أحمد نظيف
في خطوة قد تشير إلى اجتياز العلاقة بين نظام الرئيس التونسي قيس سعيِّد والحركة الإسلاموية نقطة اللاعودة، اعتقلت السلطات التونسية، في 17 أبريل الجاري، رئيس حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي، الذي قاد البرلمان المنحل بقرار رئاسي في يوليو 2021. وجاء هذا التطور في سياق محلي ودولي شديد التعقيد بالنسبة لتونس، التي تعاني أزمة سياسية حادةً، وأزمة اقتصادية أكثر حدة.
تُحاول هذه الورقة استكشاف آفاق الصراع السياسي بين حركة النهضة ونظام الرئيس سعيّد، انطلاقاً من واقعة اعتقال راشد الغنوشي، وتداعياتها محلياً ودولياً.
اعتقال الغنوشي ودلالاته
بين الدولة التونسية وحركة النهضة تاريخ طويل من الصراع، لم يتوقف سوى عشر سنوات كانت فيها الحركة على رأس الدولة حاكمةً أو مشاركةً في الحكم. لهذا فإن الصراع الدائر اليوم بين نظام الرئيس قيس سعيّد والحركة الإسلامية، ليس جديداً، بل هو تقريباً القاعدة التاريخية الذي حكمت علاقة الدولة التونسية بالحركة باستثناء العشرية الأخيرة (2011 – 2021). وفي جميع جولات الصراع التاريخي بين الدولة والحركة، عادةً ما كان اعتقال رئيسها راشد الغنوشي، أو خروجه من البلاد، بمثابة النقطة التي تُدشِّن الطابع الوجودي لهذا الصراع. حَدَثَ هذا في عام 1987 في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، كما حدث في بداية تسعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، ويتكرر اليوم في عهد الرئيس قيس سعيّد.
جاء اعتقال الغنوشي في سياق عام مأزوم تعيشه تونس منذ مطلع العام الحالي، حيث شرعت السلطات منذ فبراير الماضي في حملة اعتقالات واسعة طالت وزراء سابقين ورجال أعمال وصاحب أكبر محطة إذاعية في البلاد، بتهم التآمر على أمن الدولة. وفي سياق خاص يتعلق بحركة النهضة، التي طالت الاعتقالات عدداً كبيراً من قياداتها كذلك، بتهم التآمر على أمن الدولة، والتورط في شبكات التسفير لبؤر التوتر في ليبيا وسوريا والعراق بين 2012 و2015، وكذلك تحت طائلة قضايا تبييض أموال وفساد. لكن حملة الاعتقالات لم تصل الغنوشي حتى منتصف أبريل، رغم أنه كان مُلاحَقاً في قضايا أخرى، حيث مثل في فبراير أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب عقب شكوى اتهم فيها بتسمية الشرطة بـ “طغاة”. وقبل ذلك، وتحديداً في نوفمبر 2022، استمع إليه قاض من المركز القضائي لمكافحة الإرهاب في قضية تتعلق بإرسال جهاديين إلى سورية والعراق. وقبلها، استجوب للاشتباه به في قضيتي فساد وغسيل أموال مرتبطتين بتحويل أموال من الخارج إلى منظمة خيرية تابعة لحركة النهضة (يوليو 2022).
لكن ما دفع السلطات إلى اعتقال الغنوشي هذه المرة كان مقطع فيديو مُسرَّب من أحد اجتماعات جبهة الخلاص الوطني المعارضة، قال فيه: “إن تصوّر تونس بدون نهضة، وبدون إسلام سياسي، هو مشروع حرب أهلية”. ووضع حدث الاعتقال حداً لما يشاع في الأوساط السياسية المحلية من أن الغنوشي كان يتمتع بنوع من الحصانة بدفع من حكومات أجنبية وعربية. لكن الدلالة الأبرز لهذه الحدث أنه يُمثِّل ذروة المعركة السياسية بين حركة النهضة والرئيس قيس سعيّد، حيث أردفت السلطات قرار الاعتقال بقرار يقضي بغلق المقر المركزي للحركة، ومنعّ الاجتماعات في كل مقرات حركة النهضة، وأغلقت مقر اجتماعات جبهة الخلاص المعارضة، اعتماداً على قانون الطوارئ، وهو ما يعد تطوراً لافتاً في تعامل السلطة التونسية مع نشاط المعارضة السياسية، لاسيما حركة النهضة، مع تزايد إمكانية الاتجاه نحو تعميم هذا النهج السياسي والأمني في التعاطي مع بقية قوى المعارضة، بما في ذلك أحزاب اليسار والليبراليين والحزب الدستوري.
ردود الفعل الدولية
لئن شكل قرار اعتقال راشد الغنوشي دفعاً قوياً لشعبية الرئيس قيس سعيّد لدى أنصاره، الذين يطالبونه “بمحاسبة من حكموا خلال العشرية الماضية”، إلا أنه أثار حفيظة بعض القوى الدولية، التي ما فتئت تعلن تحفظها، من وجهة نظر حقوقية، على سياسات الرئيس سعيد ونظامه. فمثلاً، أعرب الاتحاد الأوروبي عن “قلقه الشديد” إزاء ما اعتبره “تدهوراً سريعاً للوضع السياسي في تونس” عقب اعتقال الغنوشي. وقالت المتحدثة باسم الاتحاد، نبيلة مصرالي: “نتابع بقلق بالغ التطورات الأخيرة في تونس، لاسيما اعتقال راشد الغنوشي، والمعلومات المتعلقة بإغلاق مقر حزب النهضة في تونس”. وأضافت: “نؤكد أيضاً على المبدأ الأساسي للتعددية السياسية بوصفها ضرورية لأي ديمقراطية، وتشكِّل أساس شراكة الاتحاد الأوروبي مع تونس”. من جانبها، حذرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك مِن تراجع تونس عن ما أسمته “أساسيات ديمقراطيتها”. وقالت بربوك إن برلين تنظر إلى اعتقال الغنوشي “بأكبر قدر من القلق”، مُشددة على أن “الإنجازات الديمقراطية في تونس منذ 2011 يجب ألا تضيع”.
أما وزارة الخارجية الأمريكية، فقد رأت في اعتقال الغنوشي “تعارضاً مع أحكام الدستور التونسي حول حرية الرأي والتعبير”. وقال فيدان باتل، النائب الرئيس للمتحدث الرسمي باسم الخارجية: “تتعارض اعتقالات السلطات التونسية للمعارضين والمنتقدين السياسيين بشكل أساسي مع المبادئ التي اعتمدها التونسيون في دستور يضمن صراحة حرية الرأي والفكر والتعبير. إن اعتقال رئيس مجلس النواب الأسبق، راشد الغنوشي، وإغلاق مقر حزب النهضة، وحظر اجتماعات بعض الجماعات المعارضة -وتلميح الحكومة التونسية إلى أن هذه الأعمال تستند إلى تصريحات عامة- تمثل تصعيدًا مقلقًا من قبل الحكومة التونسية ضد المعارضين. إن التزام الحكومة التونسية باحترام حرية التعبير وحقوق الإنسان الأخرى أكبر من أي فرد أو حزب سياسي، وهو ضروري لديمقراطية نشطة وللعلاقة بين الولايات المتحدة وتونس”.
وأبدت بريطانيا، التي يحتفظ الغنوشي بعلاقة قوية معها، باعتبارها كانت منفاه خلال ثلاثة وعشرين عاماً من حكم الرئيس بن علي، موقفاً مُشابها، إذ قالت على لسان وزير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، طارق أحمد: “تؤدي هذه الاعتقالات، بما في ذلك اعتقال راشد الغنوشي، والقيود المستمرة على المعارضة المشروعة في تونس إلى تآكل مساحة التعددية السياسية. أحث الحكومة على احترام مبادئ وقيم المجتمع المفتوح والديمقراطي، لصالح جميع التونسيين”.
في المقابل، لم تُعبِّر كلاً من الجزائر أو فرنسا أو إيطاليا، دول الجوار التونسي الداعم للرئيس قيس سعيد، حتى الآن عن موقفها مما يجري، في وقت تسعى روما بقوة لإقناع صندوق النقد الدولي بمنح تونس القسط الأول من قرض تمويل الموازنة، إذ أعاد نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، في 24 أبريل، التأكيد على أن سلطات بلاده “تدفع نحو حل جيد” بين تونس وصندوق النقد. ورأى تاياني، في تصريح على هامش اجتماع مجلس الشؤون الخارجية في لوكسمبورغ، أن “بوسع الاتحاد الأوروبي الاستثمار بشكل أكبر” في تونس، التي تعد “دولة رئيسة لاستقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا”.
السيناريوهات المحتملة
بين قديم لم يمُت وجديد لم يولد بعد، تعيش تونس حالة من الانتقال غير معروفة الوجهة، فيما بلغ الاستقطاب السياسي بين النظام والمعارضة (لاسيما القوى الإسلامية) درجةً غير مسبوقة. وفي ضوء ذلك تبدو المسارات المستقبلية للصراع بين الطرفين متجهةً نحو ثلاثة سيناريوهات ممكنة:
السيناريو الأول: تصعيد السلطات التونسية لحملة الاعتقالات تجاه قيادات حركة النهضة، والتسريع في فتح ملفات قضائية، وإصدار أحكام يمكن أن تؤدي إلى حلّ حزب الحركة من الناحية القانونية، وبالتالي إنهاء الوجود التنظيمي للإسلام السياسي في البلاد. وهو سيناريو غير مستبعد الحدوث، في ضوء ما وصلت إليه العلاقات بين الطرفين، لكن ستكون له على الأرجح تداعيات أمنية داخلياً، وتداعيات دولية، حيث يمكن أن يواجه هذا المسار معارضةً غربية، وخاصة من قبل واشنطن ولندن وبرلين، ما سيؤثر على حظوظ الحكومة التونسية الاقتصادية. لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون دافعاً لدعم دولي من دول أخرى لديها مواقف متحفظة أو مضادة للإسلام السياسي، لاسيما فرنسا وإيطاليا. غير أنه من الصعب على المدى البعيد التعويل عليه كحلٍّ نهائي لمعضلة الإسلام السياسي في البلاد، بوصفه حلاً جرى تجريبه سابقاً، وأدى إلى نتائج عكسية في عهدي بن علي وبورقيبة.
السيناريو الثاني: محافظة السلطة التونسية على نسق مستقر من المواجهة مع حركة النهضة، حيث يمكن أن تواصل فتح الملفات القضائية التي تستهدف الحركة دون أن تذهب بعيداً نحو حلّها، باعتبار أن هذا المسار قد يجلب مزيداً من الدعم الدولي وحتى المحلي للحركة، ومزيداً من التحفظات الدولية حول ملفي الديمقراطية وحقوق الإنسان في تونس. لكنها في الوقت نفسها ستحاول تطويق نشاط المعارضة عموماً، وحركة النهضة على نحو خاص، من خلال تطبيق إجراءات قانون الطوارئ. وهذا السيناريو يبدو الأقرب للحدوث، بوصفه الخيار الأفضل للسلطة وخاصة لحلفائها الخارجيين، لاسيما باريس وروما، الذين لا يريدون الوقوع في إحراج دعم أي إجراءات يعتبرونها “مخالفة للقيم الديمقراطية”، خصوصاً بالنسبة لإدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. غير أن هذا السيناريو على المدى البعيد لا يمكن أن يكون أيضاً حلاً لمعضلة الإسلام السياسي في البلاد، طالما لم يُقدِم الإسلاميون على ممارسة نقد ذاتي وحقيقي لتجربتهم السياسية، رغم أنهم وعدوا بذلك في أوقات سابقة.
السيناريو الثالث: تراجُع السلطات التونسية عن القيام بإجراءات تجاه حركة النهضة وبقية قوى المعارضة، وإخلاء سبيل القيادات التي اُعتقِلَت، بمن فيهم الغنوشي نفسه، وهو سيناريو يبدو ضعيفاً، لاسيما على المدى القريب، بالنظر للطبيعة السياسية للرئيس قيس سعيّد، المعادية للديمقراطية التمثيلية والمنظومة الحزبية، والتي أكَّد دوماً على أنها أهم أسباب الفساد السياسي في البلاد. ولهذا، فإن خيار التراجع لا يبدو وارداً في الوقت الحالي، مع أنه يبقى قائماً من الناحية النظرية، خاصة في ظل استمرار الضغوط الغربية على تونس، واستغلال حاجتها لتمويلات خارجية لسد عجز الموازنة والخروج من أزمتها المالية الخانقة.
.
رابط المصدر: