عمر طاش بينار
يكمُن التساؤل الذي ينتظر سياسة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه إيران فيما إذا كانت الإدارة الأمريكية ما زالت تأمل بإحياء الاتفاق النووي مع طهران، في الوقت الذي يمارس النظام الإيراني عمليةَ قمع وحشي ضد الاحتجاجات التي تزداد اتساعاً في إيران. ولعل ما يزيد من تعقيد المسألة حقيقة أن واشنطن تتعرض لضغوط من أجل فرض مزيد من العقوبات على طهران، في الوقت الذي تدعو إلى العودة إلى الاتفاق النووي.
هل يمكن فصل المفاوضات النووية عن الاحتجاجات في إيران؟
تعمل الإدارة الأمريكية على الورق على الأقل على وضع المفاوضات النووية مع طهران على مسار منفصل عن انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، الأمر الذي يعني وجود استراتيجية ذات مسارين يَتَمَثَّلُ أحدها بفرض عقوبات جديدة مستهدفة، في الوقت الذي يتم إصدار بيانات موازية بأن الاتفاق النووي ما زال مطروحاً على الطاولة.
فقد أعلن الرئيس بايدن في 6 أكتوبر، على سبيل المثال، عن عقوبات جديدة شملت وزيرَي الداخلية والاتصالات، وقائد شرطة الفضاء السبراني وغيرهم بسبب أدوارهم في قمع الاحتجاجات. لكنَّ المتحدثة بلسان البيت الأبيض، كارين جان-بيير، سارعت في اليوم نفسه إلى القول إن بإمكان واشنطن إدانة القمع والمشاركة في الدبلوماسية النووية مع إيران في الوقت نفسه. وأضافت جان-بيير: “حتى في ذروة الحرب الباردة عندما كان الرئيس ريجان يصف الاتحاد السوفيتي بأنه ‘امبراطورية شريرة‘ كان منخرطاً أيضاً في محادثات الحد من التسلح، لأنه كان يعلم أن علينا من جهة مواجهة قمع الاتحاد السوفيتي بقوة، وفي الوقت نفسه يتعين علينا حماية أمننا والدفاع عنه وعن أمن حلفائنا وشركائنا”.
بالرغم من محاولات الحفاظ على استراتيجية المسارين هذه، غير أن الدفاع عن هذا المنطق بدأ يزداد صعوبة في الوقت الذي تزداد فيه رقعة الاحتجاجات داخل إيران، وترتفع فيه أعداد الوفيات الناجمة عن قمع السلطات هناك. وتعترف بعض الأوساط داخل إدارة بايدن بأن التوصل إلى اتفاق مع إيران أصبح شبه مستحيل الآن (مقابلة للكاتب مع مسؤول في الإدارة). وتتمثل وجهة النظر بأن تخفيف بعض العقوبات الرئيسة عن إيران –والتي تتضمن الافراج عن مليارات الدولارات المجمدة– وهو نظام يمارس القمع ضد المحتجين من النساء والطلاب والعمال بوحشية متزايدة ليس بالأمر الذي يُمكن للرئيس بايدن تحمل تبعاته السياسية مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. وفي كثير من الجوانب فإن التطورات الأخيرة داخل إيران تجعل من التوقيع على اتفاق نووي جديد مع طهران أمراً غير مرجح.
لكنَّ البعض داخل الإدارة الأمريكية ما زال يمتلك بعض الأمل، حيث يشير هؤلاء إلى أن الرئيس بايدن طالما أوضح أن مستقبل الاتفاق النووي لن يمنع واشنطن من دعم حقوق الإنسان والحرية في إيران بقوة. وقال روبرت مالي، المبعوث الأمريكي الخاص حول إيران، مؤخراً، إن مسودة الاتفاق التي تم التوصل إليها بعد مفاوضات شاقة ما زالت مطروحة على الطاولة، مشيراً إلى أن الأمر يعود إلى إيران إذا ما أرادت مواصلة التفاوض. ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود بسبب الشرطين الإيرانيين اللذين لا يمكن تلبيتهما من جانب المفاوضين الغربيين، وهما: وقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحقيقها المتعلق بوجود آثار لمادة اليورانيوم في مواقع غير معلنة، وأن تُقدِّم الولايات المتحدة ضمانات بعدم انسحاب أي إدارة أمريكية مقبلة من الاتفاق مرة أخرى.
