منذ بدء الولايات المتحدة الانسحاب تدريجياً من منطقة الشرق الأوسط والاهتمام أكثر بشرق آسيا لمواجهة الصين، سعى كلٌّ من روسيا والصين إلى التقارب مع إيران، في المقابل فإن إسرائيل التي تعتبر نفسها ممثلة للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة سعت لزيادة تقاربها مع أذربيجان. وبعد سنوات من القطيعة بينها وتل أبيب، انضمت تركيا إلى هذا التقارب الثنائي بعد عودة العلاقات التركية الإسرائيلية، بشكل بات يشكل تحالفاً ثلاثياً غير معلن بين باكو وأنقرة وتل أبيب، وهذا التعاون الثلاثي سيكون له دور مهم مستقبلاً في المنطقة، وخصوصاً فيما يتعلق بالدور الإيراني فيها.
وكانت أولى ثمرات هذا التعاون الثلاثي ما حققته أذربيجان من انتصار عسكري مهم في حرب عام 2020 ضد أرمينيا، ومنذ ذلك التاريخ تقدمت العلاقات التركية الإسرائيلية بخطى ثابتة، وظهرت العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية إلى العلن بشكل أكبر، وفُتِحَت سفارة أذربيجانية في تل أبيب لأول مرة منذ بدأت العلاقات بين الدولتين. في المقابل، تصاعد منذ ذلك التاريخ التوتر بين أذربيجان وإيران بشكل كبير وخطر، وهذا التصعيد بدأ يؤثر في العلاقات الراسخة بين تركيا وإيران، إذ إن أنقرة ترى في أذربيجان حليفاً مهماً وبوابة لها على القوقاز ووسط آسيا، وشريكاً استراتيجياً في مشاريع الطاقة وخطوط الغاز والبترول. وقد حرص البلدان على مدى عقود على تحييد خلافاتها واستمرار التعاون بينهما في مجالات عدة رغم هذه الخلافات، واليوم يمكن القول إن العلاقات التركية الإيرانية باتت مهددة وفق الخطوات التصعيدية التي تتخذها طهران تجاه باكو.
أسباب تزايُد الخلافات بين إيران وأذربيجان
هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى اشتعال الخلاف بين باكو وطهران، أهمها الآتي:
1. شعور طهران بأنها مُحاصَرة. هناك قلق متنامي في طهران تجاه تطور العلاقات الأذربيجانية مع تركيا، وبعد عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها من مصالحة وتعاون، وإجراء تركيا وأذربيجان وباكستان مناورات عسكرية مشتركة، فإن شعور طهران بأنها باتت محاصرة من قبل قوى عسكرية متعاونة يمكن أن تنضم إليها إسرائيل زاد من قلقها.
2. ممر زانغازور البري. وفق اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسَّطت فيه روسيا بين أذربيجان وأرمينيا بعد حرب 2020، فإنه يجب فتح طريق بري يصل الأراضي الأذربيجانية مع إقليم نخشوان الأذري، عبر طريق تمتد على طول الحدود الإيرانية الأذربيجانية. وترى طهران أن هذا الطريق سيؤدي إلى خسارتها للعديد من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية؛ حيث سيتسبب في قطع التواصل البري بين إيران وأرمينيا، ومنه إلى أوروبا، وسيزيد من صعوبة التواصل البري بين إيران وروسيا والقوقاز بشكل عام، كما أنه سيفقد طهران جزءاً من أهمية موقعها في مشروع الطريق والحزام الصيني، لأنه سيوفر طريقاً بديلاً عبر أذربيجان ونخشوان وتركيا إلى أوروبا. كذلك فإن تواصل تركيا البري مع أذربيجان من شأنه إعادة إحياء مشروع مد خط غاز من تركمانستان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وهذا سيُقلل الطلب على الغاز الإيراني. لذا فإن المرشد الإيراني على خامنئي أبلغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائهما في أستانة في 19 يوليو 2022 بأن إيران لن تسمح بأي خطوة في المنطقة من شأنها قطع التواصل البري بينها وبين أرمينيا.
3. تصاعد نشاط الحركات القومية في البلدين. في إيران ثاني أكبر مجموعة تركية وهم الإيرانيون من أصل أذربيجاني، والذين يقدر عددهم بنحو 35 مليون تقريباً. ومنذ انتصار أذربيجان في الحرب على أرمينيا بدعم عسكري تركي، زاد نشاط الحركات الإيرانية من أصل اذربيجاني، وزادت نشاطاتها في مختلف المناطق، ليصادف ذلك الحركات الاحتجاجية في إيران بسبب مقتل مهسا أميني. وبدأنا نشهد رفع العلم التركي في عدد من المباريات في كرة القدم بين أندية آذرية الأصل مع أندية أخرى في الدوري الإيراني، وإنشاد المشجعين من أصول أذرية لأناشيد وطنية تركية. ردود الفعل على هذه النشاطات زادت من تحرك القوميين في كل من إيران وأذربيجان، حيث يعتبر القوميون الإيرانيون أن أذربيجان بشعبها الذي يصل تعداده إلى 10 مليون نسمة جزء تاريخي من “إيران الصفوية الكبرى”. وفي المقابل، فإن القوميين الأذربيجانيين يعتبرون شمال إيران حيث يقطن المواطنون الإيرانيون من أصل أذربيجاني، جزءاً من “أذربيجان الكبرى”. وهو ما أدى إلى تصاعد حرب كلامية إعلامية بين الدولتين رُفعت خلالها الشعارات القومية المطالبة بضم أراضي من الطرف الآخر.
وعلى الرغم من تجنُّب تركيا في العهود السابقة أي استغلال أو استفادة من الحركات الأذرية في إيران، إلا أن طهران تبدو قلقة من أن تمتد يد إسرائيل الخفية إلى داخلها عبر أذربيجان والأحزاب القومية هناك، كما أن الحرب الروسية على أوكرانيا تجعل أذربيجان مرشحة لزيادة بيعها للغاز، وأن تتحول إلى جسر لنقل الغاز التركماني إلى تركيا، مما سيزيد من ثروتها التي ستشكل عامل جذب مركزي قد يزيد من نشاط الحركات الأذرية في إيران. وفي المقابل فإن الحكومة الأذربيجانية قلقة من استخدام طهران لنفوذها الشيعي في الداخل الأذربيجاني، واحتمال تشكيل الحرس الثوري الإيراني خلايا نائمة في أذربيجان تهدف مستقبلاً لزعزعة أمنها واستقرارها كما فعلت سابقاً في العراق وسورية ولبنان واليمن. وكشفت باكو عن تشكيل إيران حركة مسلحة تابعة لها في أذربيجان تحت اسم “حسينيون” عام 2021.
4. تطور العلاقات الأذربيجانية مع إسرائيل. بدأت العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان فوراً عام 1990 بعد إعلان أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، ويمكن حصر نقاط اهتمام إسرائيل وأذربيجان بالتعاون الثنائي فيما يلي:
أ) ترى إسرائيل أن أذربيجان جزء من الشرق الأوسط الموسع، لذا فهي مُهتمَّة بتطوير التعاون معها ضمن استراتيجيتها القديمة لزيادة التعاون مع الدول المحيطة بالعالم العربي مثل تركيا وإثيوبيا. وضمن الصراع الإقليمي الحالي بين إيران وإسرائيل، فإن تل أبيب مهتمة بتطوير تعاونها مع جيران إيران، بمن فيهم أذربيجان.
ب) تحتاج إسرائيل للنفط من أذربيجان من أجل توفير جزء من احتياجاتها النفطية – حوالي 40% من احتياجاتها – من مصدر غير عربي في المنطقة، وهي بحاجة إلى أي صوت يدعمها في الأمم المتحدة.
ج) تحتاج أذربيجان إلى إسرائيل واللوبي الإسرائيلي في واشنطن من أجل دعم موقفها في صراعها المزمن مع أرمينيا التي تحصل على دعم أوروبي وغربي مسيحي. وفي هذا الاطار قال أول رئيس للجمهورية الأذربيجانية أبو الفضل ألتشي بيه “إننا بحاجة ماسة إلى اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس الأميركي من أجل وقف الدعايات الأرمينية ضد بلادنا”.
د) تحتاج أذربيجان إلى الحصول على السلاح لمعركتها في إقليم ناغورنو قره باغ ضد أرمينيا التي تحصل على السلاح من روسيا، والمصدر الأهم والأفضل بالنسبة لها هو إسرائيل بسبب دعم دول الاتحاد الأوروبي لأرمينيا، لذا فإن تبادل النفط مع السلاح شكل صفقة جيدة لكلا الطرفين الإسرائيلي والأذري.
هـ) تُسهم إسرائيل في تطوير البنية التحتية لأذربيجان التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي في حالة متخلفة صناعياً وتكنولوجياً، حيث كانت تعتمد على التكنولوجيا السوفيتية القديمة، لذا فإن هناك استثمارات إسرائيلية مهمة في قطاعات الزراعة والصناعة والطب في أذربيجان، كما أن اللوبي الإسرائيلي ساعد على حصول باكو على الدعم الأميركي من أجل مد أول خط بترول من أذربيجاني إلى تركيا عبر جورجيا وهو خط باكو تبليسي جيهان، الذي يُعدّ أول وأهم مصدر للثروة في أذربيجان، كما أن إسرائيل تحصل على 40% من حاجتها النفطية من هذا الخط.
وخلال الأزمة بين تركيا وإسرائيل بسبب ملف سفن مرمرة التركية التي حاولت فك الحصار المفروض على قطاع غزة عام 2010، كانت العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية تتطور لكن ببطء، وبعد المصالحة التركية الإسرائيلية زاد تطور العلاقات بين باكو وتل أبيب، وشجع ذلك أذربيجان على فتح سفارة لها في تل أبيب في 29 مارس 2023، وكانت إسرائيل قد فتحت سفارتها في باكو عام 1993. ويمكن اعتبار أن أنقرة تؤدي دوراً مهماً في تنشيط أو تثبيط العلاقات بين تل أبيب وباكو من خلال دور “الأخ الأكبر” الذي تتمتع به في علاقاتها مع أذربيجان. وأرجأت تركيا أكثر من مرة انفتاحها على أرمينيا بسبب موقف أذربيجان الرافض لذلك قبل عام 2020 أي قبل معركة “تحرير” إقليم ناغورنو قره باغ. لذا فإن هناك علاقات سياسية متميزة بين تركيا وأذربيجان تمتد إلى التنسيق الإقليمي.
تعاون عسكري متميز بين إسرائيل وأذربيجان
التعاون العسكري بين أذربيجان وإسرائيل قديم ويَسبِق حتى إنشاء علاقات دبلوماسية بينهما، بل ويسبق حتى استقلال أذربيجان، حيث أمدَّت إسرائيل أذربيجان بصواريخ استنغر المضادة للطائرات خلال حربها في إقليم قره باغ من عام 1988 وحتى عام 1994. وخلال العقدين الماضيين أنشأت العديد من شركات التصنيع العسكري الإسرائيلية شراكات مع شركات أذربيجانية للتصنيع العسكري في أذربيجان، أهمها التعاون بين شركتي Azad و Aeronauticsبهدف تصنيع طائرات من دون طيار تحمل اسم Aerostar وOrbiter. علماً أن تركيا التي باتت مشهورة بتصنيع طائرات بيرقدار المسيرة، لم تنشئ حتى الآن مثل هذا التعاون، وتكتفي ببيع أذربيجان هذه الطائرات.
وفق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) فإنه خلال الفترة بين 2011-2020 كانت إسرائيل ثاني أكبر مورِّد للأسلحة إلى أذربيجان بعد روسيا بنسبة قاربت 27%. وخلال الفترة بين 2016-2020 بالخصوص، زادت صادرات إسرائيل من السلاح إلى أذربيجان، حتى أنها شكلت نحو 17% من مجموع صادرات السلاح الإسرائيلية في تلك الفترة. وفي عام 2012 وقَّع البلدان اتفاقية لشراء مسيرات وأنظمة توجيه عبر الأقمار الصناعية من إسرائيل بقيمة 1.6 مليار دولار. وخلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لباكو عام 2016 صرَّح الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بأن عقود شراء المعدات الدفاعية بين الشركات الأذربيجانية والإسرائيلية بلغت قيمتها نحو 5 مليارات دولار. وفي إطار هذا التعاون ساعدت شركة ELTA SYSTEMS الإسرائيلية أذربيجان في رسم خريطة عسكرية إلكترونية لكامل إقليم قره باغ. وساعد ذلك أذربيجان خلال حربها عام 2020 في تعطيل عمل الدبابات والمدافع الأرمينية وشل حركتها، كما نظَّم البلدان جسراً جوياً لنقل الأسلحة بينهما خلال تلك الحرب عبر الأجواء التركية والجورجية سُيِّرَت خلاله أكثر من مئة طائرة نقل عسكرية إسرائيلية محملة بالأسلحة لباكو. وامتد التعاون العسكري بين البلدين إلى تعاون استخباراتي متميز، حيث ساعدت إسرائيل باكو في جمع معلومات استخباراتية حول الجماعات الإسلامية المتطرفة في المنطقة.
التصعيد الإيراني الأذربيجاني
خلال حفل افتتاح السفارة الأذربيجانية في تل أبيب، في 29 مارس 2023، صرَّح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع نظيره الأذربيجاني جيهون بايراموف “أن إسرائيل وأذربيجان تواجهان تهديداً من إيران، وعليهما العمل معاً من أجل التصدي له ولبرنامج إيران النووي”، في المقابل لم يُعلِّق الوزير الاذربيجاني على هذا التصريح، ما أثار استياء طهران.
وفي 5 أبريل أصدر البرلمان الإيراني بياناً ندَّد فيه بالتصريحات الإسرائيلية هذه، وطلب توضيحات من أذربيجان حولها، وجاء في البيان “إن هذه التصريحات سيكون لها عواقب سلبية”. في المقابل رد البرلمان الأذربيجاني على طهران بإصدار بيان يتهم إيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لأذربيجان. في نفس هذا التوقيت، تعرَّض النائب في البرلمان الأذربيجاني فاضل مصطفيا المعروف بتصريحاته القومية النارية ضد إيران إلى محاولة اغتيال عبر اطلاق النار عليه من قبل مجهولين، لكنه نجا. وفي إطار التحقيقات في هذه الجريمة، قالت الحكومة الأذربيجانية إن المسؤول عن هذا الاعتداء هي مجموعة إرهابية مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، وقررت طرد أربعة دبلوماسيين إيرانيين من السفارة الإيرانية في باكو.
قبل ذلك، في 27 يناير 2023 كانت السفارة الأذربيجانية في طهران قد تعرَّضت إلى هجوم من قبل شخص إيراني وإطلاق نار أدى إلى مقتل أحد حراس السفارة، ما أدى إلى سحب باكو طاقمها الدبلوماسي من طهران. وكان السفير الإيراني في أذربيجان، قد صرَّح قبلها بيوم (26 يناير)، بأن “الدول الجارة لإيران ستندم على تطوير علاقاتها مع النظام الصهيوني”، وتبع ذلك تصريح منسوب لأحد قيادات الحرس الثوري الإيراني قال فيه “إن على إسرائيل وجيران إيران أن يتعظوا مما حدث لصدام حسين حينما حاول الاعتداء على إيران”.
ووصلت الخلافات بين الدولتين إلى حدّ اعتقال مواطنين بتهمة التجسس، إذ اعتقلت باكو في 2 نوفمبر 2022، 19 مواطناً بتهمة التجسس لصالح إيران، وفي 1 فبراير 2023 اعتقلت 29 مواطناً بنفس التهمة، بينما اعتقلت السلطات الإيرانية مواطنين أذربيجانيين بتهمة المشاركة في الاعتداء الذي نُسِبَ إلى تنظيم “داعش” في شيراز الإيرانية، يوم 26 أكتوبر 2022، وأدى إلى مقتل 15 شخصاً.
وخلال زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى أرمينيا في 21 أكتوبر 2022، أعلن عن رغبة إيران في طرح مشروع إنشاء طريق تجاري بري يربط البحر الأسود بالخليج العربي، داعياً كلاً من أرمينيا والهند للمشاركة في هذا المشروع، وفي نفس يوم الزيارة افتتحت طهران قنصلية لها في جنوب أرمينيا بالقرب من مدينة كابان، وجاء موقع القنصلية على الطريق البري المفترض لممر زانغازور الذي تصر أذربيجان وتركيا على فتحه جنوب أرمينيا لوصل الأراضي الأذربيجانية مع إقليم نخشوان وفق اتفاق وقف اطلاق النار في قره باغ، أي أن إيران تعمَّدت وضع قنصليتها في ذلك المكان من أجل تعطيل مشروع ممر زانغازور، وفي نفس اليوم أيضاً أعلن الرئيس التركي أردوغان عن نية أنقرة لفتح قنصلية لها في مدينة شوشه التي حررتها القوات الأذربيجانية من أرمينيا أثناء القتال، وذلك في خطوة مقابلة لفتح القنصلية الإيرانية.
التصعيد العسكري
منذ انتهاء حرب قره باغ 2020، أجرت القوات الإيرانية 4 مناورات عسكرية كبيرة على الحدود الإيرانية الأذربيجانية، جميعها كان يُحاكي هجوماً على الأراضي الأذربيجانية، وردَّت أذربيجان وتركيا على جميع هذه المناورات بإجراء مناورات مُشابهة بالقرب من الحدود الإيرانية، آخرها مناورات الأخوة في يناير 2023. ومن خلال هذه المناورات أوضحت تركيا موقفها بوضوح من أي تصعيد عسكري أو حرب محتملة بين أذربيجان وإيران. وساهمت تركيا في إقناع باكستان بالمشاركة في واحدة من هذه المناورات الأربع في أكتوبر 2021.
وفي الذكرى الثانية لانتصار أذربيجان في الحرب على أرمينيا في قره باغ، ذهب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إلى مدينة شوشه القريبة من الحدود الإيرانية، وهناك تحدَّث قائلاً “لقد رأى العالم قوتنا، نحن الأقوى هنا ونحن من ينتصر وسننفذ كل ما نريده، وليعلم الجميع، وبالخصوص أولئك الذين يقدمون التدريب والدعم العسكري لأرمينيا أننا لا نخشى أحداً وسننتصر في أي اختبار عسكري هنا”. ويبدو أن خطاب علييف كان موجهاً لروسيا وإيران على السواء، إذ إنهما الدولتان اللتان تُقدمان دعماً عسكرياً وتدريباً للجيش الأرميني. وقد جاء هذا الخطاب بعد تلكؤ روسيا في تنفيذ مخرجات اتفاق وقف إطلاق النار وفتح ممر زانغازور الذي بدأت تركيا وأذربيجان في شق طرفيه من خلال شركات المقاولات داخل الأراضي الأذربيجانية والتركية ونخشوان.
وصرَّح الرئيس علييف في باكو في 25 نوفمبر 2022 “أن أذربيجان ستحافظ على نظامها العلماني وتأمين حياة كريمة لكل الشعب الأذربيجاني والأذريين في إيران، فالأذريون في إيران هم أخوتنا وجزء منا”، وقد زادت هذه التصريحات من قلق طهران التي كانت تواجه احتجاجات شعبية قوية في حينها.
إسرائيل تصب الزيت على النار
فيما يتصاعد التوتر بين أذربيجان وإيران، استغل الاعلام الإسرائيلي الوضع ليصب الزيت على النار من خلال العديد من المقالات التي تتحدث عن التعاون الاستخباراتي والعسكري بين تل أبيب وباكو، وأن هذا التعاون يستهدف إيران صراحة. من ذلك تقرير نشرته صحيفة “هآرتس”، في 6 مارس 2023، جاء فيه أن إسرائيل أعدت مطاراً لقواتها الجوية في أذربيجان من أجل شن ضربات جوية على المنشآت الإيرانية في حال اقتضت الحاجة، وأن الموساد الإسرائيلي يستخدم قواعد استخباراتية له في أذربيجان للتجسس على إيران ومتابعة أحوالها الداخلية بالتعاون مع المخابرات الأذربيجانية، وأن عملية الحصول على الأرشيف الخاص بالنشاط النووي الإيراني حصل عليه الموساد بمساعدة لوجستية من أذربيجان.
وقبلها، نشرت صحيفة Times of Israel تقريراً في 18 يناير 2023 ذكرت فيه، نقلاً عن مصادر أجنبية، أن إسرائيل تُعِد لتسيير طلعات جوية تجسسية لطائرات من دون طيار فوق إيران انطلاقاً من مطارات في أذربيجان، وأن تل أبيب أرسلت العشرات من عناصر الموساد إلى أذربيجان من أجل التجسس على البرنامج النووي الإيراني من هناك.
استنتاجات
تستفيد كلٌّ من تركيا وأذربيجان حالياً من انشغال روسيا في حربها في أوكرانيا، ومن ضعف الوضع الداخلي في إيران، من أجل تعزيز مكاسبهما الإقليمية في القوقاز الجنوبي. وتُدرك باكو وأنقرة أن الانتصار الذي تحقق في قره باغ عام 2020 لا يجب أن يُترَك دون تحقيق نتائج قوية على الأرض، وخصوصاً فتح ممر زانغازور الذي سيشكل تغييراً لمعادلة القوة في المنطقة لصالحهما. كما أن أنقرة وباكو قلقتان من عمل طهران وموسكو على توقيع اتفاقية تعاون عسكري كبيرة بينهما، بعد مساعدة إيران روسيا في حربها على أوكرانيا ومدَّها بطائرات مسيرة. لذا فإن تركيا وأذربيجان يُسابقان الزمن من أجل فرض الأمر الواقع وفتح ممر زانغازور. لذلك بدأت أذربيجان في الضغط أكثر على أرمينيا من خلال وضع معابر حدودية بين أرمينيا وإقليم قره باغ بشكل بات يفرض حصاراً قوياً على الإقليم ذي الغالبية الأرمنية من السكان. وزادت باكو من انتقاداتها لموسكو لتأخرها في تنفيذ مخرجات وقف إطلاق النار حتى الآن.
