نظامٌ في أزمة: ماذا يعني انتصار المُحاصصة مُجدداً في العراق؟

حارث حسن

 

مع انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف مرشح “الإطار التنسيقي”، محمد شياع السوداني، بتشكيل وزارة جديدة، يُظهِر النظام التوافقي في العراق، القائم بشكل أساسي على المحاصصة، قدرته على الاستمرارية والتكيف بعد أن واجه أقوى تحدٍّ سياسي له إثر الموجة الاحتجاجية التي اندلعت عام 2019، ومن ثمّ الانقسام الشديد بين “التيار الصدري” الذي كان يطالب بحكومة أغلبية بقيادته، و”الإطار التنسيقي” الذي تمسَّك بالتوافق، ووصول الأمر إلى حد المواجهات المسلحة المحدودة بين الطرفين قبل أن يُعلِن مقتدى الصدر انسحابه من المشهد وإيقاف اعتراضه على تشكيل حكومة السوداني.

 

أين تكمُن قوة المحاصصة في العراق؟ 

تأسست المحاصصة على فكرة التوافقية، وإجماع القوى السياسية التي احتلت المشهد السياسي بعد العام 2003 على رفض الفردانية وعودة السلطة الديكتاتورية وإقصاء المكونات الإثنية والطائفية، عبر نظام يقوم على أكبر قدر ممكن من الإجماع بين ممثلي تلك المكونات. وتدريجياً، تطوَّرت التوافقية إلى نظام محاصصاتي قائم على توزيع المناصب العليا في الدولة -وبالمحصلة الموارد المادية والمعنوية الخاضعة لها- بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، وهو ما أنتج نوعاً من الإقطاعيات السياسية، وعزّز من تشرذم بنية الدولة وفقدانها لوحدة الاتجاه، وَحَدَّ من إمكانية المحاسبة، وأسهم في استشراء الفساد ليبلغ مستويات غير مسبوقة. وقد دعمت البنية الريعية للاقتصاد من هذا المسار، حينما أصبحت المحاصصة وسيلة القوى السياسية والمسلحة للوصول إلى الريع النفطي واقتطاع حصصها منه لتمويل نشاطاتها وشبكات المصالح والأتباع المرتبطة بها.

 

وبينما خلّفت المحاصصة دولة هشّة وفاسدة، فإن مصدر قوتها الأساسية يكمُن في قدرتها على خلق اتفاق بين قوى الأمر الواقع يسمح بمقاومة التغيير لهذا النظام مقابل حصول تلك القوى على منافع تيسر استمراريتها وإعادة إنتاج نفسها. وبالنتيجة، فان تلك القوى المتعددة الانتماءات الطائفية والاثنية، تقوم بدور الوسيط بين الدولة الريعية ومجتمعاتها، تارة عبر إدارة عملية توزيع تلك المنافع داخل المجتمعات التي تنتمي إليها، وهو في الغالب توزيع زبائني يقوم على معاملة تفضيلية تستهدف خلق موالين وأتباع، وتارة عبر لعب دور السلطة الإرغامية التي تتولى التعامل مع النزعات والتيارات الاحتجاجية ومحاولات تغيير الأمر الواقع عبر استخدام العنف غير القانوني.

 

خَلَقَت المحاصصة رابحين وخاسرين، وقسّمت المجتمع إلى مستفيدين ومقصيين، ولكنها بتحويلها الدولة إلى إقطاعيات، وبإهدار كل الموارد الفائضة في الفساد المقنَّن وغير المقنَّن، وبتضخيم الجهاز البيروقراطي الذي لا يتولى إدارة أي مشروع حقيقي للتنمية، ساهمت في تعميق المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة واللامساواة وضعف الأنظمة التعليمية والصحية وتداعي البنية التحتية، لتقود إلى موجة الاحتجاجات التي بلغت ذروتها عام 2019.

 

لكن لأن الاحتجاجات لم تُفرز قيادة متمكنة موحدة ومشروعاً واضح المعالم (سوى الرفض للمنظومة القائمة)، ولأن المحاصصة أسهمت في تشكل نظام متعدد الرؤوس لا تتجسد السلطة فيه بقوة أو شخصية محددة، صار من الصعب تحديد معنى التغيير في العراق ومن المستهدف فيه وكيف سيحصل، خصوصاً بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي ومجيء حكومة انتقالية كان يُفترض أنّ رئيسها، مصطفى الكاظمي، لا ينتمي لمنظومة الأحزاب التقليدية وقريب من الفضاء الاحتجاجي. لكن تلك الحكومة الانتقالية افتقرت إلى إجماع حول طبيعة تفويضها، وفشلت في بلورة خريطة إصلاح سياسي، وتحولت في نظر البعض إلى “حكومة الصدريين”؛ الصدريون الذين ظلّوا حتى وقت قريب يلعبون دوراً مزدوجاً، باعتبارهم طرفاً في النخبة السياسية الحاكمة، وفي الاحتجاج في الوقت نفسه.

 

بينما خلّفت المحاصصة دولة هشّة وفاسدة في العراق، فإن مصدر قوتها الأساسية يكمُن في قدرتها على خلق اتفاق بين قوى الأمر الواقع يسمح بمقاومة التغيير لهذا النظام مقابل حصول تلك القوى على منافع تيسر استمراريتها وإعادة إنتاج نفسها

 

التيار الصدري، من الاستثمار إلى الانتحار 

لم يطرح الصدريون أيضاً خريطة طريق للإصلاح بالرغم من كثرة ترديد هذه العبارة من قبل زعيمهم، بل استفادوا من الموجة الاحتجاجية لكي يفرضوا تغييرات في النظام الانتخابي الذي صار يعمل لصالحهم، ولكي يُسهِّلوا تسمية رئيس وزراء من خارج تحالف الأحزاب المنافسة المنضوية حالياً في “الإطار التنسيقي”، وبشكل خاص تحالف “دولة القانون” و”الفتح”. وجاء فوز “التيار الصدري” بالمركز الأول في الانتخابات المبكرة في أكتوبر 2021، ليمثل تتويجاً لاستثمارهم الذكي في تغيير القانون الانتخابي من جهة، وفي حكومة الكاظمي من جهة أخرى. ووجد زعيم التيار في الفوز الانتخابي فرصة للمضي في مشروعه “الإصلاحي”، عبر تبني تشكيل حكومة أغلبية سياسية لا “محاصصة”، تُقصي بشكل أساسي خصمه الأساسي في الساحة الشيعية، نوري المالكي.

 

لم تكن “أغلبية” الصدر خروجاً تاماً عن المحاصصة، على الأقل بشقها الطائفي والإثني، بل محاولة لتشكيل ائتلاف أصغر من الأحزاب الفائزة في الساحات الشيعية والكردية والسنية، ودفع المالكي وحلفائه الأقرب إلى المعارضة. بدت تلك المحاولة الأكثر جدية لتحدي نظام المحاصصة، وإن بشكل جزئي، لكنها أخفقت، أولاً، بسبب حكم المحكمة الاتحادية الذي اشترط نصاب الثلثين في البرلمان لتمرير رئيس الجمهورية (الذي سيُكلف رئيساً للوزراء)، وهو نصاب لم يمتلكه ائتلاف الصدر مع مسعود بارزاني وتحالف “السيادة” السني. وثانياً، بسبب عدم وجود التزام حقيقي داخل تحالف الأغلبية مع ميل القوى الكردية والسنية لتفضيل نظام المحاصصة بوصفها أداة لحماية مصالحها. وثالثاً، بسبب الضغط الإيراني الرافض لإقصاء القوى الحليفة لطهران، والذي بلغ ذروته بدفع كاظم الحائري، الذي كان يعتبر المرجع الفقهي للتيار الصدري، إلى إعلان تقاعده ومهاجمة الصدر بهدف رفع غطاء الشرعية الدينية عنه. ورابعاً، بسبب الصدر نفسه، الذي انفرد بسلطة القرار والتنفيذ في “التيار الصدري”، مقصياً أغلب مستشاريه، ليُظهر ضعفاً كبيراً في إدارة العمل السياسي والتفاوض وصياغة الخيارات والحسابات. وبينما كان ولاء الصدريين لمقتدى الصدر نقطة قوة أساسية للتيار لأنه ولاء حافظ على تماسكه وانسجامه ونجاحه الانتخابي الأخير، فان قيادة الصدر المنفردة وطبيعة شخصيته المزاجية وافتقاره لعناصر مهمة في الكفاءة السياسية، أسهمت في تحويل الفوز إلى هزيمة.

 

كان قرار الصدر بإجبار نواب كتلته النيابية الكبيرة على الاستقالة من البرلمان، كما يرى مراقبون كثيرون، خطأً استراتيجياً كبيراً، خصوصاً أن هناك معلومات تشير إلى أنه استند على تقديرين ثبت عدم صحتهما، الأول أنّ حلفاءه الكرد والسنة سيحذون حذوه وبالتالي يسحبون الشرعية عن البرلمان، والثاني أنّ قوى “الإطار التنسيقي” ستتردد في ملء مقاعد نوابه الفارغة. كانت محصلة قرار الصدر تزايداً كبيراً في عدد مقاعد “الإطار التنسيقي” ليصبح الكتلة البرلمانية المهيمنة بلا منازع، وفتح الطريق أمام القوى الكردية والسنية التي تركز بشكل أساسي على حصصها من صفقة المحاصصة على التقارب من “الإطار التنسيقي” من أجل إنتاج صفقة جديدة. وما زاد من الخسارة الصدرية الطريقة التي انتهت إليها محاولة الصدريين اقتحام المباني الحكومية بالمنطقة الخضراء والمناوشات المسلحة مع الفصائل المسلحة الموجودة هناك، والتي أظهرتهم بمظهر “الخارج عن القانون” من جهة، وتسببت لهم بانكسار معنوي مع تخلي زعيم التيار عن أنصاره وعن مسؤوليته فيما حدث صباح اليوم التالي.

 

يحاول أنصار الصدر، إظهار انسحابه على أنَّه التزامٌ مبدأيٌّ بعدم دخول نظام المحاصصة مجدداً، ولكن مع توافر خيارات أخرى من قبيل تعليق عضوية كتلته بدلاً من استقالتها أو تكوين تحالف معارضة واسع داخل البرلمان، لا يبدو هذا التفسير مقنعاً. وقد يكون الصدر مُنشغلاً حالياً بالتعامل مع إشكالية السلطة الدينية في تياره بعد اعتزال الحائري، وقد يراهن على الوقت وعلى إخفاق حكومة السوداني للعودة إلى المشهد بعد الانتخابات المقبلة، لكن خصومه قد يستفيدون مما حصل لتقوية قبضتهم على مؤسسات الدولة وتغذية الانشقاقات داخل تياره وإضعافه أكثر.

 

رغم الانتصار الجديد الذي حققته المحاصصة في العراق، فإنّ قدرتها على الاستمرار على المدى الطويل تظل في محل الشك؛ لصعوبة إنتاجها حكومات ناجحة قادرة على التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، ولأنّها ستواجه تحدياً مستمراً من داخلها وخارجها

 

التأزُّم الدائم لنظام المحاصصة 

رغم الانتصار الجديد الذي حققته المحاصصة، فإنّ قدرتها على الاستمرار على المدى الطويل تظل في محل الشك؛ أولاً لصعوبة إنتاجها حكومات ناجحة قادرة على التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، بسبب انقسامات أطرافها، والتنافس بين الإقطاعيات السياسية داخلها، وعجزها عن إنتاج مشروع تنموي ناضج. وثانياً، لأنّها ستواجه تحدياً مستمراً من داخلها وخارجها؛ فأيّ رئيس وزراء يطمح للنجاح سيدخل في نزاعات مع القوى السياسية لانتزاع مساحة أوسع له في القرار والتصرف، بشكل يخلق توتراً مع تلك القوى، وقد يتسبب بانسحابات من الحكومة، كما أن الخاسرين من منظومة توزيع المنافع الريعية في المجتمع سيحاولون دائماً تحدي القوى المستفيدة عبر الاحتجاج أو الممارسات العنيفة. وقد تتعمق أزمة هذا النظام في حالة تراجُع أسعار النفط، وبالتالي تقلُّص الريع المتوفر لتغذية شبكات المصالح والأتباع المرتبطة بالأحزاب المؤتلفة في الحكومة وترضية بعض القطاعات الاجتماعية.

 

إنّ حالة التأزم الدائمة التي تصحب نظام المحاصصة في العراق قد تُفضي إلى مزيد من الانهيارات أو الانشقاقات التي يصعب معها إدامته، أو إلى نجاح أحد أطرافها -في صراعه مع الأطراف الأخرى- بتوطيد وجوده في المفاصل الحسَّاسة للدولة، وبشكل خاص الجهاز الأمني، والسيطرة على جزء أكبر من الريع، لإقصاء الآخرين وإعادة تشكيل النظام من الداخل.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/nezam-fi-azma-madha-yani-aintisar-almuhasasa-mujddan-fi-al-iraq

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M