نهاية الحرب: الاقتصاد والنفط يحددان مستقبل الأزمة الروسية الاوكرانية

د. أحمد سلطان

 

أدت الأزمة الروسية الأوكرانية إلى اضطراب حاد وقوي في أسواق الطاقة العالمية والجانب الجغرافي السياسي المتعلق بها، بالإضافة إلى التغيرات الكبيرة في قطاع سلاسل الإمدادات، ودفعت أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى الارتفاع إلى أعلى مستوياتها منذ ما يقرب من أكثر من ١٤ عامًا، ومُرغمة العديد من دول العالم وليست القارة الأوروبية وحدها على ضرورة إعادة النظر في آليات حصولها على الطاقة. وعلى الجانب الآخر، فرض الاتحاد الأوروبي العديد من العقوبات على الاقتصاد الروسي منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية. وفي نهاية مايو الماضي، سعى الاتحاد الأوروبي بعد تردد دام شهورًا طويلة إلى إصدار الحزمة السادسة من العقوبات بعد ٥ حزمٍ سابقة.

النفط والغاز الطبيعي الروسي

توفر موسكو ما يُعادل سدس إمدادات النفط والغاز العالمية، ويرجع ذلك باعتبارها تُعد ثالث أكبر مُنتج للنفط الخام في العالم (وثاني أكبر مُصدر للنفط الخام) وثاني أكبر مُنتج للغاز الطبيعي (وتعد من أكبر مصدري الغاز عالميًا)، وبتحليل هذه المكانة للدب الروسي تتضح هيمنة موسكو وبالأخص داخل القارة الأوروبية، إذ تزوّد دول القارة بحوالي أكثر من ٢٠٪ من نفطها وأكثر من ٣٠٪ من غازها، وسيعتمد تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على القارة الأوروبية ومستهلكيها، وصناعة النفط والغاز الطبيعي وغيرها من الصناعات التي تتميز بأنها صناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، على العديد من العوامل، ومنها:

مدة هذه الحرب. 

شدة صدمات أي اضطراب متوقع في الإمدادات الروسية. 

مستوى نقص النفط والغاز الطبيعي في دول القارة الأوروبية.

الضغوط العالمية لتعويض الإمدادات الروسية النفطية

الأزمات السياسية والاقتصادية العالمية ما زالت تلعب دورًا كبيرًا ومؤثرًا في تشكيل سوق الطاقة العالمي، والتي منها مبادئ العرض والطلب، كما للبيئة والصحة العالمية تأثير بالغ على أسعار الطاقة والنفط، وهذا ما شهده العالم جراء تداعيات جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية. ومن الجدير بالذكر أن أسعار النفط قد تراجعت إلى حوالي ٩ دولارات في أبريل من عام ٢٠٢٠، وتحسنت الأسعار وارتفعت حتى مستويات كبيرة حيث بلغت حوالي ١٣۸ دولارًا للبرميل مع بداية الحرب. وبصفة عامة، تُشكل روسيا أكبر مُصدر للنفط، إذ تُمثل صادراتها النفطية حوالي أكثر من ٥ ملايين برميل يوميًا من النفط الخام وبما يُعادل نسبة حوالي ١٢٪ من إجمالي التجارة العالمية، وتُشكل حوالي أكثر من ٢٬۸ مليون برميل يوميًا من صادرات المنتجات النفطية العالمية، أي ما يعادل حوالي ١٥٪ من تجارة المنتجات المكررة عالميًا. والاتحاد الأوروبي وحده كان يستحوذ على نسبة تُعادل أكثر من حوالي ٤٥٪ من صادرات روسيا من الخام والمنتجات النفطية وذلك بنهاية عام ٢٠٢١، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في نهاية فبراير الماضي.

وبعد قرار الحظر الأخير، بدأ الاتحاد الأوروبي رحلة البحث عن مصادر بديلة للنفط الروسي، موجهًا أنظاره إلى منطقة بحر الشمال والقارة الأفريقية والشرق الأوسط، وبصفة خاصة وجدت شركات النفط والغاز الطبيعي العالمية والتي تعمل بالتنسيق مع الحكومات نفسها مطالبة بإيجاد الطرق والحلول البديلة والكفيلة بالحد من تداعيات الانقطاع المحتمل لإمدادات النفط والغاز الطبيعي من موسكو على المدى الطويل، ويأتي ذلك بعد أن زاد الغزو الروسي لأوكرانيا من الوضع الهش لأسواق الطاقة العالمية، وبالأخص في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وبسبب تلك المتغيرات والعوامل أصبحت شركات النفط والغاز الطبيعي العالمية مطالبة وبسرعة بتعزيز مرونتها وتكيفها في سوق الطاقة العالمي الذي يتميز بالمرونة الكبيرة للأحداث الجارية.

ماذا تغير في سوق النفط والغاز بعد الغزو الروسي؟

اختلفت صناعة النفط والغاز الطبيعي عما قبل الحرب الروسية الأوكرانية في بعض النقاط:

أولًافي مرحلة ما قبل الغزو، بدأت عملية الطلب العالمي على منابع الطاقة تفوق العرض، ومع انتعاش عمليات الطلب بعد الانحسار التدريجي لجائحة كورونا كان من المتوقع طبقًا لحالات السوق ومبدأ العرض والطلب أن يزداد اختلال التوازن بين العرض والطلب إلى حوالي ٢٪ وذلك في نهاية العام الحالي.

ثانيًا: ما يحدث الآن بعد الأزمة الروسية الأوكرانية والحظر الأوروبي والأمريكي للنفط الروسي؛ أنه سيحدث نقص كبير في العرض الذي تعانيه سوق النفط العالمية مما سيؤدي إلى عجز تاريخي، ولا يمكن للدول المنتجة الكبرى علاجه وتعويضه بصورة سريعة، وسيُمثل النفط والغاز الطبيعي معًا أكثر من ٥٠٪ من إجمالي إمدادات الطاقة على المستوى العالمي وذلك في الفترة المقبلة.

صعوبة إيجاد حلول فورية لسد الفجوة بين العرض والطلب

الحرب الروسية الأوكرانية تُثير الكثير من المخاوف العالمية بشأن احتمالية حدوث نقص في الإمدادات الروسية من النفط الخام والمنتجات البترولية، وزاد من تلك المخاوف اضطراب الإمدادات غير المتوقع الذي حدث مؤخرًا في الجمهورية الليبية، والذي أدى إلى خروج حوالي أكثر من ٥٠٠ ألف برميل من النفط المكافئ يوميًا من الإمدادات. وكل هذا بالإضافة إلى النضوب المستمر للمخزون الحالي من الهيدروكربون، سيجعل أسعار النفط مرتفعة، على الرغم من الانخفاض الأخير المقدر بحوالي ٢٦٠ ألف برميل نفط يوميًا في الطلب المتوقع على النفط في عام ٢٠٢٢، وبالأخص في الصين، وهذا كله بالإضافة إلى العديد من الأسباب التي أدت إلى غياب الحلول العملية والسريعة لسد الفجوة بين العرض والطلب، وتشمل تلك الأسباب الوقت الذي ستستغرقه زيادة سعة مصادر الطاقة البديلة، وبينما يمكن استخدام الفحم بهدف تلبية بعض احتياجات الطاقة، فإن من شأنه أن يُعرض العالم للخطر ويخل بالتزام المجتمع الدولي والصناعي بتحقيق الحياد الكربوني وتحقيق آمال المجتمع الدولي. وعلى الجانب الآخر، يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز عملية التحول إلى الطاقة المتجددة والبديلة، وتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، ولكنها لم تُؤمن استثمارات كافية لتحقيق أهدافها حتى الآن في هذا التحول، حيث إن خطة الاتحاد الأوروبي تتطلب إجمالي استثمارات يُقدر بحوالي أكثر من تريليون يورو، وذلك من أجل تحقيق الهدف الرئيسي الذي يتمثل في زيادة حصة الطاقة المتجددة والبديلة من إجمالي إمدادات توليد الكهرباء الأوروبية من معدلات ٤٠٪ إلى حوالي ٤٥٪ وذلك بحلول عام ٢٠٣٠، بالإضافة إلى احتياج القارة الأوروبية للمزيد من ضخ الاستثمارات بهدف تطوير الشبكة الكهربائية وتخزين البطاريات من أجل ضمان إمدادات آمنة ومستقرة من الطاقة الكهربائية. ومن زاوية أخرى، تجاوزت معدلات الطلب اليومي على النفط مستويات العرض وذلك بأكثر من حوالي مليون برميل من النفط، منذ منتصف عام ٢٠٢١، حيث بلغت مستويات الطلب الفائض ذروته عند ٢ مليون برميل من النفط يوميًا، وذلك بحلول الربع الأخير من عام ٢٠٢١، وكان من المتوقع أن يتوقف هذا العجز بحلول منتصف العام الحالي مدفوعًا بإمدادات المنتجين من خارج تحالف أوبك بلس، وأدت العديد من العوامل إلى إهمال الافتراضات، وفي ظل جميع تلك العوامل، كان من المتوقع أن يستمر شح العرض حتى عام ٢٠٢٢، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا يؤكد أن الضغوط التصاعدية على مستويات الأسعار كان من المتوقع أن تستمر.

تأثيرات نقص مستويات إمدادات الطاقة الروسية

في حالة استمرار الحرب وتوسع الدب الروسي في الأراضي الأوكرانية سوف يحدث صدع حاد في الإمدادات النفطية، مما سينعكس على أسعار النفط بشكل ملحوظ، وسنجد الأسعار تتهاوى إلى الانخفاض المتذبذب في حالة زيادات كبيرة في الإنتاج، ومن المتوقع أن يؤثر انقطاع أو نقص الإمدادات النفطية كنتيجة متوقعة للحرب الروسية الأوكرانية على دول القارة الأوروبية بصفة كبيرة، وبدرجة أقل حدة على بقية دول العالم، إذ يمكن لاضطرابات الإمدادات الروسية النفطية دفع أسعار السلع الأساسية أيضًا إلى أعلى مستوياتها، ومن المؤكد أن يتطلب خفض النفط الروسي وبالأخص الغاز الطبيعي إلى دول أوروبا استجابات سياسية، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تقنين الطاقة وذلك من خلال القطاعات المعتمدة على الطاقة. وبدورها، تستعدّ دول العالم والمستهلكة وذات التبعية المباشرة للنفط الروسي لاضطرابات محتملة في الإمدادات النفطية، وهذه الأسباب هي التي جعلت الاتحاد الأوروبي يضع خطة واضحة بهدف الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين.

الركود العالمي

عندما تصل أسعار النفط إلى مستويات قياسية، فإن تلك الأسعار ستقود العالم إلى ركود اقتصادي كبير على المدى المتوسط، وتدفع الدول المستهلكة للنفط إلى ضرورة تكثيف جهودها للبحث عن بدائل أخرى للطاقة، وهنا يجب الإشارة إلى ما حدث في عام ٢٠٠۸ وذلك عندما ارتفعت أسعار النفط إلى حوالي ١٤٧ دولارًا للبرميل، وقبل التدهور الكبير والسقوط إلى مستويات أقل من ٣٦ دولارًا، وما حدث في مارس من عام ٢٠١٢ إذ وصل سعر برميل النفط إلى حوالي ١٢۸ دولارًا، ثم تراجع إلى حوالي ٢٦ دولارًا في يناير من عام ٢٠١٦، فالعالم الآن أصبح لا يحتمل كارثة اقتصادية عالمية أخرى بعد مرور فترة زمنية قصيرة.

الحلول والتوقعات المستقبلية

وفقًا لجميع تلك العوامل والمؤشرات والأسباب السابقة فإن ذلك سيتطلب من الجميع ضرورة العمل على:

  • إيجاد حلول وخطط بديلة أو تطوير مصادر بديلة وآمنة، وهو الأمر الذي سيتطلب توافر الخبرة التقنية والجيوسياسية والمالية والمزيد من الاستثمار والتعاون العالمي، وستحتاج الدول إلى العمل بشكل قوي مع شركات النفط والغاز الطبيعي، وذلك من أجل إعادة تشكيل نظام الطاقة في المستقبل وطرق استخدام المستهلكين والصناعات للطاقة.
  • تضافر الجهود العالمية المتمثلة في ضرورة السحب من المخزونات الاستراتيجية النفطية التي يبلغ حجمها أكثر من حوالي ٤٬٥ مليارات برميل من النفط الخام.
  • استخدام الطاقة الإنتاجية غير المستغلة للعديد من دول العالم.

تلك النقاط وحدها قادرة على تعويض أي نقص محتمل من النفط، سواء جاء النقص بسبب حظر تصدير أكثر من حوالي ٦ ملايين برميل يوميًا من النفط الروسي، أو من حلفائها المصدرين للنفط مجتمعين. وعلى الجانب الآخر، تعهدت أيضًا برلين ووارسو بوقف وارداتها من النفط الروسي، حتى لو لم تجبرا على ذلك، وستتفاقم المخاوف إزاء نمو سلبي أو صفر نمو في القارة الأوروبية مع بيانات تظهر تراجع الاقتصاد الفرنسي بنسبة حوالي ٠٬٢٪ في الربع الأول مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة، في خفض للتوقعات.

وهناك العديد من التوقعات المحتملة:

أولًا: وهو يُمثل الوضع الحالي، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، فقد تعطل بشكل كبير أكثر من ٢٥٪ من الطاقة الروسية وذلك بسبب العقوبات الموقعة من جانب المشترين الأوروبيين، أو العقوبات التي فرضتها بعض الدول الأخرى والتي تأتي الولايات المتحدة الأمريكية على رأس القائمة بجانب المملكة المتحدة، وبسبب ذلك ظهرت بعض محاولات موسكو لإعادة توجيه الإمدادات الروسية، لكنها كانت محدودة حتى الآن وبالتحديد إلى منطقة شرق آسيا، وهنا من الضروري أن يخضع نقص مستويات ومعدلات الطاقة في القارة الأوروبية للسيطرة، وقد تواجه المواد الخام والكيميائية والمواد الأساسية وقطاعات التصنيع المختلفة اضطرابات حادة وشديدة، وستظل معدلات أسعار السلع الأساسية في ارتفاع، وستظل مستويات سعر برميل النفط فوق ١٠٠ دولار لفترات طويلة، ويصل مليون وحدة حرارية بريطانية للغاز إلى حوالي ٥٠ دولارًا.

ثانيًا: وهو يُمثل فترة ما بعد المائة يوم القادمة، وفي حالة تصعيد الحرب الروسية الأوكرانية بين الطرفين مع تنوع أو دخول أسلحة جديدة، وتقليص مستويات ومعدلات تدفق الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية لأكثر من حوالي ٥٠٪ من ومع احتمالية استمرار عمليات ونسب الحظر النفطي الحالي أو زيادتها إلى أكثر من ۹٠٪ وسحب كميات ضخمة من المنتجات والمشتقات النفطية الروسية من الأسواق الأوروبية في نهاية عام ٢٠٢٢، سوف ينعكس ذلك على أسعار النفط العالمية التي من الممكن أن تصل لمستويات ١٥٠ دولارًا للبرميل، وارتفاع أسعار الغاز إلى حوالي ١٠٠ دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.

مجمل القول، من الواضح أن الطرفين يمارسان لعبة العض على الأصابع، وكل طرف ينتظر أن يتألم الطرف الآخر ويعلن استسلامه، ولكن من الواضح أنهم أيضًا يعلمون جيدًا قدرة كل منهم على الصبر ودرجات أو مستويات تحمله، فبالرغم من أن الدول المتكتلة ضد موسكو تستحوذ على نسبة حوالي أكثر من ٧٠٪ من اقتصاد العالم أجمع، فإن قدرتها على التحمل لن تكون طويلة، فهي دول تواجه العديد من التحديات المختلفة ولن يكون حالها بكل تأكيد أفضل من موقف موسكو والقدرة على التحمل، ولذلك فإن الاقتصاد هو من ستكون له الكلمة العليا بحل هذا النزاع واللجوء إلى طاولة المفاوضات وضرورة التفاهم على ما يمكن أن يوجد حالة من التوافق لإنهاء تلك الأزمة التي كانت متوقعة ولكن ليس في هذا التوقيت الذي جاء بعد مسلسل أكبر إغلاق اقتصادي قسري في تاريخ البشرية وذلك بسبب تفشي جائحة كورونا، فحماية تلك الدول وخصوصا القريبة من دائرة الخطر لاقتصادياتها سيكون هو المحرك الرئيسي لإيجاد الحلول الممكنة. وهما يثور السؤال؛ هل سيصبح الفحم خيار القارة الأوروبية المرير للتعامل مع نقص إمدادات النفط والغاز الروسيين؟.

المصادر:

  • The war in Ukraine: A moment of reckoning for the oil and gas industry, May 2022; Accenture.
  • OPEC Energy Review Report, 2022; Organization of the Petroleum Exporting Countries (OPEC).
  • Annual Statistical Bulletin Report, 2021; OPEC.
  • The International Energy Agency, IEA, Report 2022.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19838/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M