مِنْ ترمب إلى بايدن: تحولات سياسة المناخ الأمريكية وأثرها في العمل المتعدد الأطراف

نقاط أساسية

  • لم يتسبَّب الانقسام السياسي في الولايات المتحدة في إحداث تحولات جوهرية في سياسات المناخ الأمريكية في عهد آخر ثلاث إدارات فحسب، بل قاد أيضاً إلى غموض يبعث على القلق إزاء التزام واشنطن تجاه العمل المناخي المتعدد الأطراف.
  • أسهمت سياسة تقليص القيود البيئية، التي اعتمدتها إدارة ترمب لتحفيز النمو الاقتصادي، في توليد حافز جديد لمنع التقدم في عملية التحول في مجال الطاقة، وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، الأمر الذي أدى بدوره إلى تكاليف أعلى فيما يتعلق بالقضايا الصحية والكوارث الطبيعية، والتأثير على الكرة الأرضية برمتها.
  • أظهرت إدارة بايدن أنها أكثر التزاماً بالعمل المحلي والدولي في مجال المناخ مقارنة مع إدارة ترمب. لكن ثمة عوامل تُقَوِّضُ استدامة جهود هذه الإدارة في مجال المناخ، يتمثَّل أبرزها في صعوبة التكهن بنتائج انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024 وتداعياتها الداخلية، والسياق الدولي الذي يتسم بحالة من الجمود في مجال دبلوماسية المناخ بسبب تفاقم التوترات الجيوسياسية في العالم.

 

أدى الدور القيادي للولايات المتحدة في المؤسسات المتعددة الأطراف والاقتصاد العالمي دوراً رئيساً في التأثير على العمل الدولي في مجال المناخ. وبرز عامل إضافي خلال السنوات الأخيرة في تشكيل هذا الدور الذي قاد إلى دبلوماسية المناخ الدولية: الانقسام السياسي داخل الولايات المتحدة. ولم يؤدِّ هذا الانقسام إلى تحولات جوهرية في السياسات في عهد آخر ثلاث إدارات أمريكية فحسب، بل قاد أيضاً إلى غموض يبعث على القلق إزاء التزام واشنطن تجاه العمل المناخي المتعدد الأطراف.

 

تتناول هذه الورقة التحولات الرئيسة في سياسات المناخ بين إدارتي الرئيسين دونالد ترمب وجو بايدن، وتسلط الضوء على أثر دبلوماسية المناخ الدولية، والتحديات المتعلقة بالانقسام داخل الولايات المتحدة، والنظام الدولي الذي يزداد استقطاباً.

 

أولاً: سياسة المناخ في عهد إدارة ترمب

منحت سياسة إدارة الرئيس دونالد ترمب الداخلية في مجال الطاقة امتيازاً للنفط والغاز والفحم، وسعت إلى “هيمنة الطاقة” من خلال:

 

  • التنافس من أجل الهيمنة على سوق الطاقة العالمي؛
  • إزالة الضوابط البيئية (مثل خطة عمل الرئيس باراك أوباما في مجال المناخ)؛
  • وضع سياسة مالية تصب في مصلحة صناعة الوقود الأحفوري.

 

لا تقتصر هذه السياسة على ترمب، إذ تعكس اتجاهاً أيديولوجياً سائداً داخل الحزب الجمهوري يُشكك في مسألة تَغَيُّر المناخ والعمل المناخي. وتضم قائمة المشككين أولئك الذين يشككون بأصول تَغَيُّر المناخ الذي تسبب به الإنسان، أو طبيعة ومدى ذلك الأثر، أو صحة الأنظمة والقوانين البيئية. ويؤثر المستوى المحدود لمعرفة الناخبين الفنية حول ضرورة اتخاذ إجراءات لمعالجة تَغَيُّر المناخ على أجندة الحزب الجمهوري.

 

ويمكن فهم جاذبية حملة ترمب من خلال معرفة الطريقة التي بنى فيها تحالف بين عمال الفحم الذين شعروا بتهديد البطالة وصناعة الوقود الأحفوري، ما أدى إلى تأخير المصادقة على قوانين تَغَيُّر المناخ من خلال جماعة الضغط القوية لهذه الصناعة في الكونجرس. وتمكنت حملة ترمب من نشر سردية تقول بأن “النخب” (بما في ذلك علماء المناخ) الذين يدعمون السياسات البيئية هُم مَن يتحملون وزر اختراع أو المبالغة بتهديد تَغَيُّر المناخ.

 

وساهم الرئيس ترمب في تسييس تَغَيُّر المناخ من خلال تَحَوُّل الأدلة العلمية إلى جدل حول آراء صحيحة، وتقليص مساحة النقاش العام المبني على المعرفة. على سبيل المثال، نشر “برنامج أبحاث التغير العالمي” الأمريكي تقييم المناخ القومي الرابع الذي تضمن المخاطر المناخية الخطرة التي تواجه الولايات المتحدة. وعندما طُلِبَ منه التعليق على التقرير، قال ترمب: “لا أُؤمن به”، مُشيراً إلى أنه سيُتبيَّن أن الاحتباس الحراري “خدعة مطلقة وباهظة ووهمية”. وصوَّر ترمب تَغَيُّرْ المناخ الذي تسبب به الإنسان على أنه “اعتقاد” أو مشكلة للنمو الاقتصادي الأمريكي، وألمح إلى غياب إجماع علمي حوله، مشيراً إلى إمكانية تغيير اتجاهه. وافترض وجود خيار ثنائي بين السعي “الوطني” لتحقيق نمو اقتصادي يستند إلى الوقود الاحفوري وسياسات المناخ التي تؤدي إلى “إغلاق الأعمال”.

 

وفي هذا السياق أُطِّرَ تَغَيُّر المناخ على أنه مصلحة لخصومه السياسيين، ومؤامرة خارجية لتقويض المصالح الأمريكية، وتلاعب من جانب علماء مغمورين سياسياً غير جديرين بالثقة. وشَكَّلَ إنكار تَغَيُّر المناخ منطلقاً إلى نزع الشرعية عن الحاجة إلى التحول في مجال الطاقة، – الأمر الذي أدى إلى تبرير موقف الرئيس ترمب الرافض للقوانين والأنظمة البيئية.

 

تَحَوَّل السياسات

صور ترمب إرث سلفه أوباما في مجال المناخ على أنه “حرب على الطاقة”. وسعى إلى تحقيق هدف جديد يتمحور حول تحقيق ازدهار اقتصادي من خلال تعزيز صناعة الطاقة، و”توطيد هيمنة الطاقة” من خلال “سياسات تزيد إنتاج الطاقة وتُعزِّز استقلالها”. وأعلن ترمب حال وصوله إلى البيت الأبيض عن استراتيجيته في مجال الطاقة – “خطة الطاقة أمريكا أولاً” – وصادق على أمر تنفيذي حول تعزيز استقلال الطاقة والنمو الاقتصادي. وتمثلت الأهداف في استخدام مصادر الطاقة كافة، خاصة الوطنية منها بشكل مستقل عن انبعاثاتها من الغازات الدفيئة للتنافس على الهيمنة على أسواق الطاقة العالمية من خلال تصدير المواد الهيدروكربونية بكميات ضخمة، والبدء بعمليات استكشاف وإنتاج جديدة. على سبيل المثال، فتح ترمب مناطق برية وبحرية مملوكة للحكومة الفيدرالية ومحمية الحياة البرية في ولاية ألاسكا، وصادق على تراخيص لتنفيذ خطي الأنابيب “داكوتا آكسيس”، و”كيستون إكس أل”.

 

كما ركز ترمب على الحاجة لإعادة النظر في التشريع “غير الضروري” الذي يمكن أن يؤثر في الطاقة النووية وإنتاج النفط والغاز والفحم، مشيراً إلى أن الإجراءات البيئة مرغوبة إذا تضمنت فوائد اقتصادية، غير أن هذه الإجراءات أثَّرَت في السياسة المالية. وأدى قانون خفض الضرائب والوظائف لعام 2017 إلى تقليص الضرائب على الشركات وأسعار الفائدة، الأمر الذي صبَّ في مصلحة المستثمرين في مشاريع البُنْيَة التحتية خطوط أنابيب “داكوتا آكسيس” وشراء معدات لاستخراج النفط. لكنَّ خفض الضرائب لم يشمل رواد الأعمال في مشاريع الطاقة المتجددة.

 

وعارض ترمب “تحالف دعم التخلي عن الفحم” الذي تعهد بالتخلي التدريجي عن الفحم بحلول عام 2030 بسبب العوامل المتعلقة بإنتاج الفحم واستهلاكه، حيث يُبدي ترمب تعاطفه مع عمال الفحم، ويُعزي سبب بطالتهم إلى ما يصفه بـ “الحرب على الفحم النظيف والجميل” التي شنها الرئيس أوباما، ووكالة حماية البيئة، والشركات الأجنبية التي اشترت محطات الطاقة الأمريكية، واتفاق باريس.