وفي حال وقوع أي اشتباكات عسكرية محدودة بين إيران وأذربيجان فإن المرشح الأول لأداء دور الوسيط حالياً هو روسيا، لكن انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا قد يجعل من هذه الوساطة غير فعالة، لأنه من غير المتوقع أن تذعن أذربيجان لمطالب موسكو. في المقابل فإن تركيا لا يمكنها أداء دور الوسيط هنا بسبب ظهورها طرفاً في هذا الصراع ودعمها باكو بشكل علني. وقد رفضت إيران وروسيا الاقتراح التركي لتشكيل تعاون إقليمي تحت اسم 3+3 يجمع تركيا وإيران وأذربيجان، وروسيا وجورجيا وأرمينيا، وهو الاقتراح الذي تقدمت به تركيا عام 2022 من أجل منع هذا التصعيد الحاصل حالياً في جنوب القوقاز، ولكن مع رفض إيران وروسيا هذا المقترح فإنه لا خيار أمام أنقرة سوى دعم أذربيجان بكل قوة، وذلك سواء بقي الرئيس أردوغان في الحكم أو صعدت المعارضة التركية للرئاسة.
ويبدو أن هذا الوضع المعقد كان من بين أحد الأسباب التي دفعت طهران لقبول الوساطة الصينية للمصالحة مع المملكة العربية السعودية، في محاولة منها لعزل إسرائيل عن المعادلة في المنطقة. فطهران تعلم أن أي حرب مع أذربيجان لن تكون في صالح أحد سواء هي أو تركيا أو أذربيجان، ولكن إسرائيل قد تسعى إلى تفخيخ الوضع والدفع إلى هذا الصدام لمصالح إسرائيلية صرف. وطالما بقي التصعيد حاصلاً في الملف النووي والتهديدات الأمرييكية والإسرائيلية قائمة ضد إيران، فإن سيناريو اشعال حرب بين أذربيجان وإيران قد يكون موضوعاً على طاولة البحث الأمريكية الإسرائيلية.
في المقابل، فإن مساعي واشنطن والاتحاد الأوروبي للتقرب أكثر من أرمينيا والاستفادة من نتائج خسارتها الحرب في قره باغ وخذلانها من قبل موسكو في تلك الحرب، يُزعج صانع القرار في موسكو، خصوصاً بعد فوز رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في الانتخابات بعد الحرب، وهو الزعيم السياسي الذي يطرح في برنامجه التقارب مع الغرب على حساب علاقات بلاده مع روسيا. وعليه فإن موسكو التي لا تريد أن تخسر حليفاً آخر في جوارها – أرمينيا – ستُحاول المماطلة في حل أزمة قره باغ، وهو أمر آخر يزيد من التوتر في المنطقة، ويزيد من التشدد الأذربيجاني وخطوات باكو لفرض أمر واقع على الأرض، مما يزيد بالنتيجة من التوتر مع إيران.
كل هذه التطورات تزيد من دعم أنقرة لباكو، وتزيد بشكل غير مباشر من التوتر التركي الإيراني، خصوصاً في ظل محاولات استمالة طهران لقوات “قسد” الكردية في سورية، عبر تقديم الدعم لها في شمال العراق عبر ميليشيات الحشد الشعبي في جوار الموصل. ومن ثم فإن العلاقات التركية الإيرانية مرشحة لمزيد من التوتر في الأشهر المقبلة. وفي ظل المصالحات القائمة في المنطقة، خصوصاً بين السعودية وإيران والتي تحاول طهران استغلالها من أجل عزل إسرائيل، فإن زيادة التعاون التركي الإسرائيلي الأذربيجاني تبقى الاحتمال الأقوى مستقبلاً، خصوصاً في حال وصول المعارضة إلى الحكم في تركيا.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/featured/altawatur-almutasaeid-bayn-adharbayjan-wa-iran-wahisabat-turkia