أحمد بيومي
دائمًا ما يتم الحديث عن العملات الرقمية على أنها عملات مصممة لتستخدم كوسيلة للتبادل من خلال شبكة الكمبيوتر دون الاعتماد على سلطة مركزية، مثل الحكومة أو البنوك لدعمها أو صيانتها، أو تقديم البنية التحتية لعملياتها، ويعود ذلك إلى نظام تخزين سجلات ملكية العملات الفردية اللا مركزي في البلوك تشين، وهو عبارة عن قاعدة بيانات محوسبة تستخدم تشفيرًا قَوِيًّا لتأمين سجلات المعاملات، وللتحكم في إنشاء عملات معدنية إضافية، وللتحقق من نقل ملكية العملات، ويتم تسجيل تلك المعاملات في دفتر الأستاذ الموزع أو ما تتم تسميته عادة بالبلوك تشين. وقد تم تداول العملة الأولى منها عام 2009، وهي العملة الأشهر عالميًا وتُسمى البيتكوين. ونظرًا لكون تلك العملة لا مركزية فقد هاجمتها الحكومات عالميًا في محاولة للقضاء عليها نظرًا لأن وجود مثل تلك العملات يفقد الحكومات والبنوك المركزية عالميًا القدرة على السيطرة على سوق النقد. فعلى سبيل المثال، أعلنت حكومة الصين، وهي أكبر سوق منفرد للعملات المشفرة، حظر تلك العملات واعتبارها غير قانونية، وحظرت عمل الوسطاء والمُعدّنين داخل الصين.
لكن الحرب الروسية الأوكرانية أعادت النظر في تلك العملات باعتبارها الملاذ بالنسبة لروسيا لتجنب أو تخفيف العقوبات الأوروبية، وشهدت تلك العملات إقبالًا من جانب المواطنين الروس بعد انهيار سعر الروبل الروسي، بينما اعتبرتها أوكرانيا وسيلة تمكنها من توفير السيولة في السوق للتغلب على أزمة السيولة في البلاد جراء الاحتلال الروسي، واستخدمتها في تلقي تبرعات من دول ومؤسسات عالمية ومن جهات أخرى ترغب في إخفاء هويتها.
كلتا الدولتين لديهما تاريخ حافل في التعامل مع تلك العملات، حيث إن روسيا وأوكرانيا تصنفان على أنهما ضمن الدول الأكثر استخدامًا للعملات الرقمية، وفقًا لمركز Chainalysis لأبحاث البلوك تشين، حيث تأتي روسيا في المرتبة الرابعة عالميًا في استخدام العملات الرقمية، بينما تأتي أوكرانيا في المركز الثالث من حيث تعدين البيتكوين، وهي العملة الرقمية الأكبر من حيث القيمة السوقية والأكثر أهمية عالميًا لأنها الأقدم. ويميل بعض الاقتصاديين إلى تفسير شهرة تلك العملات في كلتا الدولتين بحالة التضخم الكبيرة التي عانت منها كلتا الدولتين في السنوات الماضية، وقلة الثقة في النظم الاقتصادية الرسمية للبلدين.
فمنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية أقبل الروس على شراء البيتكوين مقابل الروبل الروسي، حيث ارتفعت تلك المشتريات بنسبة 206%، وما دعم من ذلك الإقبال انهيار قيمة الروبل الروسي وتدهور النظام الاقتصادي بعد العقوبات التي فرضتها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا والتي تسببت في انهيار الروبل الروسي بنسبة وصلت إلى 40% أمام الدولار الأمريكي. وحيث إن تلك العملات تخفي هوية المتعاملين فإن التمييز بين المدنيين الروس والخاضعين للعقوبات أمر ليس باليسير، وهو ما أثار مخاوف من احتماليّة تهريب من تم فرض عقوبات عليهم (المقربون من الكرملين) لثرواتهم من خلال تحويلها إلى تلك العملات الرقمية، والتعامل بها خارجيًا دون أي قيود، ومن ثم الإفلات من العقوبات الاقتصادية.
تلك الحقيقة يدركها الأوروبيون، وهو ما صعد من المطالبات التي نادت بفرض رقابة أشد على تداول العملات الرقمية، معلّلين ذلك بتجنب تكرار ما حدث مع فنزويلا وإيران، حيث تمكن العديد من الأفراد الذين تم فرض عقوبات عليهم من الهروب من تلك العقوبات من خلال استخدام العملات الرقمية، وهو ما أعرب عنه “برونو لو مير” -وزير الاقتصاد الفرنسي- عندما صرّح بأن الاتحاد الأوروبي سيتخذ كافة التدابير بشأن رقابة العملات المشفرة لمنع استخدام الجانب الروسي لها للتحايل على العقوبات، هذا إلى جانب مناشدة وزير التحول الرقمي الأوكراني مايكيلو فبديروف منصات تداول العملات الرقمية بمنع الحسابات الروسية، في إشارة منه إلى أنه لا يجب أن تقوم تلك المنصات بحجب الأفراد الذين تم فرض عقوبات عليهم فحسب، بل يجب أن يتم تخريب حسابات جميع المواطنين الروس. فقد أشارت “كرستين لاجارد” -رئيسة البنك المركزي الأوروبي- هي الأخرى إلى أن هناك من تمكنوا من الهروب من العقوبات التي تم فرضها على روسيا من خلال العملات الرقمية، واستجابت منصتان من أشهر منصات تداول العملات الرقمية لتلك النداءات هما Binance & Coinbase، حيث حجبت المنصتان حسابات الروس الخاضعين للعقوبات والتي بلغت 25 ألف حساب، لكنها في الوقت نفسه رفضت حجب حسابات جميع المواطنين الروس.
من ناحية أخرى، فإن تلك العملات الرقمية مثلت حلًا جيدًا أمام أوكرانيا لتوفير السيولة اللازمة لإجراء المدفوعات، خاصة في ظل الحصار الذي فرضه الجانب الروسي على أوكرانيا، وقد بلغت إجمالي التعاملات اليومية بالعملات الرقمية في أوكرانيا ما يعادل 150 مليون دولار أمريكي، واعتمدت الحكومة الأوكرانية ومنظمات المجتمع المدني على تلك العملات في تلقي التبرعات. وأعلن وزير التحول الرقمي الأوكراني عن فتح الحكومة الأوكرانية ثلاث محافظ رقمية لعملات البيتكوين والإيثيريوم واليو إي دي تي. وقد تبرعت منصة Binance وحدها بما يعادل 10 ملايين دولار أمريكي للحكومة الأوكرانية بعملتها الخاصة.
لقد أثبتت العملات الرقمية بخصائصها الفريدة وقدرتها على إخفاء هوية أصحابها، جدواها في أوقات الحرب، حيث إنها لا تتضرر بالمشاكل اللوجستية التي يتعرض لها الاقتصاد الرسمي، وتقدم وسيلة أسرع في جمع التبرعات، وتلغي دور الوسطاء تمامًا. وهنا، من الجدير بالذكر أن منظمة سويفت، وهي من أهم الوسطاء في المعاملات المالية، ليس لها أي دور في تلك العملات الرقمية، ومن ثم فإن ما قامت به العملات الرقمية في الحرب الروسية الأوكرانية يعتبر نقطة تحول في مسار الاقتصاد الرقمي عالميًا.
.
رابط المصدر: