تشكَّلت الحكومة العراقية الجديدة في نوفمبر 2022 إثر انسحاب التيار الصدري بشكل كامل من المشهد السياسي، وهو ما أعطى حينها “الإطار التنسيقي” – وبشكل خاص القوى الراديكالية فيه – الدور المؤثر في رسم ملامح عمل هذه الحكومة. لذلك بدأ تنظيم “عصائب أهل الحق” بمحاولة استغلال الفرصة لتعزيز نفوذه، واختراقه البنية الأساسية للدولة العراقية، وذلك بهدف تعزيز مكانته الاقتصادية، وقدراته المالية، ومن ثم تحسين موقفه في الانتخابات المقبلة. وبالمقابل، شعرت الإدارة الأمريكية بالقلق من هذه التطورات التي عَدَّتها دليلاً على اتجاه العراق نحو مزيد من الخضوع للنفوذ الإيراني.
وبالتالي أصبح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في موقف حرج بين إرضاء واشنطن، التي يحتاج دعمها من أجل تحقيق حكومته قبولاً دولياً مُعتبراً، أو الاستجابة لإملاءات فصائل “الحشد الشعبي” المقربة من الحرس الثوري الإيراني. وفي النهاية، لجأ السوداني إلى اختيار استراتيجية وسطية للتعاطي مع هذه الإشكالية، وقد حقق، حتى الآن، نجاحاً مرحلياً في ذلك، مُستفيداً من الاستقرار النسبي القائم وجو التهدئة الإقليمية.
ملف الأجهزة الأمنية
منذ بداية تشكيل الحكومة الجديدة، أخذت قوى “الإطار التنسيقي” والفصائل المقربة منها في التنافس من أجل الهيمنة على القرار الأمني والمؤسسات التي تمثله. فعلى سبيل المثال، كانت هناك رغبة لدى “عصائب أهل الحق” في التحكم بجهاز المخابرات باعتباره أحد مراكز القوة الأساسية في المؤسسة الأمنية، يدفعها إلى ذلك الخشية من تكرار تجربة وصول مصطفى الكاظمي وصعود رئيس للجهاز مقرب من الأمريكيين ومناوئ للفصائل، ومن إسهام هذا الجهاز في تنظيم عمليات الاعتقال والتضييق على حركة المسلحين التابعين للفصائل. كما أن العصائب اتهمت جهاز المخابرات سابقاً بالمساهمة في عملية المطار، وبتزوير الانتخابات، وتأجيج الاحتجاجات في الشارع.
وفي أعقاب ذلك تصاعدت المخاوف من إمكانية حصول ردود أفعال سلبية في واشنطن تجاه هذه التطورات. فالولايات المتحدة تدرك جيداً بأن جهاز المخابرات، الذي شاركت في تأسيسه بعد عام 2003، يعد أحد الأدوات المهمة التي يُمكِن من خلالها تقويض الجهود التي تبذلها إيران للهيمنة على المشهد الأمني العراقي، عبر حلفائها المحليين، ومن ثم فقد سعت للدفع باتجاه الإبقاء عليه بعيداً عن متناول الجماعات الراديكالية التي يمكن أن تستخدمه بطريقة ثأرية تؤجج من خلالها مجدداً الصراع الطائفي وتهدد المصالح الأمريكية.
ومن أجل العمل على تجاوز التحدي بأقلّ قدرٍ من الخسائر، عيَّنَ السوداني نفسه رئيساً لجهاز المخابرات، وفي نفس الوقت استبدل العديد من الشخصيات التي كانت تُحسب على ما يسمى بالحرس القديم في هذا الجهاز، وصُنِّفت بأنها تعمل بالضد من مصالح الفصائل المسلحة. وقد سمح هذا النوع من الحلول الوسطية بتطمين واشنطن من ناحية، وتخفيف حدة ردود أفعال الفصائل المسلحة من ناحية أخرى، مع سعيها لوضع توجهات السوداني وقراراته التي تخص جهاز المخابرات تحت مرصد الرقابة الصارمة.
ملف وزارة المالية
بموازاة تشكُّل ملامح الحكومة الجديدة في العراق، ظهرت مؤشرات حول سعي فصائل الحشد الشعبي -لاسيما “عصائب أهل الحق”- للسيطرة على وزارة المالية. وكان متوقعاً أن يُثير هذا الأمر ردود فعلٍ مهمة في واشنطن، ومن أطراف عراقية أخرى، بما فيها التيار الصدري الذي تمتع بنفوذ واسع في الوزارة، وكذلك “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، الذي سبق أن قاد الوزارة، ولديه ملفات إشكالية معها. وقد دفع ذلك السوداني إلى اعتماد حل وسيط آخر، يكسب به رضا الأطراف المتعددة ذات المصالح المتعارضة، إذ اختار السيدة طيف سامي، وهي تكنوقراط عملت لفترة طويلة في الوزارة، لتكون وزيرة المالية. وكانت طيف سامي قد كُرمِّت مؤخراً من قبل وزارة الخارجية الأمريكية بجائزة المرأة الشجاعة، كما وصفتها السفيرة الأمريكية في بغداد، ألينا رومانوسكي، بأنها “المرأة الحديدية”، مع وجود اعتقاد بأنّها تتمتع بالصرامة اللازمة لمجابهة ضغوطات الفصائل. وكانت سامي شريكاً في الحوارات التي أجرتها الحكومة العراقية أخيراً مع وزارة الخزانة الأمريكية، والتي تُوُّصِل فيها إلى تحديد مسار استراتيجي للتحكم بمزاد الدولار، وآليات إصلاح النظام المصرفي في العراق، فضلاً عن النقاشات حول آليات العمل على تأسيس هوية واضحة للسياسة النقدية في هذا البلد. ويبدو أن الاتفاق على هذا النوع من العلاقة التعاونية بين الوزارتين فيه نوع من الضمان لحماية وظيفة وزارة المالية في حال تعرَّضت لضغوطات كبيرة من قبل الفصائل.
في المقابل، قدَّم السوداني ترضيات أساسية للفصائل المسلحة، مثل الموافقة على تشكيل شركة المهندس التابعة لـ “الحشد الشعبي” كي تمثل غطاءً للمصالح المالية للفصائل، وتُسهِّل عليها التغلغل إلى المفاصل الاقتصادية الرئيسة في البلاد. كما وافق السوداني على مضاعفة عدد منتسبي “الحشد الشعبي” ضمن تخصيصات الموازنة التي أُقِرَّت مؤخراً، بما يمنح الفصائل المزيد من الإمكانية لتجنيد العناصر الجديدة، وتوسيع شبكاتها الزبائنية ومواردها المالية، خصوصاً أن “الحشد الشعبي”، خلافاً لمعظم المؤسسات الحكومية، لا يخضع للرقابة في طريقة انفاقه لموارده.
ملف تهريب النفط
تشعر واشنطن بالقلق المتزايد من عمليات تهريب النفط- المستمرة منذ سنوات- وأثرها في تشكيل اقتصاد كبير للفصائل داخل بنية الدولة العراقية، الأمر الذي حول هذه القضية إلى معيار آخر لتقييم أداء حكومة السوداني، ومدى قدرتها على اتباع خطوات فعالة لمواجهة هذه المشكلة.
