نزوح جماعي: لماذا تنسحب الشركات الأجنبية من الصين إلى الهند؟

بسنت جمال

 

شهد ثاني أكبر اقتصاد بالعالم موجة انسحابات جماعية من قبل الشركات الأجنبية الكبرى العاملة لديه لتنزح إلى الهند خلال الآونة الأخيرة حيث أعلنت شركة “ألفابت” إنها تدرس نقل بعض إنتاجها من هاتف “بيكسل” إلى الهند، فيما كشفت “آبل” عن خطتها لتصنيع هواتف “آيفون 14” بالهند في إطار مساعيها إلى تنويع إنتاجها ووقف الاعتماد على الصين.  وقد أثارت تلك التحركات تساؤلات حول أسباب تخارج كبرى الشركات من الصين إلى الهند خصيصًا مع بروز تخوفات من ناحية أخرى حول قدرة الأخيرة على استقبال تلك الاستثمارات في آن واحد لاسيما في ظل العوائق التي تواجهها الاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلاد.

دوافع منطقية

تنوعت الأسباب التي دفعت الشركات والمؤسسات للتخارج من السوق الصيني بين الإجراءات الشديدة التي تتبعها البلاد لمواجهة جائحة كورونا، إلى جانب تصاعد النزاعات التجارية مع الولايات المتحدة، وتقييد حرية شركات التكنولوجيا الأجنبية، وغيرها من الأسباب التي دفعت العديد من الغرف التجارية الدولية لإجراء استطلاعات رأي تشمل أراء المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات الأجنبية حول الاستثمار في الصين، حيث أفادت غرفة التجارة الأمريكية في بكين أن 44% من الشركات المشمولة في الاستطلاع كشفوا عن خفض الاستثمار أو تأجيل قرار الاستثمار في الصين نتيجة للقيود الصحية وإجراءات الإغلاق، كما أعرب واحد من كل عشرة أشخاص أنه في حالة استمرار القيود لعام آخر، فأن ذلك سوف يدفعهم لنقل عملياتهم خارج البلاد.

فيما أظهر استطلاع رأي آخر صدر عن غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين أن حوالي 23% من الشركات الغربية تفكر في نقل أعمالها خارج البلاد بسبب سياسات الإغلاق أو النزاعات السياسية، وقد أفادت 16% من الشركات إنها تنوي الانتقال إلى جنوب شرق آسيا، بينما أعلن نحو 19% عن خطط للانتقال إلى أوروبا، وحوالي 12% إلى أمريكا الشمالية. وقد أعربت غالبية الشركات عن الشعور بعدم الثقة تجاه ممارسة الأعمال في الصين، حيث شهدت الشركات الصناعية الأجنبية العاملة في الصين انخفاضًا في الأرباح بنسبة 16.2% خلال الفترة التي تتراوح بين من يناير إلى أبريل مقارنة بانخفاض قدره 0.6% فقط لأرباح الشركات الصينية الخاصة، فيما حققت الشركات المملوكة للدولة ارتفاعًا في الأرباح بنسبة 13.9% خلال تلك الفترة، ويُمكن تفصيل دوافع نتائج تلك الاستطلاعات على النحو الآتي:

• سياسة صفر كوفيد: انتهجت الصين سياسة “صفر كوفيد” الهادفة للقضاء بشكل كامل على جائحة كورونا مع عدم بروز أي إشارات تدل على تخفيف تلك السياسة في المستقبل القريب، وتتمثل أبرز معالم تلك السياسة في عمليات الإغلاق والحجر الصحي والفحوص الصارمة مع تطبيق قيود للسفر والتنقلات، واعتبارًا من مايو 2022، فرضت الصين قيودًا على المسافرين بإجراء اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل في غضون 24-48 ساعة من رحلتهم بالإضافة إلى اختبار الأجسام المضادة، كما يتعين على المسافرين أن يتم تطعيمهم في غضون 14 يومًا من دخولهم للبلاد، كما يجب تقديم إثبات لنتائج الاختبارات السلبية وسجلات التطعيم عند الوصول ويتم فحص الوافدين في المطار مع ضرورة إكمال الحجر الصحي الإلزامي لمدة 14 يومًا على الأقل. وعلاوة على ذلك، تم إجبار الشركات –باستثناء موردي السلع الأساسية والغذائية- على الإغلاق المؤقت حتى تؤكد السلطات المحلية عدم وجود إصابات جديدة في المنطقة.

وقد أثرت تلك السياسات التشددية والتقييدية على ممارسة الأعمال التجارية في البلاد، كما ألقت بظلالها على إنتاجية الشركات، وفاقمت من صعوبات الحصول على القوى العاملة اللازمة لتسيير الأعمال، وكذلك صعوبات تأمين الإمدادات اللازمة للإنتاج نظرًا لاضطرابات قطاع النقل واللوجستيات مما رفع التكلفة غير المباشرة للإنتاج، مما أسفر عن حدوث حالة من عدم اليقين بين المستثمرين الأجانب حيث أبرز الوباء حقيقة مفادها أنه لا يُمكن الاعتماد على مركز تصنيعي واحد فقط.

• عوامل ديموغرافية: أثارت التركيبة السكانية في الصين مخاوف لدى الشركات الأجنبية العاملة بالبلاد نظرًا لتزايد احتمالية انخفاض عدد العمال المتاحين للعمل لديهم، حيث انخفض معدل المواليد في البلاد للعام الخامس على التوالي إلى 7.5 مولود لكل ألف شخص لعام 2021، وهو أدنى مستوى مسجل منذ عام 1949، كما تراجع معدل الخصوبة للمرأة الصينية بوتيرة مستمرة خلال السنوات الماضية، كما يبين الشكل أدناه:

الشكل 1- معدل الخصوبة – سنويًا (طفل مولود لكل أنثى)

Source: World Bank, Fertility rate, total (births per woman).

بالإضافة إلى ذلك، كشفت لجنة الصحة الوطنية أن النمو السكاني في البلاد قد تباطأ بشكل كبير وسيبدأ في الانخفاض بين عامي 2023 و2025، ومن المتوقع أن يشكل السكان كبار السن نحو 29.83% من إجمالي عدد السكان مما يعني أن مشكلة شيخوخة السكان بدأت تلوح في الأفق. وهكذا، فمن المرجح أن يؤثر تراجع عدد السكان ونسبة الشباب من إجمالي السكان على حجم القوى العاملة، وهو ما يبينه الشكل الآتي:

الشكل 2- تطور الهرم السكاني في الصين (1990-2050)

Source: Population Pyramid of China, https://population-pyramid.net/en/pp/china

يتبين من الرسم أعلاه أن نسبة الشباب من إجمالي السكان تراجعت من 28.891% خلال عام 1990 إلى 17.466% خلال عام 2022، فيما ارتفعت نسبة السكان في قوة العمل من 66.865% عام 1990 إلى 69.125% بحلول نهاية العام الجاري، وكذلك صعدت نسبة الشيخوخة في البلاد من 5.244% لتسجل 13.409% خلال نفس الفترة، فيما تشير التوقعات إلى تراجع نسبة السكان من الشباب إلى 11.447%، ونسبة السكان من قوة العمل إلى 58.726%، مقابل ارتفاع نسبة الشيخوخة إلى 29.827 بحلول عام 2050. وعلاوة على احتمالية تراجع القوة العاملة بالصين، أشارت الشركات الأجنبية إلى ارتفاع تكلفة العمالة في الصين لمستويات أعلى من الدول المجاورة لها نظرًا لارتفاع مستوى الدخل في البلاد وتراجع عرض العمالة مما يزيد من التكلفة المفروضة على تلك الشركات.

• التوترات السياسية: تزايد التوترات المستمرة بين الصين والولايات المتحدة بشأن نقل التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية حيث وجهت واشنطن إلى بكين تهمة استخدامها معدات الاتصالات للتجسس على شبكات الدول الأخرى، كما تفرض الدولتان رسوم جمركية متبادلة بشكل مستمر على منتجات بعضهما البعض مما يدفع الشركات –لاسيما الأمريكية- خارج البلاد، كما أثار النزاع المحتمل مع تايوان إثر زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” مخاوف المستثمرين والشركات العاملة بالبلاد؛ إذ دفعت الزيارة الصين لاتخاذ العديد من الإجراءات العسكرية والاقتصادية التقييدية ضد تايوان.

• لوائح تنظيمية: دفعت السياسات التنظيمية الصينية التي تستهدف صناعات معينة بشكل مباشر عددًا من الشركات الأجنبية لمغادرة السوق الصيني، حيث أعلنت شركة “ياهو” تعليق خدماتها في الصين، كما قررت شركة “إيبك جيمز” سحب لعبة الفيديو ” Fortnite” من الصين، وذلك بسبب الصعوبات التي تفرضها عليها البيئة التجارية والقانونية في البلاد، خاصة عقب إطلاق القانون الصارم المنظم لخصوصية البيانات الذي يحدد كيفية قيام الشركات بجمع البيانات وتخزينها، حيث أقر القانون ضرورة الحصول على الموافقات لجمع البيانات ومعالجتها مع ضرورة توفير طرق للمستخدمين إلغاء مشاركة البيانات الخاصة بهم، وفرض قيود على عمليات نقل البيانات عبر الحدود وفرض غرامات كبيرة في حالة عدم الامتثال للقانون يُمكن أن تصل إلى 50 مليون يوان (7.8 مليون دولار) أو ما تصل نسبته إلى 5% من إيراداتها السنوية.

هل يُمكن أن تصبح الهند مصنعًا للعالم؟

سجلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الهند أعلى مستوياتها على الإطلاق عند مستويات تبلغ نحو 81.97 مليار دولار خلال عام 2020/2021، ليستحوذ قطاع التكنولوجيا على النسبة الأكبر من الاستثمارات الموجهة للبلاد بحصة يبلغ قدرها نحو 25%، يليها قطاع الخدمات عند 12%، ومن ثم قطاع السيارات بنسبة تُقدر بنحو 12%، وقد جاء ذلك في ظل تعزيز البلاد مبادرة “صنع في الهند” التي تستهدف وضع الهند على خريطة العالم كمركز للتصنيع الدولي. ورغم رغبة الهند في استقبال الاستثمارات الأجنبية النازحة من الصين، إلا أن هناك العديد من المعوقات التي قد تواجهها في تحقيق تلك الغاية، من أهمها ما يلي:

• صعوبة ممارسة الأعمال: تعاني الهند من صعوبة في ممارسة الأعمال حيث تُعد قوانين حيازة وتملك الأراضي من أبرز العوائق التي تواجه المستثمرين الأجانب في الهند والتي ساهمت أيضًا في تقليل معنوياتهم، ولهذا تعتبر الحكومة الهندية هي أكبر مالك للأراضي في البلاد، وبينما قدمت الحكومة الصينية حوافز خاصة للمستثمرين الأجانب تتمثل في تقديم حوافز ضريبية أو سهولة أنظمة تملك الأراضي، كانت الهند تعاني من تباطؤ شديد في تطوير نظام ملكية الأراضي الخاص بها، ولهذا يجب على الحكومة تبسيط حيازتها الحالية من الأراضي، وتقديم حوافز للبنوك الخاصة والصناديق العامة للمساعدة في إنشاء وحدات تصنيع مع الشركات الأجنبية.

بالإضافة إلى ذلك، تستغرق الموافقات الحكومية على المشروعات وقتًا طويلًا حيث يبلغ الوقت اللازم لبدء مشروع تجاري جديد نحو 17.5 يومًا مقارنة بنحو 8.5 يومًا فقط في الصين، كما فرضت الحكومة الهندية قيودًا جديدة على الاستثمارات منذ أبريل 2020 تستلزم الحصول على موافقتها المسبقة للاستثمارات الأجنبية القادمة من البلدان التي تشترك في الحدود البرية معها.

وبناء على تلك التعقيدات الإجرائية، وافقت الهند فقط على نحو 80 مشروعًا من أصل 382 مشروع استثماري تلقتها الحكومة من الشركات الصينية حتى أواخر يونيو الماضي، ويدلل هذا على بيئة الأعمال الصعبة التي تواجه الاستثمار الصيني والشركات التي تمارس الأعمال التجارية في الهند.

• السياسات الحمائية: تتبنى الهند خلال السنوات الأخيرة سياسة تجارية حمائية بهدف السيطرة على عجز الميزان التجاري والحفاظ على استقرار قيمة العملة، حيث عززت السلطات من سياسة مراقبة الواردات التي شهدت زيادة حادة في الأشهر الأخيرة، مع تزايد احتمالية استهداف الواردات غير الأساسية من خلال زيادة الرسوم الجمركية، ومن شأن تلك الرسوم الجمركية أن ترفع سعر بعض السلع المستوردة اللازمة لبعض الصناعات مما يزيد من تكلفة إنتاجها ويحول دون نمو أرباحها. وبالإضافة إلى ذلك، يواجه كل من المصدرين والمستوردين في الهند تعريفات جمركية وقوانين تتغير باستمرار ولا يمكن التنبؤ بها، ولهذا يتعين عليهم التعامل مع مستويات بيروقراطية متعددة قبل نقل البضائع بسهولة عبر الحدود.

• قصور البنية التحتية: علاوة على العوامل السابقة، لن تتمكن الهند من الحفاظ على استدامة الاستثمارات الأجنبية دون إصلاح بينتها التحتية ودون تطوير موانئها، حيث يستغرق شحن البضائع المنتجة عبر ميناء موندرا أكثر من 20 يومًا، كما تعاني الهند من الازدحام المروري الذي قد يعيق حركة النقل البري وتعاني كذلك من حدوث تأخيرات في حركة الشحن بالسكك الحديدية. إلى جانب احتياج الشركات والمصانع الجديدة نحو 45 يومًا للحصول على الكهرباء، ولا يقتصر التحدي على صعوبة تأمين التيار الكهربائي للازم لممارسة الأعمال التجارية، بل أيضًا في زيادة تكاليف الكهرباء وانقطاعها بشكل متكرر. وبناء على ذلك، تحتاج الهند إلى تطوير خطوط الشحن الخاصة بها، مع زيادة التعاون بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى تطوير الموانئ وزيادة استخدام التكنولوجيا في إدارتها.

• ضعف مستويات البحث والتطوير: يُعد إنفاق الهند على البحث والتطوير من بين أدنى المستويات حول العالم، حيث تبلغ نسبته من الناتج المحلي الإجمالي نحو 0.7% مقارنة بنسب مرتفعة في الاقتصادات الآسيوية الأخرى، ويرجع ذلك إلى تركيز السلطات الهندية مواجهة مشكلات أكبر كمحاربة الفقر والجوع، والسيطرة على انتشار الأمراض، ورفع جودة معيشة الأفراد، كما يواجه البحث والتطوير معوقات أخرى كتراجع التمويل المخصص لهذا القطاع، وتأخير صرف المبالغ المخصصة لتطويره في الموازنة العامة للدولة، كما يعتمد البحث والتطوير بالهند على المنح مما يخلق حالة من التبعية يتم فيها إعاقة جودة الأبحاث العلمية، وعلاوة على ذلك، يعاني القطاع من نقص الموظفين المهرة نظرًا لعدم التناسب بين المناهج التعليمية ومتطلبات سوق العمل إلى جانب هجرة العقول الماهرة خارج البلاد، فضلًا عن ضعف مشاركة القطاع الخاص في إجمالي نفقات إجمالي نفقات البحث والتطوير.

ختامًا، يتبين مما سبق أن السوق الهندي اكتسب زخمًا شديدًا خلال الشهور الماضية نظرًا للظروف الاستثنائية التي يشهدها الاقتصاد الصيني بسبب التوترات السياسية مع الولايات المتحدة، والسياسة الداخلية التشددية تجاه كورونا، ولهذا ستتخذ الحكومة الهندية خطوات جدية لتعظيم الاستفادة من موجة الاستثمارات الحالية من خلال إجراء إصلاحات تشريعية لقوانين الاستثمارات، وتنسيق العمل بين الحكومة والقطاع الخاص، وتطوير البنية التحتية بالدرجة التي تمكنها من التعامل مع الاستثمارات وخاصة التكنولوجية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/30587/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M