أفريقيا والوجه الآخر للتنافس الروسي الغربي

 شيماء البكش

 

بينما تتجه كافة الأنظار نحو المواجهة الروسية مع الغرب على الساحة الأوكرانية، فإن تنافسًا تتشكل ملامحه على نحوٍ هادئ في القارة الأفريقية. برزت تجليات ذلك التنافس بداية مع استراتيجية الأمن القومي للرئيس الأمريكي السابق “ترامب” الذي ركز على تحجيم النفوذ الصيني والروسي في القارة كأبرز التحديات التي تهدد المصالح الأمريكية في أفريقيا، بدلًا من السياسة السابقة التي كانت قائمة على مكافحة الإرهاب.

ومؤخرًا عكس التصعيد الروسي – الفرنسي في مالي حدة الأزمة المشتعلة تحت السطح، مع توجيه الرئيس الفرنسي “ماكرون” الاتهامات للدور الروسي الخبيث في البلاد، الذي من شأنه تقويض نظيره الفرنسي، بعد ما شهده من تصاعد حدة الرفض الشعبي للدور الفرنسي الذي أخفق في مكافحة الإرهاب، وتصاعد مؤشرات ترحيب الحكومة في مالي بدور روسي بديل في تقديم خدمات الأمن والمساعدة في مكافحة الإرهاب.

روسيا واستراتيجية البحث عن النفوذ

في إطار المساعي الروسية لإعادة التموضع عالميًا كجزء من استراتيجية إعادة بناء المكانة والدور بعد الانحسار الروسي على الساحة الدولية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي؛ بدأ يتنامى الإدراك الروسي بأهمية الولوج إلى القارة الأفريقية، للبحث عن مناطق نفوذ استراتيجية جديدة.

وترجمة لتلك الرؤية، تنامى الوجود الروسي في القارة مطلع الألفية الحالية، حيث جاءت القارة الأفريقية واحدة ضمن المناطق ذات الأولوية بالنسبة للسياسة الخارجية الروسية، وإن لم تكن تحتل الصدارة، إلا أنها أصبحت مدرجة على أجندة السياسة الخارجية الروسية. تنامى الدور الروسي تدريجيًا في القارة، وركز على الجوانب الأمنية بشكل أعمق من غيرها من الجوانب الاقتصادية.

أدت تلك الاستراتيجية إلى احتلال روسيا مركز الصدارة في مبيعات السلاح بالنسبة للقارة الأفريقية، إذ وجت روسيا في القارة سوقًا جاذبة لمبيعات السلاح وغيرها من الجوانب والأدوار الأمنية بما في ذلك اتفاقيات التعاون العسكري مع الحكومات والأنظمة التي وجدت في روسيا بديلًا جاذبًا عن شركاء أفريقيا التقليديين بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

في هذا الجانب، أصبحت روسيا أكبر مصدّر للأسلحة لأفريقيا، لتمثل نحو 49% من إجمالي صادراتها إلى القارة، هذا فضلًا عن توقيع نحو 19 اتفاقية عسكرية في الفترة ما بين عامي 2015 2019. وعلى الجانب الآخر، وظفت روسيا شركتها العسكرية فاجنر في أغلب الدول الأفريقية التي تعج بالصراع، بالتنسيق مع الحكومات والأنظمة الحاكمة التي تطلب الدعم من روسيا، مقابل امتيازات في التعدين واستغلال الموارد الطبيعية للدول الأفريقية.

وتجلى ذلك الدور بوضوح في السودان، مع حصول البشير على الدعم الروسي عبر شركة فاجنر عام 2018، وتكرر الأمر في أفريقيا الوسطى، وفقًا لمطلب رئيسها أرشانج تواديرا، لمواجهة متمردي بلاده والسيطرة على العملية الانتخابية، وبالمثل شهدت موزمبيق تدخل فاجنر ضد تنظيم داعش في شمال البلاد. والدولتان الأخيرتان هما مناطق نفوذ فرنسي، أثبت التدخل الروسي فيها عجز الدور الفرنسي عن دعم حلفائه التقليديين وفشل مقاربته الأمنية.

وتكرر المشهد مؤخرًا في كل من تشاد ومالي، فقد أظهرت التقارير تدخل فاجنر في تشاد لدعم المتمردين ضد الحكومة، فضلًا عن الشكوك حول تدريب العناصر التي قتلت الرئيس التشادي إدريس ديبي على أيدي عناصر من جماعة فاجنر. ومع تمدد المرتزقة في جنوب ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، اتجهت حكومة مالي إلى التعاقد معها لتوفير الأمن بعد الانسحاب الفرنسي، بل جاءت المطالب الشعبية بالتدخل الروسي على حساب الانسحاب الفرنسي، على نحوٍ ينذر بفصل جديد من المواجهة على حساب البلدان الأفريقية.

والمفارقة الصادمة للدور الفرنسي هي ترحيب الحكومات الأفريقية بالتعاون الروسي؛ ففي قمة سوتشي، دعا رئيس بوركينا فاسو روك، مارك كريستيان كابوري، روسيا للمشاركة في قمة المنظمة الإقليمية لتجمع دول الساحل الخمس لمواجهة الإرهاب. وأشاد الرئيس الموريتاني، محمد ولد الغزواني، أثناء وجوده في سوتشي، بروسيا لنهجها المتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، ودعا إلى تشكيل تكتل روسي أفريقي في مواجهة النزعات التدخلية في النظام الدولي.

روسيا ومأزق النموذج البديل

يبدو مما سبق أن هناك تناميًا للدور الروسي في المجال الأمني والعسكري؛ بهدف تأمين مجموعة من المصالح الاستراتيجية، إلا أن هذا الدور يواجهه العديد من العقبات:

  • دبلوماسية أحادية الجانب:

لعل أولى العقبات التي تواجه الدور الروسي تتصل بأحادية النهج الذي تتبعه في تعاطيها مع الدول الأفريقية، فوفقًا للمصلحة الروسية، فإن المدخل الأمني يبدو أكثر تناسبًا مع قدراتها وطبيعة سياستها الخارجية، إلا أنه لا يزال نهجًا قاصرًا، حتى وإن كان يتم توظيف البعد الأمني والعسكري لصالح السياسي والاقتصادي.

ويبدو أن روسيا توظف المدخل الأمني لتحقيق مصالح اقتصادية ترتبط بمبيعات السلاح، والحصول على امتيازات للتعدين في الدول الغنية بثرواتها المعدنية، وهو مدخل يبدو منطقيًا وجذابًا، إلا أنه على الجانب الآخر لا يبدو أكثر جاذبية بالنسبة للشعوب الأفريقية التي ترى في ذلك النهج استغلالًا يفوق ما تحصل عليه الحكومات من خدمات أمنية.

فعلى الرغم من تصدر روسيا قائمة الدول الأكثر مبيعًا للسلاح في أفريقيا، إلا أنها على الجانب الآخر لا تزال تحقق أرقام ضئيلة في نسب التبادل التجاري مع القارة؛ فحتى عام 2018، بلغ حجم التبادل التجاري الروسي مع الدول الأفريقية نحو 20 مليار دولار. إلا أن هذا الميزان قابل لإعادة التوازن في ضوء مؤشرات وعوامل عدة، منها جاذبية الأسواق الأفريقية كمنفذ روسي من العقوبات الدولية عليها. بجانب أن اتجاه روسيا مؤخرًا لتدشين مؤتمر للقمة الروسية الأفريقية قد يكون بداية لنهج روسي جديد متعدد الأبعاد، رغم سيطرة الاتفاقيات الأمنية على أجندة القمة الأولى 2019.

ولعل سيطرة الجانب الأمني على التدخلات الأوروبية هي الأخرى، جعل من النموذج الروسي منافسًا على قدر من التأثير، إلا أن ضعف الجوانب الاقتصادية والإنسانية يجعل من النموذج الروسي ورقة بديلة ضمن بدائل متعددة، ولا يعني التراجع الغربي نفوذًا روسيًا، فقد تفوقهما الصين في ذلك المضمار.

  • هشاشة العلاقة الزبائنية:

استندت الأدوار الروسية إلى تقديم الخدمات الأمنية والدعم للحكومات الاستبدادية القائمة لصالح الحصول على ثروات وموارد البلاد، وكذلك فتح سوق جديدة لبيع السلاح، وهي علاقة برجماتية لا تتسق مع قواعد الدبلوماسية الراسخة والعلاقات الاستراتيجية الممتدة. فعلى الرغم من كونها خالية من ذلك الإرث الاستعماري المشين، إلا أنها لم تستطع توظيف نموذج جاذب على المدى البعيد، بل إن وجودها بالأساس قائم على علاقة زبائنية، تليق بتقديم خدمة مقابل عائد، وليست علاقات استراتيجية بين دول ذات ثقل استراتيجي وتعاون متعدد الأبعاد.

وعلى الرغم من أن الأخطاء الاستراتيجية التي ترتكبها روسيا، يقع فيها الكثير من شركاء القارة الآخرين، إلا أنهم يمتلكون من الرصيد التاريخي ما يجعلهم أكثر معقولية من أدوارها الأمنية الحصرية، حتى وإن كانوا يقومون باستغلال ونهب ثروات القارة، إلا أنهم يسعون إلى تعزيز صورتهم عبر أدوات ناعمة لم تلتفت إليها روسيا بالقدر المعقول.

ولعل هذا الأمر اتضح بشكل كبير في نماذج مؤتمرات القمم؛ إذ شهد عام 2019، الذي انعقدت فيه القمة الروسية، أكبر عدد من القمم ذلك العام، بما أكد الأهمية الاستراتيجية للقارة، وفرض تحديًا على شركائها بعدما بات أمام القارة بدائل استراتيجية للمفاضلة بينها.

ويفرض هذا الواقع على روسيا أهمية إعادة النظر في علاقاتها الاستراتيجية مع القارة، مع أهمية صياغة استراتيجية متكاملة تليق بحجم علاقاتها مع أفريقيا، خاصة في ضوء المساعي الروسي لإعادة بناء مكانتها الاستراتيجية، وفي ضوء خفوت نجم شركاء أفريقيا الأمنيين، وإن كان ذلك لا يزال يمثل عامل جذب لممارسة روسيا أدوارًا بديلة في ضوء التراجع الأمريكي والأوروبي في القارة.

ويبدو مما سبق، أن التموضع الروسي في القارة ما زال قيد التشكل، ولم يترسخ نفوذه بعد، ناهيك عمّا يلاحق هذا الدور من سمعة خبيثة قد تضعف من جاذبية النموذج مثلما الحال في النموذج الصيني، والأمر نفسه لا ينتفي عن الغرب، على النحو الذي يفرض على الحكومات والشعوب الأفريقية إعادة صياغة خياراتهم الاستراتيجية بما يحقق متطلبات التنمية الأفريقية، وكذلك المصلحة الأفريقية، لكننا لا زلنا بعيدين عن هذا النهج، طالما ابتعدت الحكومات عن مبادئ الحكم الرشيد، واستمرت الصراعات والاضطرابات المسيطرة على المشهد الأفريقي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/68181/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M