وقد لوحظ أن شبكة المنافذ الجغرافية التي تتم من خلالها عمليات تهريب النفط أخذت في التوسُّع منذ عام 2017، بفعل عملية التواطؤ التي تجري بين أطراف حكومية مختلفة مع مُهربي النفط المرتبطين بالفصائل المسلحة، فضلاً عن عجز الحكومات المتعاقبة في مواجهة هذه الأطراف تحت ذريعة أنّ ذلك قد يقود إلى خسائر لا يمكن السيطرة على مخرجاتها. وفي عام 2019 قدَّمت المخابرات الأمريكية تقريراً للحكومة العراقية عن الجهات التي تقوم بعمليات التهريب. كما أنّ مسؤولين أمريكيين أشاروا إلى ضلوع “كتائب حزب الله”، و”عصائب أهل الحق”، و”حركة النجباء” في عمليات التهريب، وطالب أعضاء من الحزب الجمهوري في الكونغرس في رسالة موجهة للرئيس جو بايدن بالضغط على وزير النفط السابق في حكومة الكاظمي لإيقاف عمليات تهريب النفط التي تُسهِّل على إيران خرق العقوبات المفروضة عليها. وفي السياق نفسه، كشف تقرير أمريكي في عام 2022 عن حجم الأموال التي تجنيها هذه المجموعات من عمليات تهريب النفط، إذ قدرها بحوالي 1.4 مليار دولار سنوياً.
وللتعامل مع هذا الملف، اتخذ السوداني مجموعة من الخطوات لتقويض عمليات التهريب. فبعد شهرين من وصوله إلى منصبه، شنّت حكومته حملة واسعة بُغية الإطاحة بأكبر شبكة لتهريب النفط الخام في البصرة، تمكنت فيها من إلقاء القبض على مجموعة من القيادات الأمنية والتجار الذين يعملون في هذا المجال. كما أعلن السوداني في وقت لاحق أنّه يشن حرباً بلا هوادة على مافيات تهريب النفط، واتخذ مؤخراً خطوة إضافية في هذا المسار من خلال غلق ما يسمى بالممرات السوداء في محافظة ديالى، التي يُهرَّب عبرها 30% من هذه المنتجات.
لكن الإعلانات الحكومية، مع ذلك، تجنَّبت الإشارة إلى تورط أي من الفصائل المعروفة، خشية استفزازها أو سحب دعمها السياسي للسوداني، كما هو الحال مع القضية المعروفة في العراق باسم “سرقة القرن”، والتي يُعتقد أنّه تم التواطؤ مع بعض الجهات القضائية من أجل إخفاء دور بعض الفصائل الرئيسة فيها، وتوجيه اللوم بشأنها إلى حكومة الكاظمي حصراً، واستخدامها للتلويح بمحاسبة الكاظمي في حال فكَّر بالعودة إلى ممارسة العمل السياسي في العراق.
الإطار التنسيقي: المستفيد الأكبر في المشهد
في ظل تطورات المشهد العراقي، وخاصة تلك التي أفرزت تحكُّم “الإطار التنسيقي” بالمشهد السياسي، حاول هذا الأخير أن يقدم من داخل منظومته قيادات معتدلة لتولي مهام إدارة الحكومة العراقية، بحيث يمكن من خلالها العمل على إعادة تشكيل مسار العلاقات الشيعية-الأمريكية، واستخدامها واجهات تلطيفية تسمح بامتصاص الضغط الأمريكي، دون تقديم تضحيات واسعة على مستوى مصالح الفصائل والعلاقات مع إيران.
وخلال الأشهر الأخيرة، دفع “الإطار التنسيقي” باتجاه إيقاف أغلب الهجمات التي كانت تقوم بها الفصائل المسلحة ضد السفارة الأمريكية والمصالح الأجنبية في مناطق العراق المختلفة. وحاولت ماكنته الإعلامية توظيف هذا النوع من التحولات في سياسة هذه المجموعات المسلحة عبر الترويج لفكرة التعاطي البراغماتي مع متطلبات المرحلة، ومنْح الحكومة الوقت الكافي للتعاطي مع الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
كما أعلن “الإطار التنسيقي” دعمه لسياسات السوداني في الانفتاح على دول الخليج العربي، والمساهمة في إعادة تطبيع العلاقات ما بين إيران وكل من السعودية ومصر، وإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية. يُضاف إلى ذلك، أخذ السوداني، مدعوماً ببعض أطراف “الإطار التنسيقي”، في التخلِّي عن فكرة الموقع المركزي للعراق في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، التي مثّلت هدفاً معلناً وأحد الركائز الدعائية للفصائل المسلحة في سعيها لالحاق العراق بالمحور الشرقي، ليستخدم بديلاً عنها مشروع “طريق التنمية”، تفادياً على ما يبدو لإثارة سخط واشنطن المتخوفة من التغلغل الصيني في المنطقة.