وكان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير-عبداللهيان قد أكد إلى وسائل الإعلام الأمريكية خلال وجوده في نيويورك نهاية سبتمبر الماضي، أن بلاده تسعى للحصول على بعض الضمانات بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من الاتفاق مرة أخرى كما فعل الرئيس ترمب عام 2018. وقال أمير-عبداللهيان: “الجانب الأمريكي اتخذ بعض الخطوات باتجاه منحنا ضمانات. نحن فقط بحاجة إلى جعل هذه الضمانات أكثر اكتمالاً.” لكنَّ مالي أوضح بأنه “ليس بوسع الولايات المتحدة السيطرة على ما يفعله الرئيس المقبل. هذا هو الاتفاق المطروح. وإذا ما أصرَّت إيران على هذا الشيء فليس هناك أي جدوى من التفاوض”.
حتى في حال أظهرت طهران مرونةً دبلوماسية غير مسبوقة وهو أمر غير مُحتمل، فسيكون من المُستحيل تقريباً على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إحياء الصفقة النووية طالما أن الاحتجاجات في إيران ستواصل تحدّي النظام
كما أن هناك ديناميات أخرى تعمل ضد الاتفاق وتُراوح بين تقارير استخباراتية حول قيام إيران ببيع طائرات مسيرة إلى روسيا وتقارير سرية جديدة صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران عملت على توسيع عمليات التخصيب من خلال نصب أجهزة طرد مركزية جديدة متطورة في في نطنز، حيث تعتزم طهران حالياً المضي قُدُمَاً أكثر مما كانت تخطط في الماضي. علاوة على ذلك فقد أعلنت إدارة بايدن بالفعل في أغسطس الماضي عن فرض عقوبات جديدة على أربع شركات يستخدمها أحد أكبر الوسطاء الإيرانيين في مجال البتروكيماويات لبيع ما قيمته عشرات الملايين من الدولارات من النفط والمنتجات البتروكيماوية في منطقة شرق آسيا. كما أعلنت واشنطن خلال شهر سبتمبر، بعد عمليات القمع ضد الاحتجاجات، عن فرض عقوبات إضافية ضد مسؤولين إيرانيين بسبب استمرار استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين وحجب شبكة الإنترنت داخل إيران. وأخيراً، تأخذ واشنطن في الاعتبار أيضاً عقلية النظام الإسلامي في طهران والذي ربما يواجه نقطة تَحوّل، وأن الخلاصة الكلية تشير إلى أن إيران ليست في موقف لإظهار التسوية والمرونة الضرورية للتوصل إلى اتفاق. وتحاول طهران بالفعل تأطير الاضطرابات في إيران باستخدام مصطلحات المؤامرة، فقد زعم القائد الأعلى علي خامنئي أن أعمال “الشغب” جاءت بتحريض من الولايات المتحدة وإسرائيل، وليست بتنظيم من المواطنين “الإيرانيين العاديين”.
واتسع نطاق الحركة الاحتجاجية في إيران، والتي انطلقت بعد وفاة مهسا أميني بعد أن احتجزتها الشرطة بتهمة انتهاك قانون الحجاب الصارم، حيث شملت هذه الحركة الآن أكثر من مئة مدينة في جميع المحافظات الإيرانية الواحدة والثلاثين. وأشارت أرقام منظمات حقوق الإنسان إلى مقتل ما لا يقل عن 240 شخصاَ خلال فترة شهر من الاحتجاجات، بما في ذلك 28 طفلاً. كما أعلن المسؤولون الإيرانيون عن مقتل 24 من عناصر قوات الأمن. وتتسم الحركة الاحتجاجية بالتنوع العرقي، وافتقارها إلى القيادة، والأهم من ذلك كله اتساع فئات المشاركين فيها من الطلاب لتشمل شرائح أكبر من المجتمع، مثل العاملين في مجال البتروكيماويات وسائقي الشاحنات والتجار. وأدت وفاة أميني في أثناء احتجازها بالنسبة للمتظاهرين الشباب، وبخاصة الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية والملتحقين بالجامعات، إلى نزع أي شكل من أشكال الشرعية عن النظام الإسلامي. ويُشكِّلُ الاستياء الراهن في إيران بالرغم من عدم انتشاره على نطاق واسع، كما جرى في احتجاجات الأعوام 2009 و2017 و2019، تحدياً جديداً لأن الدعوات في الشارع لم تعد تُنادي بالإصلاح بل بالثورة.
ومع تزايد المظاهرات في إيران، وقرب موعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، والعقوبات الجديدة التي فرضتها واشنطن على طهران، ووصول الاتفاق النووي إلى طريق مسدود بسبب نقطتي خلاف رئيستين، فإن احتمالات حدوث اختراق دبلوماسي تقترب من الصفر الآن. لذلك لم يكن مفاجئاً سماع المتحدث بلسان الخارجية الأمريكية نِد برايس يقول في 12 أكتوبر بأن الاتفاق النووي “ليس محط تركيزنا الآن” مقارنة بدعم المتظاهرين ضد النظام في طهران.
دعم الولايات المتحدة للمُظاهرات
تعرضّت إدارة باراك أوباما عام 2009 لانتقادات لعدم قيامها بما يكفي من اجراءات لمنع الحكومة الإيرانية من سحق الاحتجاجات الكبيرة في البلاد. وفي ذلك الوقت، سعى أوباما إلى إرساء علاقات أفضل مع إيران، والتي أدّت لاحقاً إلى إبرام الصفقة النووية عام 2015. وأراد الرئيس الأمريكي آنذاك أيضاً تجنّب الاتهامات بأن الولايات المتحدة كانت تُخطّط لانقلاب في إيران كما فعلت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في عام 1953. وخلال السنوات الـ 43 الماضية، أي منذ ثورة إيران عام 1979، لا يوجد جانب في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران أكثر جدلاً من مسألة الجهود الخارجية لتعزيز التغيير السياسي في إيران. وأكّد المنتقدون التاريخ المُتقلّب للجهود المدعومة من الولايات المتحدة تجاه إيران بهذا الخصوص، بدءاً من دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في انقلاب عام 1953 الذي أطاح رئيس الوزراء الإيراني الوطني، محمد مُصدّق، إلى فضيحة “إيران كونترا” في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان، وصولاً إلى حيادية أوباما المحسوبة بشأن الاحتجاجات المُؤيدة للديمقراطية في عام 2009.
ويبدو أن بايدن قد تعلّم درساً من تلك الحقبة، وأصبح يرسل رسائل تضامن أقوى بكثير ودعم للمُتظاهرين الذين يطالبون بتغيير جذري في إيران. ويعتقد بايدن بحق أنه لا توجد أي فائدة من التفكير كثيراً بشأن اتهامات إيران لواشنطن بالتدخّل في شؤونها الداخلية، لأن النظام الإيراني طالما تبنّى مثل هذه السردية. ونتيجة لذلك، بالإضافة إلى فرض عقوبات تستهدف “شرطة الأخلاق” في إيران، تعهّد بايدن أيضاً بـ “فرض كُلف أخرى” على طهران بسبب الاعتداء على المُتظاهرين الذين يتظاهرون ضد الحكومة. وفي منشور على تويتر، لم يوضّح الرئيس الإجراء الذي ستتّخذه الولايات المتحدة ضد حكومة طهران، ولكنه قال: “تقف الولايات المتحدة مع النساء الإيرانيات والمواطنين الإيرانيين الذين يُلهمون العالم بشجاعتهم، وسنستمر في دعم حقوق الإيرانيين في الاحتجاج بحريّة”.
من جانبها، اتّخذت وزارة الخارجية الامريكية أيضاً خطوات نشطة لتوفير مساعدة مفتوحة للمتظاهرين الإيرانيين؛ ففي 12 أكتوبر الجاري، التقت نائبة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، مع مُمثّلين لأكثر من 20 شركة تكنولوجية لشرح قواعد جديدة تُساعد أجهزة الاتصالات عبر الإنترنت للوصول إلى إيران من دون انتهاك العقوبات، وأصدرت بياناً تؤكّد فيه أن “ثمة فرصة الآن لشركات التكنولوجيا لتزويد الشعب الإيراني بأدوات أساسية للتواصل فيما بينه ومع العالم الخارجي باستخدام شبكة الإنترنت”.
تُشير جميع الدلائل إلى أن واشنطن في صدد الدخول في مرحلة جديدة في علاقاتها مع إيران؛ فلم يعد التركيز فقط على الصفقة النووية ولكن التأكّد من فعل كل شيء يُمكن أن يُساعد في تغيير النظام في إيران
لقد اشتكى المُعارضون الإيرانيون منذ فترة طويلة من أن العقوبات المفروضة على التكنولوجيا أعاقت قدرتهم على التواصل مع العالم الخارجي ومع بعضهم بعضاً. ومُباشرةً بعد اندلاع الاحتجاجات الأخيرة قطعت الحكومة الإيرانية خدمة الإنترنت عن مُعظم مواطنيها البالغ عددهم 85 مليون مواطن، فيما أصدرت إدارة بايدن ترخيصاً عاماً يسمح لشركات التكنولوجيا بتوفير وسائل تقنية للإيرانيين للتحايل على القيود التي تفرضها الحكومة الإيرانية بهذا الخصوص. وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 23 سبتمبر الماضي بأن واشنطن ستسعى لضمان عدم عزل الشعب الإيراني وإبقائه في الظلام.
وثمة الآن ضغوط مُتزايدة في وسائل الإعلام على الولايات المتحدة للذهاب نحو توفير المزيد من الدعم للاحتجاجات في إيران، من خلال تشجيع شركات التكنولوجيا الكُبرى بما في ذلك “غوغل” و”أبل” و”أمازون” وغيرها من الشركات، لتوفير الأدوات وتسريع مبيعات التطبيقات التكنولوجية التي تتجاوز الترخيص العام التي تمتلكه. ففي مقال افتتاحي، حثّت صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً إدارة بايدن على إصدار إعلانات مُشتركة مع حلفائها، ومع الأكاديميين ومع المُنظّمات غير الحكومية لدعم الاحتجاجات. ويمكن للإدارة الامريكية أيضاً أن تفرض المزيد من العقوبات على الكيانات التي تعمل كوكلاء أو أبواق للحكومة القمعية في إيران، وإنشاء المزيد من محطّات البث الإذاعي باللغة الفارسية، والضغط من أجل إصدار قرار بهذا الخصوص في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
الاستنتاجات
حتى في حال أظهرت طهران مرونةً دبلوماسية غير مسبوقة وهو أمر غير مُحتمل، فسيكون من المُستحيل تقريباً على إدارة بايدن إحياء الصفقة النووية طالما أن الاحتجاجات في إيران ستواصل تحدّي النظام. وتقوم واشنطن حالياً بدراسة وتحليل الطرق التي يُمكن من خلالها تحسين دعم أولئك الذين يخاطرون بحياتهم من أجل التغيير في إيران. وتُعتبر احتمالية انضمام طبقة العمال والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى إلى الاحتجاجات نقطة تحوّل حاسمة بهذا الخصوص. ولهذا السبب فإن إدارة بايدن تأخذ على محمل الجد البيان الذي أصدره العمال في قطاع النفط والذين قالوا فيه: “نحن ندعم صراع الشعب ضد العنف المُمنهج اليومي ضد المرأة، وضد الفقر، والجحيم الذي يُهيّمن على المجتمع”.
ولغاية الآن، تنشط حركة الاحتجاج على شكل حشود صغيرة في جميع أنحاء البلاد، ولكنها واسعة الانتشار، ما يجعل من الصعب على الحكومة شنّ هجمة كبيرة وحاسمة ضدها. وثمة إجماع في واشنطن حالياً بأن هذه الموجة من الاحتجاجات ستستمر لفترة أطول من سابقاتها، وستُشكّل تحدّياً أكبر لشرعية النظام الإسلامي في البلاد. وعلى عكس إدارة أوباما، يبدو أن الرئيس بايدن مُصمّم على إعطاء الأولوية لجهود المُساعدة في إحداث تغيير في الطبيعة السياسية للنظام، مع استخدام جميع أدوات القوة الأمريكية التي تتراوح بين العقوبات الاقتصادية إلى الدعم التكنولوجي لاتصالات المُحتجّين. وبهذا المعنى، تُشير جميع الدلائل إلى أن واشنطن في صدد الدخول في مرحلة جديدة في علاقاتها مع إيران؛ فلم يعد التركيز فقط على الصفقة النووية ولكن التأكّد من فعل كل شيء يُمكن أن يُساعد في تغيير النظام في إيران.
.
رابط المصدر: