نيران قريبة: من أشعل حروب الجوار الروسي؟!

داليا يسري

 

بينما يُلقي العالم كل أسماعه إلى دوي المعارك في أوكرانيا؛ اندلعت في الجوار الروسي اشتباكات مُسلحة بين أربع دول تقع جميعها في مناطق تُعدها موسكو نطاقات امتدادها في الفضاء ما بعد السوفيتي. أولها؛ ما جرى بين أرمينيا وأذربيجان، في 14 سبتمبر 2022، رغم الدعوات الدولية الدبلوماسية لمنع أي مواجهات مسلحة جديدة بين البلدين، فنقلت وكالات الأنباء الدولية كيف اشتعلت المعارك بينهما عقب يوم دام شهد فيه مقتل نحو مئة جندي من البلدين في مواجهات حدودية هي الأشرس من نوعها في القوقاز منذ عامين.  من ناحية أخرى، وفي غضون فترة لا تزيد على 72 ساعة من اندلاع اشتباكات أرمينيا وأذربيجان، اندلعت مواجهات مسلحة مماثلة على الحدود ما بين قيرغيزستان وطاجيكستان، حيث تبادل البلدان بدءًا من 16 سبتمبر، النيران.

وبما أن ثمة تشابه في ملامح الخطوط العريضة بين الصراعين، فإن احتمالات أن يكون ذلك من قبيل الصدفة تكون بطبيعة الحال إلى حد ما مستبعدة؛ نظرًا إلى أنه من الصعب تخيل أن يقوم صراعان في أربع دول تجمعها تاريخ مشترك مع الاتحاد السوفيتي في توقيت يكاد يكون واحدًا من دون أن تذهب الاحتمالات إلى استنتاج أن هذه صراعات مسببة. وكنتيجة لذلك، نبحث في الملامح العامة المشتركة المميزة للصراعين؛ أملًا في الوصول إلى ما يربطهم بالحرب الروسية في أوكرانيا، بالإضافة إلى وضع استنتاج للطرف المستفيد من اندلاع هذه الصراعات في الوقت الراهن.

امتداد تاريخي يُلقي بظلاله على الحاضر

تتشابه الخطوط العريضة للحربين بشكل كبير، بما يجعل من كليهما حروبًا تقوم على خلفية أسباب ترجع إلى ترسيم الحدود. حيث تعود جذور تقسيم الأراضي إبان سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، إلى ترسيمها وتقسيمها دون مراعاة التكوين العرقي لسكانها. وقد حدث الأمر نفسه في الحالتين؛ الأرمينية الأذربيجانية، والطاجيكستانية القيرغيزستانية.

وفيما يتعلق بالحالة الأولى؛ حرب أرمينيا وأذربيجان، فإن جذور الصراع قد بدأت في العشرينيات من القرن الماضي خلال الحقبة السوفيتية إبان حكم جوزيف ستالين، عندما قررت السلطة السوفيتية، عام 1932، ضم الأقلية الأرمينية في الإقليم إلى الحدود الآذرية، مقابل ترك الأقلية الأذربيجانية معزولة تمامًا في إقليم “ناختشيفان” داخل جمهورية أرمينيا. بالإضافة إلى ذلك، منحت الدولة السوفيتية للإقليم الحق في الحكم الذاتي مع تبعيته لأذربيجان، مما ساهم في تحويله إلى قنبلة موقوتة آيلة للانفجار في أي لحظة.

وتجددت الاشتباكات بين الجانبين على هذا الإقليم على مدار السنوات. وكانت المواجهات بينهما تشتعل ثم لا تنفك لتعود تهدأ مرة أخرى. خاصة مع وجود قوى في الجوار، مثل روسيا، التي كانت لا تقبل باستمرار أي صراع عسكري في محيطها لفترة طويلة. لكنها في الوقت نفسه لم تكن تملك تقديم الحلول الجذرية لهذا النوع من الخلافات الحدودية.

أما بالنسبة إلى حرب طاجيكستان وقيرغيزستان، فهذه أيضًا معارك حدودية بين دولتين يجمعهما تاريخ سوفيتي موحد وعضوية في منظمات أمنية متعددة من ضمنها منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنغهاي للأمن والتعاون. وتعود أسباب الخلاف بينهما إلى أن الدولتين تتشاركان حدودًا يبلغ طولها نحو 971 كيلو مترًا، تم الاتفاق على ترسيم حدود ما يعادل نحو 70% من هذه المساحة، بينما تظل هناك مساحة أخرى تصل إلى قرابة الـ 30% يظل متنازعًا عليها إلى اليوم الحاضر ولم يتم ترسيمها منذ استقلال الدولتين عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991. ورغم وجود تداخل سكاني كبير وترابط بين المجتمعات التي تسكن هذه المناطق المتنازع عليها، بشكل يضع صعوبات تقسيمها وفصلها، إلا أن الصراعات المسلحة بين البلدين لا تنفك تتجدد بين الفينة والأخرى لأسباب تتعلق في أغلبها بنقص كميات المياه بشكل سنوي خلال الفترة ما بين شهر إبريل وحتى يوليو.

