حرج للغاية وتعكس أبعادًا وانعكاسات متباينة يمكن توضيحها في الآتي:
- إرباك المشهد الداخلي وخلط الأوراق: إن تلك الزيارة في ظل حالة الترقب العالمي جراء تلك الأزمة زادت من حدة التجاذبات الداخلية في إطار المشهد السياسي المُعقد، والبناء على تلك الزيارة من أجل توجيه ضربات داخلية لمجلس السيادة الانتقالي، والاستقواء بالخارج في إطار سياسة خلط الأوراق. وبرز ذلك في المواقف الحزبية الداخلية؛ فقد عدّ تجمع المهنيين أن تلك الزيارة بمثابة تكرار لمواقف الرئيس السابق للسودان “عمر البشير” والوقوع في مسار الاستقطاب والانحياز، وهو ذات الرأي للحزب الشيوعي السوداني الذي رأى أن هذا التحرك لا يختلف كثيرًا عن التوجهات الخارجية للسودان خلال فترة “البشير”.
في حين رأت تكتلات أخرى مثل “قوى الحرية والتغيير” أن تلك الزيارة تبرز الانقسام داخل المكون العسكري، وتوضح حالة تجاذب بين أطراف مجلس السيادة، وهو ما عبر عنه “شهاب الدين الطيب” القيادي بقوى الحرية والتغير، علاوة على توصيف تلك الزيارة بالمخالفة للأعراف الدولية والمعايير الدبلوماسية، وهو الأمر الذي حذر منه حزب الأمة القومي وحزب الإصلاح والتجديد بأن تلك الزيارة ستدفع السودان إلى تعقيد أزمته الداخلية، علاوة على أنه خطوة في نفق مظلم.
- الاستقطاب والانحياز: إن تلك الزيارة وإن كان تبريرها من جانب الخارجية السودانية على أساس كونها زيارة مُعد لها سلفًا، غير أنها باتت تُصنف على أساس من الانحياز والاستقطاب للجانب الروسي في إطار هذا المشهد المعقد، ومن المحتمل أن تزيد تعقيدات العلاقة الأوروبية والأمريكية مع الجانب الروسي، خاصة مع تقرير الاستخبارات الأمريكية السنوي عن مساعي روسيا لمزاحمة وتهديد مصالح أمريكا وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على حساب القيادة الأمريكية، وذلك بهدف تقديم نفسها كوسيط لا غني عنه وتوطيد الشراكات الاقتصادية والعسكرية في تلك المناطق تخفيفًا لحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة من جانب الغرب على روسيا على ضوء الأزمة الأوكرانية، ومن ثٌم فإن تلك الزيارة سوف تؤثر على الوعود الخاصة بإعفاء ديون السودان ووعود الاتحاد الأوروبي بخصوص دعم الاقتصاد السوداني.
- اقتناص الفرص وتحويل مسار التفاعل: في ضوء الموقف الحرج الذي يربط بين الغرب والسودان في أعقاب تحولات المشهد مطلع أكتوبر 2021 وما تبعه من إقالة حكومة “عبد الله حمدوك” والإجراءات التصعيدية الغربية من بينها توقف المساعدات المالية الأمريكية للخرطوم، اتبع السودان نهج المباغتة عبر التوجه لتعزيز تفاعلاته مع موسكو، خاصة وأن الإجراءات التي اتخذها المكون العسكري أكتوبر الماضي لاقت استحسانًا روسيًا، ووصفتها بأنها انتقال للسلطة، إلى جانب استغلال الاحتياج الروسي للموارد الطبيعية التي يحظى بها السودان ورغبتها في تأسيس قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وذلك لإيجاد البديل الاستراتيجي، خاصة في ظل تراجع الدعم الغربي للسودان.
ولعل هذا الهدف ليس ببعيد عن المشهد الداخلي× إذ برز خط يُرسخ لفكرة التعامل الأمني والعسكري مع الحركات الداخلية في السودان وفرض سيطرة شاملة على السلطة، وهو ما أعلنته الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو وكذلك حركة جيش تحرير السودان بقيادة “عبد الواحد النور” بأن هناك مسارًا لتوظيف الزيارة الخاصة بــ “حميدتي” لموسكو من أجل تعزيز التسليح والسيطرة على مناطق وجود تلك الحركات وتحديدًا في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، والعمل على ترتيب المشهد الداخلي بما يحقق مصالح المكون العسكري، ودللت الحركتان على ذلك النهج بمساعي حميدتي منذ شهرين لتطويق محيط مناطق سيطرة الحركة في مناطق الجبال الشرقية والغربية ومدينة الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق.
ختامًا؛ يمكن القول إن هناك تناقضًا واضحًا بين التوجهات الداخلية السودانية حيال الأزمة الروسية الأوكرانية، فبينما تنتهج الدولة سياسة الحياد والارتهان لمبادئ الأمم المتحدة واعتماد الحوار كوسيلة جوهرية لحل الأزمة الدائرة، وهو ما برز بصورة جلية في مخرجات اجتماع مجلس السيادة السوداني والذي أكد على أهمية الحلول الدبلوماسية للأزمة الراهنة ودعم الحل السلم، جاء التحرك الخارجي ليُمثل شكليًا انحيازًا للطرف الروسي، وهو ما برز في زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق “محمد حمدان دقلو” إلى موسكو في الرابع والعشرين من فبراير 2022، وتأكيده على حق روسيا في حماية شعوبها، وهي بمثابة تناقضات في البيت الداخلي السوداني، وتأزم من الشراكات السودانية الأوروبية خاصة في ضوء الوضع السياسي المعقد داخليًا.
ولعل تلك الزيارة ربما تدفع إلى مزيد من التعقيدات الداخلية على المشهد السياسي في حالة الرفض من جانب المعارضة السودانية وعلى رأسها تجمع المهنيين، بجانب أنها تكرس لمبدأ المواجهة المسلحة والذي برز في تخوفات كل من حركة “عبد العزيز الحلو” وحركة “جيش تحرير السودان” من مساعي “حميدتي” لفرض سيطرته على مناطق وجود تلك الحركات، وهو ما يُنذر بتصعيد عسكري محتمل داخل السودان. الأمر الآخر فإن حالة الانقسام الداخلي ربما تُفضي إلى ضغوطات أوروبية وأمريكية على المكون العسكري، مع توسيع تحالفاتها العرضية مع القوى المدنية المعارضة داخليًا مما يقلب موازين المشهد كليًا.
.
رابط المصدر: