معركة الدونباس، بداية أم نهاية؟

دونباس لوهانسك

السفير د. علاء الحديدي

 

دخلت “المرحلة الثانية” من “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، على حسب الوصف الروسي لها، أسبوعها الخامس مع كتابة هذا المقال. وهي المرحلة التي وصفها الرئيس الأوكراني من جانبه ب” معركة الدونباس، ” وقد اختلفت التقديرات حول مدى تقدم أو تعثر القوات الروسية في تحقيق أهدافها مقارنة بالمرحلة الأولى من هذه الحرب، وأيا كانت صحة هذه التقديرات أو تباينها، فمن الواضح أن نطاق هذه الحرب وإن لم يتسع جغرافيا ليشمل أراض دول أخرى، إلا أنه بدأ يشهد تصعيدا مستمرا من جانب حلف الناتو في دعم القوات الأوكرانية، وبما يشي باستشعار الولايات المتحدة الأمريكية بإمكانية هزيمة روسيا عسكريا، وليس مجرد استنزاف قدراتها وإمكانياتها في حرب طويلة المدى على غرار ما حدث في أفغانستان لكل من الاتحاد السوفيتي السابق وحتى الولايات المتحدة.

هذا التحول في توجهات الناتو من الاكتفاء بدعم الأوكرانيين ببعض الأسلحة الدفاعية، وبما يتوافق مع حرب عصابات يتم شنها ضد القوات الروسية، إلى التفكير في إمكانية هزيمة القوات الروسية ودحرها وليس مجرد صدها، صاحبه تغييرا نوعيا في الأسلحة المقدمة من دول الحلف إلى أوكرانيا، والتي تشمل ولأول مرة أسلحة هجومية وبعض الأسلحة والمعدات الثقيلة، وذلك بهدف الانتقال من مرحلة الدفاع عن الأراضي الأوكرانية إلى مرحلة الهجوم على القوات الروسية وطردها وعودتها إلى داخل الأراضي الروسية. وقد جاء هذا التحول نتيجة تغيير نمط الهجوم الروسي على أوكرانيا من محاولة اقتحام أو تطويق العاصمة الأوكرانية كييف في الشمال ومدينة خاركييف (ثاني أكبر المدن الأوكرانية) في الشمال الشرقي، إلى التركيز على استكمال ” تحرير إقليم الدونباس ” في الجنوب الشرقي لأوكرانيا حسب التعبير الروسي ( وهو الإقليم الذي يضم جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين والمدعومتان من موسكو ويسيطران على ثلث مساحة الإقليم فقط ).  الأمر الذي فسره الناتو بأنه يمثل اعترافا ضمنيا من الجانب الروسي بفشله في تحقيق أهدافه الأولية بإسقاط حكومة زيلينسكي وتطهير أوكرانيا من” النازيين الجدد”، وتنصيب حكومة أكثر قبولا لموسكو في كييف.

هذا، وقد صاحب هذا التغيير في الإستراتيجية الروسية تعيين الجنرال ألكسندر دفورنيكوف قائد المنطقة العسكرية الجنوبية في روسيا قائدا جديدا للقوات الروسية في أوكرانيا، وهو القائد السابق للقوات الروسية في سوريا. الأمر الذي فسرته الدوائر الغربية بأنه محاولة لحل مشاكل القيادة والإدارة التي عانت منها القوات الروسية منذ بداية حملتها ضد أوكرانيا وفشلها في تحقيق أهدافها. ومن ناحية أخرى، فقد أعلن قائد المنطقة العسكرية المركزية الوسطى بالجيش الروسي، روستام مينيكايف، في تصريح نقلته وكالة أنباء “سبوتنيك” بأن هدف المرحلة الثانية هو إحكام السيطرة على إقليم الدونباس والجنوب، مستطردا ” أن السيطرة على جنوب أوكرانيا ستمنح الجيش الروسي منفذا إلى القوات المتواجدة في ترانسنيستريا الواقعة بالقرب من مولدوفا ”. وهو ما عزز من قناعة هذه الدوائر الغربية من أن القوات الروسية يمكن هزيمتها إذا ما توافر السلاح المناسب للجانب الأوكراني.

ومع تطور الهجوم الروسي في منطقة الدونباس وجنوب أوكرانيا، واستمرار المعارك دون حسم من قبل أي من الطرفين، وبما في ذلك ما يشهده مصنع اوزوفيستال للحديد والصلب (يقع على مساحة ١١ كم٢ ) في ميناء ميرابول من قتال بين بقايا القوات الأوكرانية المدافعة عنه والقوات الروسية ، تنامت التوقعات الغربية بشأن إعلان روسي مهم يوم ٩ مايو الماضي في ذكرى الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية. وقد ذهبت بعض التوقعات الغربية إلى قيام بوتين بإعلان الحرب على أوكرانيا وبالتالي التعبئة العامة واستدعاء الاحتياطي لمواجهة حلف الناتو الذي اتهمه وزير الخارجية الروسي بشن حرب بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا. إلا أن ذلك لم يحدث وأكتفي بوتين بتقديم التهنئة السنوية للجيش الروسي على الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وتكرار الحديث عما يمثله الغرب من تهديد للأمن القومي الروسي.

الشاهد الآن أن النتائج المتحققة على الأرض متباينة، فرغم أن القوات الروسية قد تعلمت من بعض أخطائها السابقة، ورغم ما تحققه من تقدم وبعض النجاحات هنا وهناك على جبهة قتال تمتد بطول ٥٠٠ كم، إلا أن هذه النجاحات تظل محدودة. وهنا تشير المصادر الغربية إلى أن تقدم القوات الروسية هو بمعدل ٢ إلى ٣ كم في اليوم، وهو معدل بطيء ولكنه مع تقدم الوقت، كما تشير ذات المصادر الغربية، وفي ظل ما تتمتع به القوات الروسية من تفوق عددي وقوة نيران أكبر حجما مما لدي الجانب الأوكراني، فإن هذه القوات الروسية تستطيع مع مرور الوقت من فرض سيطرتها وبالتدريج على كامل إقليم الدونباس. ومن ناحية أخرى، وطبقا أيضا لذات المصادر الغربية، فقد نجحت القوات الأوكرانية في القيام بهجوم مضاد شمال إقليم الدونباس وتحرير عدة قرى أوكرانية في محيط مدينة خاركيف، وطرد القوات الروسية التي كانت تتواجد هناك وإجبارها على الانسحاب لمسافة ٤٠ إلى ٥٠ كم. وقد ركز الإعلام الغربي في الآونة الأخيرة على هذه الانتصارات الأوكرانية، وعدها دليلا على بداية تحول مسار الحرب لصالح كييف وضد موسكو.

وعليه، أصبحت معركة الدونباس هذه هي الفيصل في تحديد مسار الحرب في المرحلة القادمة، وبما قد تمثله من بداية لتحول دفة الحرب كما تأمل واشنطن ومعها حلف الناتو، أو نهاية التوقعات الغربية بإمكانية منع بوتين من تحقيق أهدافه في أوكرانيا بالسيطرة على إقليم الدونباس وكامل الساحل الأوكراني المطل على البحر الأسود وفي القلب منه ميناء أوديسا الحيوي.  وأصبح عامل الوقت هو المحدد الرئيسي في تقرير مسار هذه الحرب، حيث يسابق الناتو الزمن من أجل سرعة توصيل ما يحتاجه الجانب الأوكراني من سلاح وعتاد لصد الهجوم الروسي في الدونباس وقبل أن تنهار المقاومة الأوكرانية. ويتمثل التحدي الذي يواجه القوات الأوكرانية في مدى السرعة التي يستطيع بها استيعاب هذه الأسلحة الغربية الجديدة، والتي تحتاج إلى أسابيع طويلة للتدريب عليها نظرا لاختلافها عن الأسلحة الروسية القديمة التي كان يستخدمها حتى الأن. أما التحدي الثاني والأكثر صعوبة فيتمثل في نقل هذه الأسلحة والذخائر عن طريق البر إلى جبهات القتال في الدونباس وعلى بعد ألف كيلو من الحدود مع بولندا، حيث تكون عرضة دائما للهجمات الصاروخية والجوية الروسية. وهو ما نشاهده بين الحين والأخر في الضربات الصاروخية الروسية الموجهة إلى مدينة لفيف في غرب أوكرانيا وبعض المواقع الأوكرانية الأخرى بالقرب من الحدود الأوكرانية مع بولندا، والتي تحولت بدورها إلى المعبر الرئيسي للسلاح الغربي.

على الجانب الروسي، فإنه يمكن القول إن موسكو لم تستخدم كامل قوتها في غزو الأراضي الأوكرانية منذ البداية وحتى الأن، وخاصة في ظل عدم سيطرة القوات الجوية الروسية على كامل الأجواء الأوكرانية. وهنا تختلف التفسيرات، حيث يرى البعض سبب ذلك إلى مبالغة تقدير الكرملين لمدى كفاءة القوات الروسية والتي ثبت عدم فاعليتها على أرض الواقع، كما أن هناك أيضا سوء تقدير من جانب القيادات الروسية لمدى ترحيب الجانب الأوكراني لقدوم القوات الروسية على غرار ما حدث في شبه جزيرة القرم في عام ٢٠١٤. بينما يذهب تفسير أخر إلى تحسب الكرملين لمواجهة قادمة مع الناتو، وبالتالي عدم الرغبة في استخدام كامل القوات المتوافرة لديه في هذه الحرب وتفضيل تحقيق تقدم بطيء ولكن مضمون حفاظا على القوة الروسية من أن يتم استنزافها. وأيا كان التفسير، فإن السؤال الذي بات يطرح نفسه الأن هو إذا ما تمكن الناتو من تحويل دفة الحرب لصالحه، فهل سيقف بوتين مكتوفي اليد ويتلقى الضربات والهزائم مثل إغراق الطراد موسكفا، أم سيلجأ الى السلاح النووي كما لوح أكثر من مرة؟

التقدير هنا أن بوتين لن يقبل بهزيمة، وأنه قد يلجأ إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة نووية منخفضة القوة، فالأسد الجريح يكون أكثر ضراوة. وهو ما يحذر منه بعض السياسيين ويحثون الغرب على البحث عن تسوية ما تحفظ ماء وجه الجميع، وخاصة روسيا. ولكن طالما استشعر كل جانب أن النصر بات أقرب إليه وأنها مسألة وقت فقط، فإن فرص تغليب منطق العقل والحوار تكون بعيدة المنال. والمرجح حاليا هو استمرار المعارك الحالية في الدونباس والجنوب، مع استمرار تحريك خطوط القتال لصالح هذا الطرف أو ذاك في هذا المكان أو ذاك، ولكن دون حسم.  فروسيا لا تخسر، ولكن أيضا لا تنتصر، بينما أوكرانيا لا تنتصر، ولكن أيضا لا تخسر.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19416/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M