 

لكنَّ وعد ترمب “لاستعادة الوظائف في مجال الفحم” واجهت تحدياً من تراجع الطلب على الفحم بسبب الأتمتة والتنافس من خيارات أرخص مثل الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة اللتان تعدان أرخص في معظم أرجاء العالم. وعمل ترمب على خفض التمويل لبرامج الوكالة مثل البحث أو التعليم، إضافة إلى إلغاء البرامج الوطنية لخفض انبعاثات الغاز الدفيئة. كما ألغى بموجب أمر تنفيذي خطة أوباما في مجال الطاقة النظيفة من خلال التقرير النهائي حول مراجعة إجراءات الوكالة التي تُشَكِّل عبئاً على التطوير الآمن والفاعل لموارد الطاقة المحلية.

 

وألغت إدارة ترمب تقارير انبعاث غاز الميثان التي كانت تُعَدُّ متطلباً بيئياً سابقاً يتوجب على شركات النفط والغاز تقديمها، إضافة إلى إلغاء المنح في مجال البحث أو التعليم. كما عمد ترمب إلى تعيين سكوت برويت – أحد الأشخاص الذي ينكرون التغير المناخي – لتولي منصب مدير وكالة حماية البيئة. وجاء في أحد تصريحات برويت السابقة المشهورة أن غاز ثاني أكسيد الكربون ليس المساهم الرئيس في الاحتباس الحراري العالمي.

 

وجرى خفض ميزانية وكالة حماية البيئة بنسبة 31%، وإلغاء 3,200 وظيفة في إطار ميزانية السنة المالية 2018 التي حملت شعار “أساس جديد لعظمة أمريكا”. كما جرى تعريف أجندة وكالة حماية البيئة على أنها “عودة إلى الأساسيات”، ما يعني ضمناً تعديل صلاحياتها ونطاق عملها: يتعين على حماية البيئة أن تسير جنباً إلى جنب مع النمو الاقتصادي مع مراجعة القوانين المتعلقة باستخدام المياه في الولايات المتحدة.

 

ترمب ودبلوماسية المناخ المتعددة الأطراف

اتسمت أجندة الرئيس ترمب السياسية الانعزالية بالتركيز على الداخل مقابل الانفتاح على العالم. وكان يصف الولايات المتحدة بأنها عملاق اقتصادي مقيَّد بشكل ظالم بالقوانين والأنظمة البيئية الداخلية والدولية. وأدت استراتيجية ترمب إلى إثارة الرأي العام ضد العمل المناخي من خلال تضخيم تكاليفه وتجاهل فوائده.

 

مع ذلك وبالرغم من تقديم الرئيس ترمب للتوقعات العالمية حول المساهمة الأمريكية في العمل المناخي وتمويله على أنها هجوم على “السيادة الوطنية”، ما شَكَّلَ بالتالي مبدأً جرى رفضه، غير أن اتفاق باريس غير ملزم، حيث تقوم كل دولة طوعاً بتحديد أهدافها الوطنية في مجال الانبعاثات، ما يعني عدم القدرة على “فرضها”.

 

وتحتاج المرونة المناخية دعما مالياً عالمياً قوياً، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أن الدول النامية تواجه مخاطر مناخية أعلى. لهذا السبب شُكِّل صندوق المناخ الأخضر المتعدد الأطراف عام 2010 بمشاركة 194 دولة عضو في اتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بشأن التغير المناخي، للمساهمة بتمويل متساوٍ لغايات التخفيف من آثار تَغَيُّر المناخ والتكيف مع آثاره في الدول النامية.

 

وبلغت قيمة الالتزامات لصندوق المناخ الأخضر 10.3 مليار دولار عام 2014 من 43 دولة. وبما أن المساهمات الوطنية لهذا الصندوق تطوعية فقد زعم ترمب أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة الملزمة بدفع “مليارات وتريليونات الدولارات” إلى الصندوق. وتعهد الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما بدفع 3 مليارات دولار، لكنَّه لم يدفع سوى مليار دولار فقط، في حين لم يدفع ترمب ما تبقى من هذا التعهد، وألمح إلى احتمال وجود فساد. وعمدت إدارة ترمب إلى الغاء التبرعات إلى صندوق المناخ الأخضر بعد تصوير هذا الجهد المتعدد الأطراف المنسق على أنه “مخطط آخر لإعادة توزيع الثروة خارج الولايات المتحدة (…) علاوة على دفعات المساعدات الخارجية الضخمة التي تقدمها أمريكا حالياً”.

 

ونتيجة لذلك وجدت دول أقل ثراءً، خاصة في أوروبا، نفسها مضطرة لزيادة تبرعاتها للصندوق. وجرى الطلب من الدول الصناعية خلال مؤتمر كوبنهاجن للمناخ عام 2009 “تمويل إجراءات خفض انبعاثات الغازات الدفيئة والتكيف مع الآثار الحتمية لتغير المناخ في الدول النامية. ووعدت الدول المتقدمة بتقديم 30 مليار دولار خلال الفترة 2010-2012 وحشد تمويل على الأمد البعيد بقيمة 100 مليار دولار سنوياً بحلول 2020 من مصادر متنوعة”.

 

لكنَّ المساعدات الخارجية الأمريكية لم تكن “ضخمة”، حيث بلغت ميزانية وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 39.3 مليار دولار خلال السنة المالية 2019. وسعى ترمب إلى خفض هذه الميزانية أكثر، إذ “هدد البيت الأبيض تمويل المساعدات الخارجية في كل ميزانية مقترحة. واقترحت ميزانية 2020 تقليصاً بنسبة 23%، الأمر الذي سيقلص الميزانية من 52.5 مليار دولار إلى 40 مليار دولار، في حين أوصت ميزانية 2019 تقليصاً بنسبة 30%، بينما اقترحت ميزانية 2018 خفضاً بنسبة 32%“.

 

وجاءت الخلاصة الرسمية خلال الخطاب المشهور في “حديقة الورود” عندما انسحب ترمب من اتفاق باريس الذي وصفه بأنه “مخادع وغير فاعل ومتحيز “. كما بعثت الولايات المتحدة في عهد ترمب بوفد منخفض المستوى للمشاركة في مفاوضات المناخ. وأقامت واشنطن خلال مؤتمر “كوب23” فيجي-بون عام 2017 فعالية بعنوان “دور الوقود الاحفوري والطاقة النووية الأكثر نظافة وفاعلية في التخفيف من حدة تَغَيُّرْ المناخ”، وذلك بهدف الترويج للطاقة النووية والفحم النظيف واحتجاز الكربون وتخزينه. وكان أحد المتحدثين في المؤتمر ممثل شركة “بيبودي إينيرجي” التي تُعَدُّ أكبر شركة أمريكية في مجال إنتاج الفحم.

 

وشهد مؤتمر “كوب 24” الذي انعقد في مدينة كاتوفيتسه البولندية، أواخر 2018، جدلاً يتعلق بالتقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ الذي طُلِبَ خلال مؤتمر “كوب 21” (تقديم مُلَخَّص لصُنّاع السياسات). وقال التقرير: “إذا ما أردنا وقف ارتفاع درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية خلال القرن الحالي فمن الضروري تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 45% بحلول عام 2030”.

 

واتفقت 200 دولة مشاركة في المؤتمر مع هذا التقرير، غير أن تجمعاً ضم أربع دول منتجة للنفط هي الولايات المتحدة وروسيا والسعودية والكويت عارض التقرير ومنع تبنيه. وقال بي ويلز جريفيث: “نؤمن بقوة بأنه لا يتعين على أي دولة التضحية بازدهارها الاقتصادي أو أمنها في مجال الطاقة من أجل تحقيق الاستدامة البيئية“. وألمح جريفيث إلى أن الوقود الأحفوري ليس جزءاً من المشكلة، بل جزءاً من الحل، من منطلق أن التكنولوجيا ستعمل على “تنظيفها”(أي البيئة).

 

الانعكاسات

تمثل الهدف على المستوى الاقتصادي من تقليص القيود البيئية في عهد إدارة ترمب، في تحفيز حدوث آثار نسبية لكنها إيجابية وفورية على الاقتصاد الأمريكي. لكنَّ هذه العملية ولَّدت حافزاً جديداً لمنع التقدم في عملية التحول في مجال الطاقة، وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، الأمر الذي أدى بدوره إلى تكاليف أعلى فيما يتعلق بالقضايا الصحية والكوارث الطبيعية، والتأثير على الكرة الأرضية برمتها. وتشير التوقعات إلى أن الخسائر  في الممتلكات والبنية التحتية في المناطق الواقعة على سواحل الولايات المتحدة ستكون فادحة.

 

على سبيل المثال، فإن “من المحتمل أن ما قيمته 66-106 مليار دولار من الممتلكات الساحلية القائمة ستصبح تحت مستوى سطح البحر في أرجاء الولايات المتحدة بحلول عام 2050، في حين أن ما قيمته 238-507 مليار دولار من هذه الممتلكات ستصبح تحت مستوى سطح البحر بحلول عام 2100″. وعملت إدارة ترمب على تعزيز إمكانية تعرُّض الولايات المتحدة (والعالم) للمخاطر المناخية. فمثلاً، يتعين أن يكون قياس انبعاث الغازات الدفيئة متواصلاً للحصول على بيانات لتوقع الأنماط المناخية ووصفها. وحدث فراغ متعمد في مجال البيانات من خلال عدم طلب مثل هذه البيانات، الأمر الذي سيؤثر على فاعلية السياسات العامة.

 

كما خسرت الولايات المتحدة سنوات من الاستثمار في ازدهار الطاقة الخضراء التي تُعَدُّ مفتاح التنافسية في الأسواق العالمية لأنها تعزز توفير فرص جديدة، والاستثمار والنمو الاقتصادي لأنها تساعد الصناعة في توفير المال والاحتفاظ بوظائف التصنيع. كما تعمل على خفض فواتير الطاقة للمستهلكين، وتقليص انبعاث الغازات الدفيئة والمخاطر المحلية والدولية للكوارث الطبيعية الناجمة عن تَغَيُّر المناخ.

 

وتُعَدُّ طاقة الرياح والطاقة الشمسية أرخص في الولايات المتحدة من الوقود الأحفوري بغض النظر عن وجود الدعم الحكومي أو قيمته، إذ إن السوق الحرة هي التي تدفع هذا الازدهار. فـ”الشركات التي تعمل في مجال كفاءة الطاقة توظف ضعف عدد العاملين في الوقود الأحفوري في أرجاء البلاد”. كما أن الشركات العاملة في مجال الطاقة الشمسية توظف ضعف عدد العاملين في الفحم. ولو لم تنسحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس فإن قطاع الطاقة النظيفة كان سيوفر أكثر من نصف مليون وظيفة جديدة، وكان بالإمكان إضافة 52 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030.

 

وقادت براغماتية ترمب على المستوى السياسي إلى عزلته النسبية. على سبيل المثال، لم يتفق أي فاعل عام مع الرئيس، في حين أن حلفاء ترمب الرئيسين كانوا من أعضاء الكونجرس عن الحزب الجمهوري الذين دعموه من خلال المصادقة على الميزانية وأعضاء إدارته، غير أن هذا في الوقت نفسه عزز المعارضة. كما تعززت صناعة القرار على المستوى المحلي ومستوى الولايات والمشاركة الشعبية في صناعة السياسات المتعلقة بالمناخ. وتعهد العديد من الفاعلين بتحقيق الأهداف المتعلقة بخفض انبعاث الغازات الدفيئة كما فعلت بعض الولايات من خلال تحالف ثنائي بين حكام هذه الولايات، مثل “تحالف الولايات المتحدة للمناخ” الذي ضم أكثر من 1,000 شركة ومؤسسة، وتحالفات الفاعلين ما دون الدولة التي ضمت ولايات ومدن وشركات مثل “مبادرة الالتزام الأمريكية”، و”ما زلنا في تحالف” الذي ضمن 353 كلية وجامعة.

 

كذلك، دفع غياب التمويل الأمريكي لصندوق المناخ الأخضر دولاً أخرى إلى زيادة تمويلها، الأمر الذي زاد من صعوبة تأمين المساهمة الأمريكية السنوية بقيمة 100 مليار دولار إلى الدول النامية. كما عززت إدارة ترمب المخاطر العالمية من خلال تقليص التمويل للبحث العلمي الدولي المشترك حول تَغَيُّر المناخ.

 

وشكلت الهند والصين والاتحاد الأوروبي الفاعلين الرئيسين الصاعدين على ساحة السياسات المناخية. كما تطور العمل المناخي إلى عملية أكثر شمولاً ضمت المزيد من الفاعلين وتشكيل مصدر إلهام لمزيد من المشاركة. على سبيل المثال تضاعف الحركات الاحتجاجية المطالبة بالعمل من أجل المناخ، حيث شارك نحو 7.6 مليون شخص من 185 دولة في حركة “Fridaysforfuture#”.

 

ثانياً: سياسة إدارة بايدن في مجال المناخ

تُعَدُّ إدارة جو بايدن الديمقراطية أكثر التزاماً بالعمل المحلي والدولي في مجال المناخ مقارنة مع إدارة ترمب الجمهورية. وتتعلق العوامل التي تُقَوِّضُ استدامة جهود إدارة بايدن في مجال المناخ بالوضع الداخلي نظراً لصعوبة التكهن حول انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024، والسياق الدولي الذي يتسم بحالة من الجمود فيما يتعلق بدبلوماسية المناخ بسبب التوترات الجيوسياسية والحرب في أوكرانيا.

 

وقد عملت واشنطن في عهد إدارة بايدن على تحديث المساهمة المُحَدَّدَة وطنياً عام 2021، وتعهَّدت بتقليص إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة بنحو 50% على الأقل بحلول عام 2030. وخلال العام نفسه جرت المصادقة على قانون البُنْيَة التحتية، والذي يتضمن أضخم استثمار أمريكي في التاريخ بمجال النقل العام النظيف، والذي يشترط عدم صدور أي انبعاثات عن كل الآليات المباعة بعد عام 2035.

 

وتتمثل العلامة الفارقة في إدارة بايدن بمصادقة الكونجرس في أغسطس 2022 على قانون خفض التضخم، والذي يُعَدُّ أكثر سياسات التحفيز طموحاً في مجال الطاقة النظيفة بتاريخ البلاد، وذلك من خلال استثمار 370 مليار دولار على مدى 10 سنوات في مجالات مثل كفاءة الطاقة، واحتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه، والائتمان الضريبي على السيارات الكهربائية، ومضخات حرارية جديدة، وأنظمة الطاقة الشمسية المنزلية والبطاريات.

 

بايدن وسياسة المناخ العالمية

تمكَّن بايدن على المستوى الدولي من استعادة مصداقية بلاده عبر أداء دور قيادي في مجال المناخ من خلال العودة إلى اتفاق باريس، واستكمال تنفيذ الخطوط العريضة للاتفاق. وأطلقت إدارة بايدن خلال مؤتمر “كوب 26” التعهد العالمي بشأن الميثان من أجل تقليص انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% على الأقل بحلول عام 2030. ووقعت 150 دولة على هذا التعهد، حيث انضمت الولايات المتحدة إلى تحالف المحركين الأوائل الذي يضم الشركات التي تستثمر في إزالة الكربون من قطاعات رئيسة مثل الشحن البري والبحري والطيران والألمونيوم والفولاذ والاسمنت والمواد الكيميائية.

 

ووافقت الولايات المتحدة خلال مؤتمر “كوب 27” على إقامة صندوق لمساعدة الدول الضعيفة للتعامل مع الخسائر والاضرار الناجمة عن آثار تَغَيُّر المناخ، وتحالف المحركين الأوائل حول استدامة سلاسل الإمداد وإعلان قادة غلاسكو حول الغابات واستخدام الأراضي. كما صادق مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2022 على تعديل كيجالي حول تقليص المواد الملوثة مثل المُركَّبات التي تحتوي على غازات الهيدروجين والفلور والكربون.

 

كما دعمت إدارة بايدن إصلاح البنك الدولي وبنوك التنمية المتعددة الأطراف لتتحول من نموذج الإقراض الخاص بكل دولة إلى التركيز على التحديات العالمية مثل تَغَيُّر المناخ والتعاون مع المنظمات فوق الوطنية. وجرى انتخاب مرشح الرئيس بايدن أجاي بانجا عام 2023 لرئاسة مجموعة البنك الدولي ليحل محل مرشح ترمب ديفيد مالباس، الذي يشكك بالمنظمات المتعددة الأطراف وتغير المناخ الناجم عن البشر. ودعمت إدارة بايدن مقايضة الدين مقابل التكيف مع آثار تَغَيُّرْ المناخ التي اقترحها الرئيس الكولومبي بيترو، وستعمل على نقل هذا الاقتراح إلى صندوق النقد الدولي. ويمكن لهذه المبادرة إطلاق العنان لإمكانات الدول النامية والدول الغنية بالغابات من أجل تسريع السياسات الإقليمية حول تَغَيُّر المناخ. كما يمكن لهذه المبادرة أن تُمَثِّلَ نجاحاً للولايات المتحدة في تأدية دور قيادي في الدبلوماسية المتعددة الأطراف.

 

واستأنفت إدارة بايدن التعاون مع الصين بخصوص سياسة المناخ بالرغم من التوتر القائم مع بيجين على جبهات أخرى. وتُعَدُّ الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم، وأكبر دولتين في مجال انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون. لكنَّ بعض الأمور الأخرى حدثت منذ اتفاق باريس عام 2015. وفيما عدا انسحاب ترمب من هذا الاتفاق، وحرب التعريفة الأمريكية-الصينية، زارت رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي تايوان في أغسطس 2022. ورداً على ذلك عمدت الصين إلى تعليق محادثات المناخ مع الولايات المتحدة، غير أن الطرفين استأنفا هذه المحادثات خلال مؤتمر “كوب 27”. كما التقى جون كيري المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون تَغَيُّر المناخ مع كبير الدبلوماسيين الصينيين وانج يي. وتمثل التحدي في قيام الطرفين بتعزيز استراتيجيات مشتركة، وفي الوقت نفسه التوصُّل إلى إدراك بنّاء للتناقضات بين الدولتين.

 

وفي الوقت الذي تُعَدُّ فيه الصين أكبر منتج للطاقة المتجددة، غير أنها في الوقت نفسه تأتي في المرتبة الأولى في إقامة المحطات التي تعمل على الفحم محلياً ودولياً، خاصة في الخارج (في 26 دولة على الأقل) في إطار مبادرة الحزام والطريق. لكنَّ الصين لا تفصح عن هذه الانبعاثات في تقييم الانبعاثات الوطني.

 

ثالثاً: تحديات الغموض

قد تكون المصداقية المتزايدة لسياسة ودبلوماسية المناخ الأمريكية مجرد تخمينات نظراً للانقسامات الداخلية والتوترات العالمية، لاسيما تلك الحاصلة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.

 

المستوى المحلي

تواجه سياسة إدارة بايدن في مجال المناخ تحديين رئيسين إثنين:

 

أولاً، سيطرة الجمهوريين على الأغلبية في الكونجرس الأمريكي، الأمر الذي يُعقِّد النقاش حول فرض ضريبة على التلوث وتسعير الكربون،

ثانياً، صعوبة التكهن بانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة 2024، حيث يُحشَد الناخبين من خلال “شراكة سلبية” ضد الحزب الآخر. ويبدو أن احتمال حدوث مواجهة ثانية بين بايدن وترمب أمر لا يحظى بشعبية حالياً.

 

وتتمثل المسألة الأخرى في أن التوصل إلى إجماع حول تَغَيُّر المناخ لا يزال معقداً كما يبدو؛ فعلى الجانب الديمقراطي يواجه بايدن انتقادات من جانب بعض السياسيين اليساريين بسبب “اعتداله” في الوقت الذي يدفع هؤلاء اليساريين للتخلص فوراً من الوقود الأحفوري. أمّا على الجانب الجمهوري فإن هناك الكثير من التشكيك في مسألة تَغَيُّر المناخ، والميل لمقاومة سياسات المناخ مثل الحوافز للآليات الكهربائية، واعتبارها “عبئاً فيدرالياً” يُقوِّض “حرية الفرد بالاختيار”.

 

المستوى الدولي

ظهر زخم مهم للتحول نحو الطاقة النظيفة قبل الحرب في أوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين. لكنْ بعد فبراير 2022 تراجع التقدم حول التخلص من الكربون ودبلوماسية المناخ وتمويل النشاطات للتخفيف والتكيف مع آثار تَغَيُّر المناخ. وبدأ الكثير من الدول بتقديم أمن الطاقة والقدرة على تحمل تكاليف الطاقة على مسألة التخلص من الكربون بغض النظر عن البصمة الكربونية. لذلك، وعلى الرغم من توقعات وكالة الطاقة الدولية بأن الطاقة المتجددة ستتجاوز الفحم مصدراً رئيساً لتوليد الكهرباء بحلول عام 2025، فإنَّ استهلاك الفحم وصل إلى مستويات قياسية عام 2023 مدفوعاً بالصين والهند بشكل رئيس.

 

كما أن زيادة النفقات العسكرية من جانب كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول الأعضاء في “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) تزيد من المشكلة، لأنه لا يتعين على الجيوش التي تُعَدُّ ضمن أكبر المستهلكين للوقود الأحفوري في العالم الإفصاح عن انبعاثات الغازات الدفيئة “لأسباب تتعلق بالأمن القومي“. وبسبب الحرب يجري استخدام التعاون في مجال المناخ سلاحاً استراتيجياً للنفوذ الجيوسياسي. ويشتمل هذا على الطاقة والغذاء والأسمدة والوصول إلى مخزون المعادن الحيوية في أوكرانيا الضرورية للطاقة المتجددة.

 

وفي الوقت الذي شكلت العقوبات المفروضة على روسيا رفضاً بالإجماع لغزوها أوكرانيا، غير أن عزلة نظام بوتين بسبب تلك العقوبات عززت اعتماد روسيا الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي على الصين. وأدى هذا إلى تمتين التحالف الاستراتيجي بين موسكو وبيجين، واستئناف التعاون العسكري مع كوريا الشمالية. كما جرى تعليق التعاون مع روسيا في مجال المناخ بشكل عام. وتُعَدُّ الشراكة في منطقة القطب الشمالي للبحوث والعمل المناخي مثالاً على ذلك، والتي كانت تستند إلى التعاون مع روسيا والدنمارك والنرويج وفنلندا وكندا وإيرلندا والسويد من خلال مجلس القطب الشمالي. لكنَّ دول منطقة القطب الشمالي الأعضاء في “الناتو” مثل السويد وفنلندا بدأت بعد شهر فبراير 2022 بمعارضة مشاركة روسيا في المنتدى. وتتمثل المشكلة في أن تَغَيُّر المناخ يجعل من ممر بحر الشمال صالحاً للملاحة البحرية بشكل متزايد، الأمر الذي يُمَثِّلُ فرصة لروسيا التي تواجه عراقيل في مجال التصدير نظراً لاعتمادها على الصين في مجال التجارة والاستثمار في موانئها. وفي الوقت نفسه يمكن لهذا الوضع أن يعزز إرادة روسيا لإقامة مزيد من القواعد العسكرية في القطب الشمالي، الأمر الذي قد تعتبره الدول الأخرى في المنطقة تهديداً لحرية الملاحة هناك.

 

وعلى الجانب الآخر تُعَدُّ مساهمة الدول النامية قليلة للغاية في الانبعاثات العالمية، ما يعني ضرورة تعهُّد الدول الصناعية بتقديم 100 مليار دولار سنوياً لصندوق المناخ الدولي وتشكيل صناديق جديدة لتعويض الخسائر والأضرار الناجمة عن تَغَيُّر المناخ. لكنَّ قانون خفض التضخم لا يتعامل مع تمويل الخسائر والأضرار، كما أن سيطرة الجمهوريين على الكونجرس الأمريكي تحد من قدرة إدارة بايدن على الوفاء بوعودها المتعلقة بتمويل العمل المناخي الدولي (من قبيل تخصيص 3 مليارات دولار للتكيف مع آثار تَغَيُّرْ المناخ، وذلك في إطار التعهد العالمي من جانب الدول الصناعية مجتمعة لمضاعفة مخصصات التكيف بحلول عام 2025).

 

الخلاصة

أثبت الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه أكثر التزاماً من إدارة سلفه دونالد ترمب تجاه العمل المناخي المحلي والدولي. وتتمثل العوامل التي تُقَوِّضُ استدامة الجهود المحلية على ضوء عدم القدرة على التكهن بانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2024، والسياق الدولي الذي يتسم بحالة من الجمود في مجال دبلوماسية المناخ بسبب التوترات الجيوسياسية مع الصين وروسيا على ضوء الحرب في أوكرانيا. لكنَّ الولايات المتحدة والصين ما زالتا حليفتين في مجال محاربة تَغَيُّر المناخ. وحتى لو كانت الإدارة الأمريكية المقبلة ملتزمة بالعمل المناخي، فإن جهود واشنطن ستنطوي على أثر إيجابي فقط في حال تحسُّن العلاقات الأمريكية-الصينية، وتعاون الطرفين في مجال تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة وتمهيد الطريق أمام الاعتراف بالمسؤولية نيابة عن الدول الأخرى التي تسهم في الانبعاثات.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/tahawulat-siasat-almunakh-alamrikia-wa-atharuha-fi-alamal-almutaeadid-alatraf

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M