وفي المحصلة، وجد “الإطار التنسيقي” أنّ من مصلحته العمل على تعزيز توجه رئيس الحكومة وإظهاره بمظهر صانع القرار القوي الذي بمقدوره ضبط إيقاع الفصائل وتعزيز انفتاح العراق على جواره، وبشكل يسمح بتجنُّب المواجهة مع واشنطن في هذه المرحلة، مع انهماك أطراف التحالف الشيعي بتعزيز سيطرتها على مقومات السلطة والتحسب لأي توترات داخلية مقبلة. ويعتقد كثير من المراقبين أنّ اللقاءات العديدة التي أجرتها السفيرة الأمريكية في بغداد مع قيادات في “الإطار التنسيقي” تشكل دليلاً على أن واشنطن باتت تتفهم هذا النوع من التحولات التي أفرزتها السياسة في العراق، وستتعامل بواقعية مع التوازنات التي نجمت عن انسحاب التيار الصدري وتنامي نفوذ “الإطار التنسيقي”.
الاستنتاجات
منذ توليه منصب رئيس الوزراء، واجه محمد شياع السوداني مشكلة إدارة الملفات الشائكة التي تتعارض فيها المصالح والرؤى بين الولايات المتحدة وفصائل “الحشد الشعبي”، الموالية لإيران. فقد أدرك بأن الاصطفاف مع جهة في مواجهة الأخرى سيضعه أمام سيناريو قاتم للغاية؛ فهو لا يرغب بالمواجهة العسكرية المباشرة مع الفصائل التي كانت جزءاً أساسياً من قرار “الإطار التنسيقي” الذي جاء به إلى هذا الموقع المهم. كما أنه كان مدركاً للآثار التي قد تنجم عن إهمال رؤية واشنطن في التعاطي مع هذه الملفات، الأمر الذي قاده إلى اعتماد استراتيجية وسطية ينتج من خلالها حلولاً مرحلية مُرضية لكلا الطرفين.
كما أثبتت تطورات الأوضاع في الأشهر القليلة الماضية، أنّ هناك قناعة في واشنطن بضرورة دعم رئيس الوزراء العراقي لإبقاء ملف المخابرات ووزارة المالية بعيداً عن هيمنة الفصائل، فضلاً عن الخطوات التي اتبعها في تحجيم مشكلة تهريب النفط. ويبدو أن واشنطن تنظر للسوداني بصفته وسيطاً مناسباً لتهدئة التوترات مع الفصائل، ومنعها من التصعيد العسكري مجدداً ضد الوجود الأمريكي في العراق (وسورية)، وهو ما يعكس رغبة إدارة بايدن بأن لا تُستدرج إلى صراع مسلح آخر في العراق، ومنع أي تصعيد قد يضر بإمكانية الوصول إلى اتفاق مع إيران بخصوص الملف النووي. ومع ذلك، لا تزال هنالك مخاوف بأن تمضي الفصائل في توسعة دورها الاقتصادي والمالي، الذي تمارسه من أجل الاستيلاء على الدولة العراقية.
وفي حال فقد السوداني القدرة على التحكم بسلوك الفصائل المسلحة، فإنه سيكون أمام مشكلة كبيرة تتعلق بمستقبله السياسي، وبمستقبل الوضع العراقي بشكل عام أيضاً. ويمكن القول إنّ استراتيجيته في مقايضة تخلي الفصائل عن الاملاءات في مقابل منحها امتيازات مالية واسعة، لن تكون حلاً مضموناً أو كابحاً لحصول صدام مُقبِل بين بعض هذه الفصائل والدولة وأجهزتها المختلفة، بل قد تصبح مدخلاً لتحقيق هدفها النهائي بالاستيلاء على الدولة العراقية.
.
رابط المصدر: