نقد تحقيقات المستشرقين لمخطوطات علوم القرآن (نقد تحقيق الدكتور آرثر جفري لكتاب المصاحف لعبد الله بن أبي داود السجستاني، المتوفّى 316هـ)

د. أحمد عطية

 

ملخّص [1]

بعد بیان موجز للخريطة المعرفيّة للمنجز التأليفي لـ (آرثر جفري)، بعرض سريع لما كتبه «آ» في حقل الدراسات القرآنيّة، وإيضاح الوجهة التي سلكها في تعامله مع التراث العربي، فقد سلك سبيل الدرس القرآني بين التأليف والتحقيق. يتناول الباحث في هذه الدراسة نقد الإجراءات التي اعتمدها المستشرقون في نشر النصوص العربيّة المخطوطة، دون الدخول مع المستشرق المحقّق للنصِّ في سجال فكري حول آرائه التي حاول أن يبثَّها من خلال معالجته للنصّ المخطوط. فبعد عرضه للإجراءات المعتمدة في علم التحقيق التي ينبغي أن يلتزم بها المحقّق بشكلٍ عام، كاختيار نصٍّ ما للتحقيق، وجمع النُّسخِ الخطيّة للمخطوط المراد تحقيقه، ثمّ ترتيب منازل النُّسخِ لتحديد النسخة أو النُّسخ المعتمدة في عمليّة التحقيق، ثمّ المقابلة بين هذه النُّسخ الخطيّة، يليه تخريج النصِّ والتعليق عليه، كتخريج الترجمة للأعلام والمصطلحات الواردة في النصّ، ثمّ صنع الكشّافات الخادمة للنصّ، وملاحظة المقدّمات القبليّة الخادمة للنصّ مثل مقدّمة التحقيق، ودراسة النُّسخ الخطيّة، ودراسة مؤلّف المخطوط، وبيان منهج التحقيق. يتناول الاتجاهات العلميّة النقديّة للنصوص المحقّقة من قبل المحقّقين؛ ليشرع بعد ذلك بنقد منهج المستشرق آرثر جفري، مركّزاً على إجراء جمع النسخ الخطيّة، والنسخ الخطيّة التي اعتمد عليها المستشرق، إذ يتبيّن أنّ ما ادعاه نسخًا ثلاثًا هو في الحقيقة نسخة واحدة، ثمّ يعمد إلى نقد إجراء تخريج النصّ والتعليق عليه، والذي تبيّن أنّه قد وقع في الكثير من الهفوات في تحقيقه لكتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني.

المحرِّر


تقديم

المستشرق «آرثر جفري» استرالي الجنسيّة، عُيّن أستاذًا في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، ثمّ أستاذًا في جامعة كولومبيا، ثمّ أستاذًا للغات الساميّة في مدرسة اللغات الشرقيّة بالقاهرة. دارت دراساته حول القرآن الكريم، فكتب عدّة مؤلّفات بين التأليف والتحقيق، كان محورها الدراسات القرآنيّة، وقد حقَّق «جفري» شهرة كبرى في هذا المجال، حتّى غدا مرجعًا لكثير من الدارسين الغربيين للقرآن الكريم.

وتنوّعت تلك المؤلّفات بين الدراسات البحثيّة والكتب المؤلّفة، فمن دراساته البحثيّة دراسة عن مختصر شواذ القرآن، لابن خالويه، ونشرتها صحيفة الجمعيّة الشرقيّة الأمريكيّة عام 1936م، ثمّ أعاد نشرها في مجلّة الدراسات الإسلاميّة عام 1938م. ثمّ دراسة ثانية عن طريقة كتابة القرآن في سمرقند، ونشرها في المجلّة الآسيويّة سنة 1908، ثمّ أعاد نشرها في مجلّة الجمعيّة الشرقيّة الأمريكيّة سنة 1942. ودراسة ثالثة عن أبي عبيدة والقرآن، ونشرها في الصحيفة الأمريكيّة الشرقيّة عام 1942. ودراسة رابعة عن القرآن، وهي دراسة نشرها في عدّة مجلّات علميّة، جاء أوّلها في مجلّة عالم الإسلام عام 1924، ثمّ في الصحيفة الأمريكيّة للغات والآداب سنة 1924، ثمّ في مجلّة الشرق الحديث عام 1932م. ولديه كذلك دراسة بحثيّة حول قراءة زيد بن علي، ونشرها في مجلّة الدراسات الشرقيّة عام 1904م، وأعاد نشرها عام 1937م في المجلّة نفسها. بالإضافة إلى دراسة أخرى جاءت تحت عنوان: نصوص من القرآن، ونشرها في مجلّة عالم الإسلام عام 1935م[2].

ومن المؤلّفات التي كتبها «آرثر جفري» ودارت حول حقل الدراسات القرآنيّة:

– مقدّمتان في علوم القرآن؛ لابن عطيّة ومؤلّف مجهول، وقد نشرته مؤسّسة دي غويه سنة 1937م، ثمّ نشرته مكتبة الخانجي بالقاهرة عام 1954م.

– كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني (قراءة وتعليق)، نُشر عدّة نشرات لعلّ أقدمها طبعة المطبعة الرحمانيّة بمصر سنة 1936م.

– مواد لدراسة تأريخ نصّ القرآن، وقد نشرته ليدن سنة 1937م.

– كتاب المفردات الأجنبيّة في القرآن، وقد تمَّ نشره عام 1938م.

– كتاب القرآن ككتاب ديني، وقد صدر باللغة الانجليزيّة، وقد ترجمه نبيل فيّاض إلى العربيّة، ولعلّه في طور الطباعة الآن عن دار أبكالو في ميونيخ بألمانيا.

هذه إشارة سريعة لما كتبه «آرثر جفري» في حقل الدراسات القرآنيّة، وهي إشارة مهمّة؛ لأنّها تقدّم ما يمكن أن نسمّيه بالخريطة المعرفيّة للمنجز التأليفي لـ (آرثر جفري)، وهو أمر جدير بالاهتمام؛ لأنّه يوضّح الوجهة التي سلكها الدكتور «جفري» في تعامله مع التراث العربي، فقد سلك سبيل الدرس القرآني بين التأليف والتحقيق، وواضح كذلك مدى اهتمامه باللفظة القرآنيّة من زاوية تاريخيّة اللفظة وكيفيّة قراءتها، والتي هي موضوع علم القراءات، وكذلك بالشاذّ أو الغريب، ولم يهتمّ بتناول اللفظة من زاوية علم التفسير مثلاً، أي إنَّ آرثر جفري اهتمّ في الدرس القرآني بتناول قضايا معيّنة تخدم فكرته التي من أجلها تعرَّض لدراسة النصّ القرآني. والمنطلق الرئيس الذي انطلق منه جفري في دراسة هذه القضايا هو المساواة بين «النصّ القرآني» و «التوراة والإنجيل» من حيث كونه منجزًا بشريًّا، لا نصًّا مقدّسًا نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن بين هذا المنجز المعرفيّ الذي يمثِّل الدرس القرآني وجهته المعرفيّة يظهر تحقيقه وتعليقه على كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني (المتوفّى 316 هجرية)، وهو كتاب مهمّ في بابه؛ لأنَّه يعرض «لكتاب الله سبحانه من حيث جمعه بجميع مراحله، واختلاف مصاحف الأمصار، وما أُثر عن مصاحف بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما نُقل عن بعض التابعين من قراءات، والحديث عن رسم القرآن ونقطه، وكتابته، وأخذ الأجرة عليها، وجملة وافرة من الأحكام المتعلّقة بالقرآن الكريم؛ كمسِّ المصحف على غير طهارة، وبيعه، وارتهانه، والسفر به إلى أرض الكفر، وإمامة المصلّين من القرآن، وغير ذلك»[3].

وهذا الكتاب هو موطن الرؤية النقديّة في هذه الدراسة، فقد حقَّق آرثر جفري كتاب المصاحف، وكتب له مقدّمة عن تاريخ القرآن أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الفكريّة، خاصّة في المشرق الإسلامي، ولكنّ قيمتها الحقيقيّة تنبع من أنّها حملت في داخلها ملخّص أفكار آرثر جفري عن الدرس القرآني. ومن المفترض أن يتَّخذ النقدُ الموجّه لأيّ نصٍّ تمّت معالجته معالجة علميّة من قِبل علم التحقيق اتجاهين:

الاتّجاه الأوّل: نقد الآراء الفكريّة للمحقّق في تحقيقه، أو في معالجته للنصّ المخطوط، وعادة ما تكون هذه الآراء ظاهرة مثبتة في مقدّمة التحقيق، بحيث يعبر عنها المحقّق مباشرة موضّحًا رأيه في تلك القضايا التي يعالجها المخطوط، وينصِّب من نفسه -في بعض الأحيان- خصمًا للمؤلّف، أو ينبري مدافعًا عنه وعن قضاياه التي ربّما تثير الجدل في قضيّة ما. والحقيقة أنَّه في هذا الطريق تقع بعض مقدّمات المستشرقين لأعمالهم التحقيقيّة التي عالجوا فيها بعض النصوص الخطيّة العربيّة، ومن هذا النوع تلك الدراسة التي قدَّم بها الدكتور آرثر جفري تحقيقه لمخطوط «كتاب المصاحف» لابن أبي داود السجستاني (المتوفّى 316 هجريّة)، فقد صدَّر تحقيقه للكتاب بمقدّمة بيّن فيها آراءه الفكريّة حول قضيّة تاريخ تطوّر القراءات القرآنيّة، وعرض فيها بعض نتائج أبحاث المستشرقين حيال هذه القضيّة[4].

وفي بعض الأحيان تكون هذه الآراء مستنبطة من المعالجة التحقيقيّة للنصّ المخطوط، وتظهر أكثر ما تظهر في هامش التحقيق، حيث تعليقات المحقّق على النصّ وترجيحاته، وهو أمر يحتاج من الناقد لعمليّة التحقيق أن يكون متخصّصًا في المتن موطن الدراسة؛ ليفهم أوّلًا مقصد المحقّق من كلامه، ثمّ يتمكّن ثانيًا من الردّ عليه ونقد رأيه الفكري.

وهذا الاتّجاه في النقد الذي يدور حول نقد الآراء الفكريّة للمحقّق اتجاه عامّ، يشمل ما أنتجه المستشرقون من تحقيقات أو معالجات للنصّ المخطوط، وما أنتجه المحقّقون العرب من تحقيقات صدَّروها بمقدّمات طويلة بيّنوا فيها آراءهم الفكريّة؛ مثل ما صدَّر به الأستاذ محمود شاكر تحقيقه لكتاب «أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني.

وقد تعرَّضتْ الآراء الفكريّة التي أثبتها المستشرقون في مقدّمات تحقيقاتهم لردود كثيرة، وأوضح مجالٍ تجلَّت فيه تلك الردود هي تلك المقدّمات التي كُتبت من قِبل المحقّقين العرب الذي أعادوا تحقيق المخطوط الذي نشره المستشرق من قبلُ، ومن أدقّ الأمثلة على ذلك تلك المقدّمة التي صدَّر بها محقّق النشرة الثانية من «كتاب المصاحف» لابن أبي داود السجستاني أثناء إعادة تحقيقه للكتاب، إذ تصدّى فيها لتلك الآراء الفكريّة التي أثبتها آرثر جفري في مقدّمة التحقيق الأوّل للكتاب[5].

هذا اتجاه من اتجاهات النقد الموجّهةِ لعمليّة التحقيق بوجه عامّ، والتي تتمّ من قِبل محقّق يعمل على معالجة النصّ المخطوط؛ ليحاول الوصول به إلى أقرب صورة أرادها مؤلّفه. وهذا الاتّجاه يتجلّى في أكثر صوره في تحقيقات المستشرقين لكتب التراث العربي، ثمّ تلك الردود والانتقادات التي صدَّر بها المحقّقون العرب إعادة نشراتهم لتلك النصوص المخطوطة مرّة أخرى.

الاتّجاه الثاني: نقد إجراءات التحقيق، والمقصود بها الآليّات المختلفة التي سلكها المحقّق في تحقيق النصّ المخطوط، وهي مهمّة للغاية، وينبغي أن يُلتفت إليها قبل التناول الفكري لأيّ عمل خاض فيه محقّقه في قضايا فكريّة أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط العلميّة، سواء في مقدّمته لهذا العمل، أو من خلال التعليق على المتن في هامش التحقيق.

وقيمة الالتفات إلى هذه الإجراءات -إجراءات التحقيق- أنّها ربّما تقدّم لنا دليلًا وافيًا واقعيًّا على أنَّ النصّ الذي احتجّ به المستشرق في دراسته هذه غير صحيح، وعدم الصحّة قد يكون بسبب أنَّ المستشرق لم يفهم المقصد من علم التحقيق جيّدًا في تراثنا العربي، فحقّق الكتاب على نسخة ضعيفة متروكة من نسخ المخطوط، أو لم يستطع أن يحدّد منازل النُّسخ المختلفة، أو أخطأ في فهم المتن لجهله بالعربيّة، فجاء تعليقه على المتن بعيدًا تمامًا عن مقصد مؤلّفه، أو أخطأ في قراءة المتن، فضعف العلم بالعربيّة قد يدفع بعضهم إلى الانسحاب بالنصّ بعيدًا عن مقصد مؤلّفه.

كلّ هذه قضايا مهمّة تجعل مسألة نقد التحقيق من حيث كونه تحقيقًا من أخطر المسائل التي ينبغي أن نتعرّض لها عند الردّ على شبهات المستشرقين التي أثاروها في كتبهم المحقّقة التي تعدُّ جزءًا مهمًّا من تراثنا العربي.

إنَّ نقد التحقيق ربّما يختصر الردّ لأقلّ درجاته، والذي يتمثّل في القول أنَّ النسخة التي احتجّ بها المحقّق غير صحيحة، وبالتالي فإنَّ مجمل كلامه وفهمه للنصّ مبنيٌ على وهم غير صحيح.

إنّها طريقة مهمّة ربّما نحاول في المستقبل -إن شاء الله تعالى- تطبيقها على أكثر من منجزٍ تحقيقيّ لبعض المستشرقين الذين تعرّضوا للتراث العربي المخطوط من زاوية علم التحقيق، وأثاروا من خلالها قضاياهم الفكريّة حول الإسلام وأهله، خاصّة فيما يتعلّق بالدرس القرآني.

على أيّة حال إنَّ الإشكاليّة الكبرى في نشرة «آرثر جفري» لكتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، والتي تتجلّى من خلالها الدراسة النقديّة تتّضح من زاويتين كبيرتين:

الزاوية الأولى: تلك المقدّمة التي صدَّر بها تحقيقه لكتاب المصاحف، والتي قصد من ورائها الحديث عن تاريخ القرآن.

الزاوية الثانية: عمله في تحقيق النصّ، وأوجه النقد التي وجِّهت إليه في ذلك.

وسوف نتناول فيما يلي -إن شاء الله تعالى- دراسة هاتين الوجهتين النقديّتين بشيء من التفصيل:

أوّلًا: مقدّمة آرثر جفري لكتاب المصاحف

يبدو من قراءة مقدّمة الطبعة العربيّة لكتاب المصاحف، والتي نُشرت عن مطبعة الرحمانيّة سنة 1936م أنّها مختصرة من مقدّمة آرثر جفري التي كتبها بالإنجليزيّة تحت عنوان: (Matrerals For The History of The Text of The Quran).

وهي تدور في مجملها حول قضيّة «تاريخ القرآن» ممثّلة في قضية اختلاف النصّ القرآني بين المصاحف المختلفة التي نشأت بعد عصر النبوّة، وتعالج هذه المقدّمة عدّة قضايا طرحها آرثر جفري بين ثناياها، وحاول التدليل عليها من هنا وهناك، منها قضيّة تطوّر قراءات القرآن، وهي القضيّة العمدة عنده في هذه المقدّمة، فقد دارت حولها بقيّة المسائل المعرفيّة التي أراد أن يبثّها فيها، يقول جفري: «نتقدّم بهذا الكتاب للقرّاء على أمل أن يكون أساسًا لبحث جديد في تاريخ تطوّر قراءات القرآن»[6].

إنّ ما يقصده جفري بتطوّر القراءات ليس هو نفسه ما يتبادر إلى ذهن الباحث أو العالم المسلم من كونه ربّما يشير إلى ائتلاف وجوه القراءة المنقولة عن رسول الله في قراءات سبع أو عشر أو أربع عشرة على أيدي القرّاء الكبار؛ بل ما يقصده هو ما وقع من تطوّر في قراءات كتب اليهود والنصارى بسبب التحريف في النُّسخ على مرّ العصور، فهو يسمّي هذا التحريف والتغيير والتبديل تطوّرًا، ثمّ يزعم أنّ في القرآن مثله، وأنّه ينبغي علينا إبرازه وبيانه[7].

وواضح من المقدّمة أنَّ لدى آرثر جفري إشكاليّة كبرى بنى عليها كلامه، وهي تتعلّق في التسوية بين النصّ القرآني وبين الكتب المقدّسة الأخرى، وخاصّة التوراة والإنجيل اللذين تعرَّضا لكثير من التحريف على يد المؤمنين بهما، وكان هذا التحريف دافعًا للباحثين في البحث عن الأصول الأولى، وبيان تطوّر هذه الأصول عبر الزمن. هذا ما يقصده «جفري» من دراسة تطوّر القراءات القرآنيّة.

إنَّ هذا الوهم الذي توهّمه جفري وبنى عليه افتراضاته، أوقعه في مأزق كبير حيال الفكر الإسلامي المعاصر له، وحيال موضوعيّة البحث في ذاتها، إذ تعرّضت مقالته هذه لموجات من الردّ عنيفة عكست مقدار تورّطه في الطعن على الإسلام وكتابه المقدّس القرآن الكريم.

لقد تجلَّت هذه التسوية -بين النصّ القرآني والكتب الأخرى- في هذا التساؤل الذي طرحه في المقدّمة، والذي صاغه في أسلوب تعجّبي قائلًا: ولا ندري على التحقيق لماذا كفُّوا عن هذا البحث في عصر له نزعة خاصّة في التنقيب عن تطوّر الكتب المقدّسة القديمة، وما حصل لها من التغيير والتحوير ونجاح بعض الكتّاب فيه»[8].

هذه هي القضيّة الأساسيّة في فكر «جفري»، وهي قضيّة أنَّ القرآن منجزٌ بشريٌّ كغيره من الكتب الأخرى، حصل له من التغيير والتحوير ما حصل لغيره، وأيّ محاولة للردّ على هذا المستشرق بعيدًا عن هذه القضيّة الأساسيّة لا قيمة لها؛ لأنَّ هذا مُنطلقه الذي بنى عليه فرضيّة دراسته.

لقد قام علماء الغرب -في رأيه- بأبحاث ودراسات قيِّمة حول التوراة والإنجيل، وهي ناتجة عن عثورهم على قطع قديمة من القرطاس والبردي تحفظ آيات وأسفار من هذه الكتب المقدّسة، والتي كشفت لهم مقدار التحريف الذي تعرّضت له نصوص هذه الكتب على يد أصحابها، الأمر الذي حدا بهم إلى دراسة عمليّة التطوّر التي تعرّضت لها نصوص التوراة والإنجيل، ولكن لا نجد شيئًا من هذه الأبحاث في القرآن، وهذا موطن من مواطن التعجّب لدى آرثر جفري.

ثمّ تثير المقدّمة قضيّة التعارض أو الصراع بين المتمسّكين بالنقل والمتمشّين مع العقل -على حدّ تعبيره-وينتصر جِفري لأصحاب العقل الذين أخضعوا تلك الكتب المقدّسة للدراسة والبحث اللذين أفضيا إلى القول بتحريفها، وهو ما أشعل الحرب بينهما وبين أهل النقل.

ثم يقدِّم جفري تصوّرًا لمنهج كلا الفريقين أهل النقل والقائلين بالعقل، «فأهل النقل اعتمدوا على آراء القدماء وعلى هذه التخيّلات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، والتي نقلها العلماء من دور إلى دور، وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافًا اختاروا واحدًا منها، وقالوا إنّه ثقة وغير ضعيف وكاذب. وأمّا أهل  التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصوّرات بأجمعها؛ ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد، يجتهدون في إقامة نصّ التوراة والإنجيل كما أُقيم نصّ قصائد هوميروس أو نصّ رسائل أرسطو الفيلسوف»[9].

إنَّ قراءة الصفحات الأولى من هذه المقدّمة تعكس منهج آرثر جفري في تعامله مع النصّ القرآني، فهو يراه من حيث اعتباره منجزًا بشريًّا معرّضًا للتحريف والتحوير وقابل لإعادة بناء المتن مرّة أخرى، وتلكم نقطة جوهريّة في فكر آرثر جفري ينبغي أن توضع في الاعتبار عند الردّ عليه.

ولا يخفى ما في كلامه السابق عن أهل النقل من طعن في قضيّة «السند» الذي هو من خصائص هذه الأمّة المحمّدية، والتي رويت لنا به القراءات المتواترة والسنّة النبويّة المطهّرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)»[10].

أمَّا قضيّة إعادة البناء هذه، أو إقامة النصّ مرّة أخرى من خلال ما عُثر عليه من مخطوطات فهذا وهمٌ؛ لأنَّ النصَّ المـُعاد بناؤه لا بدّ أن يختلف عن المتن الأصلي ولو بدرجات طفيفة، «يقول البروفيسور لي مارتن ماكدونالد والبروفيسور ستانلي بورتر، وهما من علماء التيّار المحافظ: «رغم أنّ معظم الناس يدركون جيّدًا أنّنا لا نملك الوثائق الأصليّة للعهد الجديد (أو أيّ مخطوطات أصليّة للكتاب المقدّس بالمناسبة)، لكنّهم لا يفهمون ماذا يعني النقد الكتابي (Textual Criticism) وما هو الغرض منه. الهدف من النقد الكتابي أمرٌ من اليسير شرحه، لكن من العسير جدًّا تحقيقه. بعبارة سهلة هو عبارةٌ عن إعادة بناء نصّ أقرب ما يكون للنصّ الأصلي من خلال قلم الكاتب. فعند كل نقطة تكون فيها قراءة مختلفة (textual variant) أي: عندما تقدّم المخطوطات قراءات مختلفة تكون أحيانًا صغيرة جدًّا لدرجة الاختلاف في حرف واحد، وتكون أحيانًا كبيرة جدًّا تبلغ جملة كاملة أو فقرة كاملة (مثل يوحنا 7: 53 أو 8: 11 أو مرقص 16: 9)- يجب على الناقد الكتابي أن يحدّد أيّ قراءة هي الأقرب للأصل. ومن غير المحتمل أن يكون النصّ المـُعاد بناؤه الناتج عن هذه العمليّة مطابقًا للأصل، بل إنّه من المؤكّد تقديره كذلك أنّ النصّ الأصلي لا يطابق أيّاً من النُّسخ الموجودة، فكلّ المخطوطات الباقية عبارةٌ عن أجيالٍ متواليةٍ من النُّسخ للنصِّ الأصليّ»[11].

ولا أريد أن أتوقّف أمام هذه النقطة كثيراً؛ فقد تناولتها عدّة أقلام انبرى أصحابها للردّ على آرثر جفري، ولكن غاية ما أردت الإشارة إليه هو أنَّ هذه المقدّمة تُفصح بشكلٍ كامل عن منهج آرثر جفري في تناوله للدرس القرآني، لذلك ينبغي أن يأتي الردّ وفق منطلقاته الفكريّة، وإلّا فلن يؤتي ثماره.

ثم يقدِّم آرثر جفري مثالًا على القائلين بالمنهج العقلي، وهو كتاب «تاريخ القرآن» للمستشرق الألماني (نولدكه) إذ يقول: «بدأ نولدكي الألماني باستعمال طريقة البحث هذه في نصّ القرآن الشريف في كتابه المشهور الجليل: تاريخ القرآن. نشر هذا الكتاب سنة 1860م وهو الآن أساس كلّ بحث في علوم القرآن في أوروبا»[12].

ثم تكلّم جفري على هذه المعركة العنيفة التي شنَّها أهل النقل على نولدكه عقب صدور كتابه تاريخ القرآن، ويحدّد جفري أصحاب النقل في الشرق بالذات، وهو يعني بالطبع المسلمين، ولكنّه لم يصرّح بذلك كعادة المستشرقين في كتاباتهم، ثم يعود فيدافع عن نولدكه ومن نحا نحوه من الباحثين فيقول: «مع أنَّ إنصافهم وصدق نيّتهم وعدم محاباتهم ظاهر، تبيّن من كتبهم أنّهم لا يرمون إلّا الكشف عن الحقّ، وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أنّهم يعتبرون المتن دون الإسناد، ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد متواترة كانت أم ضعيفة، فكثيرًا ما تناقض نتائج أبحاثهم بهذه الطريقة تعليم أهل النقل الذي قد عُرف بين العلماء من زمن بعيد»[13].

والردّ على جِفري في هذه النقطة بسيط جدًّا يتمثّل في ردِّ قوله بالتناقض الحادث بين دراسة المتن والقول بالسند والرواية عند أهل النقل، فدراسة السند والرواية عند أهل النقل من معضدات المتن، وأيّ دراسة صحيحة منصفة ستفضي بالتوافق بين الجانبين باعتبارهما المكوّن العامّ للبنيّة المعرفيّة للنصّ المدروس.

ثمّ أورد جِفري بعض نتائج أبحاثهم حول تاريخ القرآن الكريم، والتي تمثَّلت في أنّه لمـَّا قُبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن في أيدي قومه كتاب، ثمّ قضيّة اختلاف مصاحف الصحابة، ثمّ ثالثًا إنَّ مصاحف بعض الصحابة أخذ مقامًا يعتدّ به في الأمصار. رابعًا: إنَّ عمليّة الجمع على حرف واحد كانت على يد عثمان بن عفان. خامسًا: خلوّ مصحف عثمان من النقط والتشكيل.

هذه بعض النتائج التي أسفرت عنها الدراسات والأبحاث التي دارت من قبلِ أصحاب العقل -على حدّ تعبير جفري- حول الدرس القرآني، وهي نتائج ليست غريبة عن الفكر الإسلامي، فقد ناقشها ابن أبي داود السجستاني نفسه في كتابه «المصاحف» الذي صدَّره جفري بهذه المقدّمة، ولنأخذ مثالًا واحدًا يمكن أن نبيّن من خلاله آليّات الردّ على ما طرحه جفري في مقدّمته معتمدًا على فهمه لما أورده ابن أبي داود السجستاني في كتابه: المصاحف، وهو قضيّة اختلاف مصاحف الصحابة، إذ يمكن الردّ على هذه القضيّة من خلال النقاط الآتية:

أوّلًا: لقد أجمع علماء التفسير والقراءات أنَّ الزيادات في مصاحف الصحابة لا تعدو كونها تفسيرًا للقرآن، أو قراءة شاذّة أو خاصّة.

ثانيًا: لقد أجمع الصحابة على مصحف عثمان حال حياته وبعد مماته ولم يتعصّبوا لمصاحفهم.

ثالثًا: هذه المصاحف مشكوك في صحّتها ونسبتها إلى الصحابة؛ لأنّ نصوصها لم تبلغنا، بل بلغنا بعض الروايات عن ترتيب سورها وأوجه قراءتها.

ويكفي ما أورده صاحب كتاب «المباني» في هذا الباب، إذ يقول: «وإذ قد بيّنا الكلام في أنَّ القرآن تكلّم سبحانه به على هذا الترتيب الذي هو في أيدينا اليوم، لا على ترتيب النزول، وأوضحنا الحجج فيه من دلائل الأخبار والإجماع والمعقول …زعموا أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسقط من المصحف خمسمائة حرف. وقد بيّنا فيما قبل ما يكفينا القول فيه من اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على تأليفه ورضاهم بمصحفه. ولو كان كما قالوا لعارضه الحفّاظ الذين حفظوا جميع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»[14].

«فلو كان أصحاب المصاحف من الصحابة يعتقدون أنّ ترتيبهم الأكمل والأصحّ، لخالفوا عثمان وأعلنوا ذلك للمسلمين، واستمسكوا بترتيب مصاحفهم، ولم يأخذوا بترتيب المصحف العثماني، لكنّ شيئًا من هذا لم ينقل إلينا، وإنّما الذي نُقل هو إجماعهم على مصحف عثمان رضي الله عنه دون مخاصمة في تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان».

ثانيًا: نقد تحقيق آرثر جفري لكتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني

هذا هو الاتّجاه الثاني من اتّجاهات النقد الموجّهة لأيّ منجزٍ تحقيقيٍّ، وهو يتمثّل في نقد إجراءات التحقيق، أو نقد المنهج الذي اتَّبعه المستشرقون في إخراج المخطوط ونشره. وهو اتّجاه نقديّ يدور حول الآليّة المتّبعة من قبل المستشرق في عمليّة المعالجة التحقيقيّة للنصّ المخطوط، ويحاول هذا الاتّجاه أن يجيب على سؤال: هل استوفت المعالجة التحقيقيّة للمخطوط من قبل المستشرق إجراءات علم التحقيق؟!.

صحيح أنَّ هذه الإجراءات لم تكن معروفة بالشكل الذي هي عليه الآن في تلك البدايات الأولى التي أخذ فيها المستشرقون على عاتقهم الممارسات الأولى لعلم التحقيق في الدرس التراثي المعاصر، فقد كان للاستشراق سبق الممارسة لا سبق التأسيس، فإجراءات علم التحقيق بمفهومها الحديث معروفة في تراثنا العربي، ومنصوص على الكثير منها في تلك المؤلّفات التي دارت حول علم الحديث النبويّ ووضع مناهج لاختياره ونقده، كما عند القاضي عيّاض في «الإلماع في معرفة أصول الرواية وتقييد السماع»[15]، وكما عند ابن الصلاح في كتابه «معرفة أنواع علوم الحديث»[16] المشهور بمقدّمة ابن الصلاح، وكما عند العلموي أيضًا في كتابه «المعيد في أدب المفيد والمستفيد»[17].

إنَّ كلَّ هذه المؤلّفات التي دارت حول علم الحديث وحاولت التأصيل لمنهج نقدي يعكس إسهامات العقليّة العربيّة في هذا الجانب، مثَّلت الجذور الأولى لعلم التحقيق في تراثنا العربي، لذلك يخطئ من ظنَّ أنَّ أسس علم التحقيق قد وُضعت على أيدي المستشرقين، وإنّما كان لهم فضل السبق من ناحية الممارسات الأولى في إخراج النصوص المخطوطة ونشرها.

على أيّةِ حالٍ إنَّ الاتجاه الثاني يشمل نقد تلك الإجراءات التي اعتمدها المستشرقون في نشر النصوص العربيّة المخطوطة، وهو اتّجاه ينبثق من النصّ ذاته دون الدخول مع المستشرق المحقّق للنصِّ في سجال فكريّ حول آرائه التي حاول أن يبثَّها من خلال معالجته للنصّ المخطوط.

وتتمثّل إجراءات علم التحقيق التي ينبغي أن يلتزم بها المحقّق بشكلٍ عام فيما يلي:

أ. اختيار نصٍّ ما للتحقيق، ولهذا الاختيار شروط، يأتي على رأسها أن يكون المحقّق متخصّصًا في الفنّ الذي ينتمي إليه المخطوط، فلكل فنٍّ مصطلحاته، أو معجمه الاصطلاحي الذي لا يدركه إلا أهل التخصّص في هذا الفنّ، والإخلال بقضيّة التخصّص يؤثّر حتمًا على معالجة المتن وفهمه، وقد يؤدّي في النهاية إلى إنتاج نصٍّ مشوّهٍ يبتعد غاية البعد عن مراد مؤلّفه.

ب. جمع النُّسخِ الخطيّة للمخطوط المراد تحقيقه، وهذا الإجراء يتطلّب من المحقّق أن يكون على معرفة بدور وخزائن المخطوطات المختلفة، وأن يكون على علمٍ بفهارسها وكيفيّة البحث فيها لإمكانيّة الوصول إلى تلك النُّسخ المختلفة.

ج. ترتيب منازل النُّسخِ لتحديد النسخة أو النُّسخ المعتمدة في عمليّة التحقيق، ولهذا الترتيب آليّاته المعروفة.

د. المقابلة بين هذه النُّسخ الخطيّة التي وقف عليها المحقّق للنصّ الخطّي الواحد، وإثبات الفروق بينها في الهامش، والهدف من المقابلة الوصول بالنصّ إلى أقرب صورة أرادها مؤلّفه.

هـ. تخريج النصّ والتعليق عليه، والمقصود بمصطلح التخريج الترجمة للأعلام والمصطلحات الواردة في النصّ، وبيان ما غمض من النصّ من خلال التعليق عليه في الهامش.

و. صنع الكشّافات الخادمة للنصّ، والتي تساعد القارئ في الوصول إلى مبتغاه بشكل سهل وسريع.

ي. المقدّمات القبليّة الخادمة للنصّ، والتي تتمثّل في: مقدّمة التحقيق، ودراسة النُّسخ الخطيّة، ودراسة مؤلّف المخطوط، وبيان منهج التحقيق.

هذه بشكل عامٍ ومختصر إجراءات علم التحقيق التي استقرّت عليها المؤلّفات التي أصَّلت لهذا العلم في الدرس التراثي المعاصر، ومدار عملنا في هذا البحث وتلك البحوث التالية له -إن شاء الله تعالى- هو نقد تلك الإجراءات وبيان مقدار إحاطة المستشرق بها في تناوله للنصّ العربيّ المخطوط، وهذا هو الطريق الثاني من طرق النقد الموجّه لأيّ نصٍّ من النصوص تمّ تحقيقه على أيدي مدرسة الاستشراق أو غيرها.

وهذا المنهج في النقد أراه -من وجهة نظري- مهمًّا من عدّة أوجه:

أوّلًا: إنَّ معظم الذين تصدُّوا لنقد تحقيقات المستشرقين حول التراث العربي وقفوا عند الاتجاه الأول، ودخلوا في حرب فكريّة حاولوا من خلالها بيان مقاصد المستشرقين من وراء ما كتبوه، وكان أغلبه محاولة الطعن في الإسلام والنيل منه، وبالتالي غلبت عليهم قضيّة الردّ والدفاع، ولم يتعرّض أحّدهم إلى بيان الإخفاق أو النجاح في معالجة المستشرق للنصّ من ناحية إجراءات التحقيق. ففي النشرة الثانية التي نشرتها دار البشائر لكتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني لم يتعرّض المحقّق د. محب الدين واعظ لنقد إجراءات التحقيق التي قام بها محقّق النشرة الأولى للمخطوط د. آرثر جفري، إلّا في جانب حديثه عن قضيّة اعتماد جفري على نسخة واحدة في نشر المخطوط، ومقارنتها بنسخة تعدّ في منزلة الفرع عن نسخة الظاهريّة، وإنّما شملت مقدّمته الطويلة قضيّة الردّ والدفاع وتفنيد آراء المستشرق التي صدَّرها في مقدّمته.

ثانيًا: إنَّ الوقوف عند نقد الإجراءات ربّما يجعلنا نضع أيدينا من قريب على معارف المستشرقين تجاه علم معالجة النصّ (علم التحقيق)، وبالتالي نتمكّن من فهم ما قدّموه ونبيِّن مواطن النقص فيه.

ثالثًا: إنَّ الانطلاق في نقد النصّ من المعالجات المختلفة التي دارت حوله لتقديمه للقارئ أمر من شأنه أن يُعلي أو يقلّل من شأن النصّ المـُعالج، وبالتالي يمكننا من خلاله إصدار حكم على تلك النصوص التي تناولها المستشرقون بالمعالجة النقديّة دون الدخول في سجالات فكريّة من هنا أو هناك.

ولا يعني ذلك التقليل من قيمة تلك الردود والانتقادات التي سلكت طريق الردّ على الآراء الفكريّة التي نادى بها المستشرق، وإنما قصدنا بيان آليّة أخرى من آليّات النقد الموجّه لمعالجات المدرسة الاستشراقيّة لنصوص التراث العربي المخطوط. غاية الأمر سنحاول فيما تبقّى من هذه الدراسة بيان مدى التزام «آرثر جفري» بإجراءات علم التحقيق في تحقيقه لكتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، وتتمثّل ملامح هذا المنهج النقدي الموجّه للإجراءات فيما يلي:

نقد إجراء جمع النسخ الخطيّة

أوّلًا: إنَّ المستشرق آرثر جفري لم يعبأ بقضية النُّسخ الخطيّة المختلفة للمخطوط، والتي يهدف المحقّق من خلالها الوصول بالنصّ إلى أقرب صورة أرادها مؤلّفه، وإنّما نشر المخطوط على نسخة المكتبة الظاهريّة بدمشق[18]، وللمخطوط نسخة أخرى معروفة ذكرها محقّق النشرة الثانية، وهي موجودة في مكتبة تشستربتي، ولا أظنّها كانت صعبة المنال على هذا المستشرق ذائع الصيت وصاحب الأسفار.

ثانيًا: يذكر آرثر جفري أنّه وقف على نسختين خطيّتين لهذا المخطوط منقولتين من نسخة الظاهريّة، الأولى في دار الكتب المصريّة، والثانية في مكتبته، وهذا يعني أنَّ ثلاثتهم نسخة واحدة، ثم يعود فيقارن بين نسخة الظاهريّة ونسخة دار الكتب، وهو إجراء لا يصحّ تمامًا، فمن الصعب مقابلة الشيء على نفسه[19]، وهو أمر يشكّك في بعض معارف المستشرقين لأسس علم التحقيق، مما ينعكس على قضيّة التناول للنصّ المحقّق الذي أنتجه المستشرق.

والخطورة في هذه القضيّة -قضيّة المقابلة بين النُّسخ الخطيّة- أنّها تؤثّر مباشرة على المتن الذي يمثّل مخرجات عمليّة التحقيق، فالمقابلة بين النُّسخ الخطيّة ضابطة للمتن، وبدونها يخرج النصّ مشوَّهًا لدرجة تبتعد به عن مراد مؤلّفه، والإشكاليّة الكبرى أنَّ المستشرقين ربّما بنوا بعض قضاياهم أو وجهات نظرهم على بعض هذه القراءات المضطربة للمخطوط.

نقد إجراء تخريج النصِّ والتعليق عليه

لم يخدم المستشرق آرثر جفري النصَّ العربي المخطوط بما يستحقّه من خدمة من ناحية قضيّة تخريج ما يحتاج إلى تخريج من النصّ، فمعظم الأحاديث الواردة في النصّ المخطوط لم يخرِّجها على مصادرها ومظانها، وإنّما تركها كما هي دون أدنى إشارة، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا داخل المتن المحقّق، فمن ذلك الحديث الذي أورده السجستاني تحت «باب الأمر بكتابة المصاحف» إذ يقول: حدّثنا عبد الله قال حدّثنا يحيى بن حكيم، قال حدّثني أبو الوليد حدّثني همام، وحدّثنا محمّد بن عبد الملك حدّثنا يزيد، قال أخبرنا همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تكتبوا عنِّي شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه»[20].

لم يُخرِّج آرثر جفري هذا الحديث، ولم يعلّق عليه، وإنما أجراه كغيره في سياق الكلام، وهذا خلل واضح في تحقيقات المستشرقين، وهو خلوّ تحقيقاتهم من أيّ خدمة للنصّ مشغلة التحقيق بما يقرّبه للقارئ أو المتلقّي.

والشيء الخطير أنَّ البعض من هذه الأحاديث يدخل في دائرة الأحاديث الضعيفة التي يصعب أن نقيم عليها دليلاً علميًّا حول قضيّةٍ كهذه التي يعالجها كتاب المصاحف، بل الأكثر من ذلك بنى عليها بعض آرائه الفكريّة في قضيّة تاريخ القرآن الكريم.

كذلك وقع المستشرقُ في أخطاءٍ عدّة في تعيينه بعض رجال الأثر، وقد ذكر هذه الأخطاء محقّق النشرة الثانية للمخطوط، والتي منها على سبيل المثال فقد وقع المستشرق في خطأ فادح في تعيين عمّ المؤلّف، فقال: هو يعقوب بن سفيان في عدّة مواطن، وسبب الخطأ أنّه نقل نصًّا بالتحريف، واعتمد على هذا التحريف في تعيين عمِّ المؤلّف، إذ نقل في سند الأثر (318) قول المؤلّف: حدثنا عمِّي ويعقوب بن سفيان، بحذف واو العطف، فظنَّ أنّ يعقوب هو عمّ المؤلف، والصواب أنَّ يعقوب شيخه، وكذا عمّ المؤلّف شيخه، وهو: محمّد بن الأشعث السجستاني[21].

كذلك حصل من محقّق النشرة الأولى الدكتور آرثر جفري بعض التحريف في إسناد بعض آثار الكتاب، من ذلك ما ورد في الأثر رقم (316) قول المؤلّف: (والحسن بن أبي الربيع أنَّ عبد الرزاق) فقد ذكر المستشرق (ابن عبد الرزاق) وقريب من هذا ما ورد في الأثر رقم (414) حيث قال المؤلّف (نا محمّد نا شعبة) فحرَّف جفري وقال (محمّد بن شعبة)، والأثر رقم (424) قال المؤلّف: «محمّد عن سفيان» وذكر المستشرق «محمّد بن سفيان»[22].

دراسة خوارج النصِّ

إنَّ المقصود بخوارج النصّ هي تلك العناصر الماديّة المحيطة بالمخطوط، والمنتشرة على صفحاته من سماعات، وتملّكات، وقراءات، وأوقاف وإيجازات وغيرها.

وقيمة هذه العناصر الماديّة أنّها تصبّ مباشرة في خدمة المحقّق، فقد تُعلي من شأن نسخة على أخرى في قضيّة ترتيب منازل النُّسخ، حيث تتضمن بعض هذه الخوارج معلومات تأريخيّة عن نسخة ما سقط منها تاريخ النسخ، ولم يستطع المحقّق وضعها في منزلتها الحقيقيّة، ولم يستطع كذلك التعرّف على تاريخها من خلال دراسة الورق والخطّ الذي كتبت به، وقد تكون هذه النسخة من أهمّ النُّسخ التي يمكن الاعتماد عليها في إخراج النصّ.

ثمّ إنَّ هذه الخوارج النصيّة يمكنها أن تقدِّم تصوّرًا مهمًّا عن رحلة المخطوط في الأقطار الإسلاميّة من خلال القراءات التي يحملها على أوراقه والتملّكات والأوقاف، وهو أمر في غاية الأهميّة لرصد الحركة العلميّة في فترة من الفترات.

ثم إنَّ المستشرق آرثر جفري لم يذكر كلّ السماعات والقراءات التي انتشرت على مدار النسخة، ولم يدرسها دراسة تفصح عن قيمتها العلميّة التي يمكن من خلالها في بعض الأحيان الوصول إلى تاريخ النسخة الخطيّة التي تحوي هذه السماعات والقراءات …وغير ذلك من مفردات الدرس الكوديكولوجي.

يقول محقّق النشرة الثانية من كتاب المصاحف: «اعتمد المستشرق في نشر هذا الكتاب على النسخة الظاهريّة، وقابلها مع نسخة دار الكتب المصريّة -مع كونها منسوخة من الظاهريّة- مدَّعيًا بأنّها نسخة ثانية، وطبع الكتاب بنقص الورقة الأولى، وذكر بعد المقدّمة شيئًا من ترجمة المؤلّف، وأورد بعض السماعات الموجودة في المخطوطة، تاركًا الكثير منها، لجهله أهميتّها وفوائدها ونتائجها»[23].

المقدّمات القبليّة للنصِّ المحقّق

إنَّ المقصود بالمقدّمات القبليّة هي تلك الدراسة القبليّة للتحقيق التي يصنعها المحقّق؛ ليدرس فيها عدّة قضايا مهمّة ترتبط بالنصّ موطن التحقيق، وتتمثّل هذه القضايا في دراسة المؤلّف دراسة تنبئ عن صحّة نسبة المخطوط إليه، ثم دراسة النسخ الخطيّة المختلفة التي سيعتمد عليها المحقّق في تحقيق النصّ، وهي دراسة وصفيّة تنقل للقارئ الجهد الذي قام به المحقّق في جمع النُّسخ الخطيّة، وهو أمر ينبئ بالثقة في النصّ الذي يمثّل المـُخرج النهائي لعمليّة التحقيق، ثمّ بيان المنهج الذي اتّبعه المحقّق في إخراج النصّ.

هذه باختصار بعض المكوّنات العامّة التي تمثّل في مجموعها المكمّلات القبليّة للنصّ المحقّق، وهي دراسة مهمّة خاتمة للمتن المحقّق من زواياه المختلفة.

وبالتأمل في النشرة الأولى من كتاب المصاحف نجد أنَّ آرثر جفري طغى عليه في المقدّمة تقديم بعض آرائه الفكريّة عن موضوع الكتاب، وجاء ذلك على حساب دراسة النصّ من شتّى زواياه، وبيان منهج تناوله، وهو أمر يجعل الكتاب في نشرته الأولى عُرضة لكثير من النقد الذي يمكن أن يندرج تحت قولنا إنّ التحقيق برمّته جاء وسيلة لعرض آراء هذا المستشرق حول قضيّة «تاريخ القرآن» لخَّص معظمها في مقدّمته التي صدَّر بها التحقيق.

خاتمة

ما ذكرته هو بعض ملامح النقد الموجّهة لذلك المنجز الذي أنجزه المستشرق آرثر جفري، والمتمثّل في تحقيقه لكتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، وقد سلكتُ في بيانها مسلك نقد إجراءات التحقيق ومعالجة النص دون الدخول في سجالات فكريّة من هنا وهناك. ومع هذا يلاحظ أمور، وهي:

أنّ المستشرق آرثر جفري لم يعبأ بقضية النُّسخ الخطيّة المختلفة للمخطوط مع أنّه يوجد للمخطوط نسخة أخرى معروفة ذكرها محقّق النشرة الثانية، وهي موجودة في مكتبة تشستربتي، ولا أظنّها كانت صعبة المنال على هذا المستشرق صاحب الأسفار والذيع الصائت.

وقع آرثر جفري بإشكاليّة تؤدّي إلى التشكيك في جانب مهمّ من معارف المستشرقين لأسس علم التحقيق، مما ينعكس على قضيّة التناول للنصّ المحقّق الذي أنتجه المستشرق، فيذكر آرثر جفري أنّه وقف على نسختين خطيّتين لهذا المخطوط منقولتين من نسخة الظاهريّة، الأولى في دار الكتب المصريّة، والثانية في مكتبته، وهذا يعني أنَّ ثلاثتهم نسخة واحدة، ثم يعود فيقارن بين نسخة الظاهريّة ونسخة دار الكتب، وهو إجراء لا يصحّ تمامًا، فمن الصعب مقابلة الشيء على نفسه.

لم يخدم المستشرق آرثر جفري النصّ العربي المخطوط بما يستحقّه من خدمة من ناحية قضيّة تخريج ما يحتاج إلى تخريج من النصّ، فمعظم الأحاديث الواردة في النصّ المخطوط لم يخرِّجها على مصادرها ومظانها.

إنَّ المستشرق آرثر جفري لم يذكر كلّ السماعات والقراءات التي انتشرت على مدار النسخة، ولم يدرسها دراسة تفصح عن قيمتها العلميّة التي يمكن من خلالها في بعض الأحيان الوصول إلى تاريخ النسخة الخطيّة التي تحوي هذه السماعات والقراءات.

 لقد طغى على آرثر جفري في النشرة الأولى من كتاب المصاحف تقديم بعض آرائه الفكريّة عن موضوع الكتاب، وجاء ذلك على حساب دراسة النصّ من شتّى زواياه وبيان منهج تناوله.

المصادر والمراجع:

1- الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عيّاض، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث/ الدار العتيقة، القاهرة/ تونس، الطبعة الأولى، 1379هـ.

2- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريّة: علوم القرآن -المصاحف، التجويد، القراءات- وضعه: صلاح محمّد الخيمي 2/ 286-287.

3- كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، تحقيق الدكتور آرثر جفري، مطبعة الرحمانيّة بمصر، الطبعة الأولى، 1355هـ، 1936م.

4- كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر الإسلاميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1423ه، 2002م.

5- كتاب معرفة أنواع علوم الحديث، لابن الصلاح، تحقيق عبد اللطيف الهميم، ماهر يوسف الفحل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1423هـ.

6- المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، الجزء الأوّل.

7- المعيد في أدب المفيد والمستفيد، للعلموي، تحقيق د. مروان العطيّة، مكتبة الثقافة الدينيّة، الطبعة الأولى، 1424هـ.

8- مقدّمتان في علوم القرآن (مقدّمة كتاب المباني، ومقدّمة ابن عطيّة)، نشرة آرثر جفري، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1954.

9- نقد مقدّمة آرثر جفري في كتاب المصاحف، د. هشام عزمي، ملتقى أهل التفسير، بتاريخ 19/ 1/ 2011.

———————————-

[1]– د. أحمد عطية، كبير الباحثين بمركز المخطوطات-مكتبة الإسكندريّة.

[2]– انظر: المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، الجزء الأوّل، ص 1013.

[3]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر الإسلاميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1423ه، 2002م، ص94.

[4]– انظر مقدمة: كتاب المصاحف، لابن أبي داود السجستاني، تحقيق الدكتور آرثر جفري، مطبعة الرحمانيّة بمصر، الطبعة الأولى، 1355هـ، 1936م.

[5]– انظر مقدمة: كتاب المصاحف، نشرة دار البشائر الإسلاميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1423هـ، 2002م.

[6]– انظر مقدمة: كتاب المصاحف، طبعة مطبعة الرحمانيّة بمصر، ص3.

[7]– انظر: نقد مقدّمة آرثر جفري في كتاب المصاحف، د. هشام عزمي، ملتقى أهل التفسير، بتاريخ 19/ 1/ 2011.

[8]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، طبعة مطبعة الرحمانيّة بمصر، ص3.

[9]– السابق نفسه.

[10]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ، ص102.

[11]– انظر: نقد مقدّمة آرثر جفري في كتاب المصاحف، د. هشام عزمي، ملتقى أهل التفسير، بتاريخ 19/ 1/ 2011.

[12]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، طبعة: مطبعة الرحمانيّة بمصر، ص4.

[13]– السابق نفسه.

[14]– انظر: مقدّمتان في علوم القرآن (مقدّمة كتاب المباني، ومقدّمة ابن عطيّة)، نشرة آرثر جفري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص78، 1954.

[15]– انظر: الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عيّاض، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث/ الدار العتيقة، القاهرة/ تونس، الطبعة الأولى، 1379هـ.

[16]–  انظر: كتاب معرفة أنواع علوم الحديث، لابن الصلاح، تحقيق عبد اللطيف الهميم، ماهر يوسف الفحل، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 1423هـ.

[17]–  انظر: المعيد في أدب المفيد والمستفيد، للعلموي، تحقيق د. مروان العطيّة، مكتبة الثقافة الدينيّة، الطبعة الأولى، 1424هـ.

[18]–  انظر: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريّة: علوم القرآن- المصاحف، التجويد، القراءات- وضعه: صلاح محمّد الخيمي 2/ 286-287.

[19]– انظر: كتاب المصاحف، نشرة آثر جفري، ص14.

[20]– السابق، ص4.

[21]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، نشرة محب الدين عبد السبحان واعظ، ص98.

[22]– السابق نفسه.

[23]– انظر مقدّمة: كتاب المصاحف، نشرة محب الدين عبد السبحان واعظ، ص97.

.

رابط المصدر:

https://www.iicss.iq/?id=40&sid=429

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M