دلالات التوقيت: لماذا اشتعلت هذه الصراعات الآن؟

ينبغي، في كل نيران متأججة، أن تكون هناك دائمًا يد ما ربما تكون هي من أشعلت فتيل الشرارة الأولى. وتنطوي الحالتان موضع النقاش على صراع متجدد بشكل لا ينضب. حتى أصبح الأمر يكاد يكون أقرب إلى صداع مزمن في رأس أورو آسيا بالكامل. غير أن هذه الحقيقة لا تعني غياب التدخلات الخارجية عن إذكاء هذه الصراعات الآن تحديدًا؛ وعليه، نناقش أسباب النزاع وعلاقاته بالأطراف الخارجية والحرب الروسية الأوكرانية في النقاط التالية؛

● اهتزاز القبضة الروسية الأمنية في المنطقة: هناك قاعدة تاريخية معروفة عن السواد الأعظم من الصراعات الطائفية أو العرقية وغيرها، وهي أنها تظل كامنة طالما هناك قبضة أمنية قوية حاكمة لها. وفي الحالة بين يدينا، نجد أن روسيا بشكل رئيس ومن بعدها قوى أخرى مثل الصين، لطالما عملت على لعب دور شرطي الأمن الحافظ لتماسك المنطقة والقابض عليها بين يديه. غير أن انخراط روسيا بشكل مباشر في حرب كبيرة يتضافر الغرب لمواجهتها فيها في أوكرانيا، ربما ترتب عليه تراخي قبضتها الأمنية في منطقة الفضاء ما بعد السوفيتي برمتها، بشكل ألقى بظلاله على قدراتها في الاستمرار بأداء نفس الوظائف، وترتب عليه، في الوقت نفسه، أن أصبحت دول المنطقة تنظر بعين الريبة لمستقبل النفوذ الروسي في الأرجاء، ومدى قدرتها على تنظيم مطالبهم الإقليمية، والاستجابة لاعتمادهم الاقتصادي عليها من ناحية مجالات عدة مثل؛ ممرات النقل والطاقة والعمالة المهاجرة وغيره. بشكل يصبح معه جليًا كيف أثارت الحرب في أوكرانيا تساؤلات لدى هذه الدول حول مدى قدرة روسيا على الاستمرار في تقديم دعمها العسكري لهم، وضمان الاستقرار والأمن في آسيا الوسطى.

● صراعات جاذبة للعناصر البشرية: هناك ترابط آخر وثيق وعليه ينبغي النظر فيما يلي؛ أولاً، من المعروف أن كل حرب تسترعي مشاركة بشرية مكثفة. ثانيًا: ليس خافيًا أن الجيش الروسي يحتاج إلى مشاركة بشرية مكثفة ويعاني من عجز عددي ودليل على ذلك هو قرار إعلان التعبئة العسكرية الجزئية. ثالثًا: روسيا أثبتت بالفعل في ساحات أخرى -قبل الحرب- قدرتها الهائلة على الحشد العسكري خارج حدودها بوسائل عدة يأتي على رأسها شركة “فاجنر” العسكرية للمرتزقة الأجانب. علاوة على ذلك، تعتمد روسيا بنسبة كبيرة على تدفق العمالة الوافدة إليها من دول الجوار.

وكنتيجة طبيعية لكل ذلك، نفهم أن أي صراعات عسكرية محتملة تشهدها دول الجوار الروسي سوف تؤثر بدورها على قدرة موسكو على الحشد العسكري من هذه الدول. وسوف توقف أو على الأقل تبطئ من وتيرة انجذاب مواطني هذه الدول للمشاركة في الحرب الروسية الأوكرانية بوازع من جاذبية حمل جواز السفر الروسي؛ نظرًا إلى أن نفس العناصر المطلوب حشدها من قِبَل روسيا سوف يتم جذبها بطبيعة الحال إلى البؤر الساخنة الموجودة في بلادها. ومن ناحية أخرى، سيترتب على ذلك حرمان الاقتصاد الروسي من نسبة ليست هينة من تدفق العمالة اللازمة لسد احتياجاته، خاصة مع الأخذ في عين الحسبان حالة الهروب الجماعي، التي كان من المتوقع لدى الأجهزة الاستخباراتية الغربية، أن تشهدها روسيا في حالة الإعلان عن أي قرارات تعبئة. مما يترتب عليه وضع الاقتصاد الروسي تحت وطأة تهديد كبير بفعل النزيف البشري، ووضع الجيش الروسي تحت وطأة نفس التهديد بفعل الشيء نفسه. نخلص من كل ذلك إلى أن هوية الدولة أو الدول أو الجهة والجهات الخارجية التي تدخلت لإذكاء هذه الصراعات وفتح بؤر ساخنة في الفضاء ما بعد السوفيتي، يسهل التعرف من منطلق مبدأ “في كل أزمة ابحث عن المستفيد تعرف الفاعل”.

● اهتمام أمريكي بنطاق الفضاء ما بعد السوفيتي: تهتم الولايات المتحدة بالمنطقة لأغراض عدة؛ اقتصادية وسياسية. فمن الناحية الاقتصادية؛ تسعى الولايات المتحدة للوصول إلى موارد الطاقة بوجه عام في بحر قزوين وآسيا الوسطى؛ نظرًا إلى وجود اتجاه أمريكي نحو تقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط الذي تقوم المملكة العربية السعودية بصفتها أكبر منتجي النفط بالتحكم في أسواق النفط العالمية. بجانب أن الولايات المتحدة تسعى في الوقت نفسه لتقويض قطاع النفط الروسي.

وعليه، تكتسب منطقة بحر قزوين الذي ذهبت التقديرات إلى أنه يحتوي على احتياطيات تتراوح ما بين 15-200 مليار برميل من النفط ذي النوعية العالية، 2015، ما يجعله ثاني أكبر منطقة غنية بالثروات بعد الخليج العربي، إضافة إلى ثروة هائلة من الذهب والنحاس واليورانيوم. وهناك محاولات أمريكية كبيرة للتنافس مع روسيا في تطوير ممرات الطاقة من بحر قزوين ووضعها حول روسيا، وسبق من قبل وأن تدخلت الولايات المتحدة لإشعال الثورة الملونة (ثورة الزهور) في جورجيا 2003، والتي نتج عنها أن نجحت الولايات المتحدة في بناء خط أنابيب (باكو-تبليسي- جيهان”، والذي تم الانتهاء من بنائه في 2006، وينقل النفط الأذربيجاني عبر جورجيا إلى ميناء جيهان التركي حيث يتم تحميله في ناقلات من هناك. وفي الحالتين موضع الدراسة، نجد أن تقديرات صدرت في 2017، أشارت إلى أن أذربيجان تمتلك احتياطيًا نفطيًا مؤكدًا يقدر بنحو 7000 برميل يضعها في المرتبة العشرين على قائمة الدول الأكثر إنتاجًا للنفط، وطاجيكستان في المرتبة الـ 88 من القائمة نفسها. من ناحية أخرى، نجد أنه ورغم أن الإنتاج المحلي من النفط القيرغيزستاني بالكاد يلبي الاحتياجات الداخلية، نجد أن الدولة تمتلك فائضًا كبيرًا من الذهب والزئبق واليورانيوم.

ومن الناحية السياسية؛ إن خلق وتعزيز الاضطرابات المسلحة وغير المسلحة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، من شأنه أن يسهم ليس فقط في إثارة القلق لروسيا وحدها فحسب، بل أيضًا للعملاق الصيني ذي الطموحات الاستعمارية في دول الجوار، والذي تنطوي علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا على قلق تصاعدي بفعل التوترات مع تايوان.

وفي ضوء ما سبق، نخلص إلى أن ثمة ترابط بين اشتعال الحربين المذكورين وبين الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، وبين تصاعد التوترات الأمريكية الصينية من جهة أخرى. ونفهم كذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تأتي على رأس قائمة المستفيدين من إشعال البؤر الساخنة في هذا النطاق الجغرافي القريب من روسيا والصين على حد سواء؛ بغرض تشتيت جهودهم، وزعزعة نفوذهم في المنطقة، واستغلال الفرصة لتحقيق حضور ونفوذ أمريكي أكبر هناك، وخلق نزاعات جديدة يكون من شأنها صرف أنظارهم عن النزاعات الأًصلية التي ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها في توقيع هزيمة كبيرة بهم فيها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73346/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M