تعميق الانخراط: الاستراتيجية العشرية الأمريكية في ليبيا وانعكاساتها على عملية التسوية

بلال عبد الله

 

في 24 مارس 2023 نشرت الخارجية الأمريكية، على موقعها الإلكتروني، ما وصفته بـ”استراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار: الخطة الاستراتيجية العشرية لليبيا”. وتُمثِّل هذه الاستراتيجية أحد جوانب تطبيق “قانون الهشاشة العالمية” الصادر عن الكونجرس عام 2019، والذي يهدف إلى معالجة الأوضاع الهشة في المناطق المعرضة للصراع، إذ أعلن البيت الأبيض في أبريل 2022 أن ليبيا ستكون إحدى الدول المشمولة بتطبيق القانون، الذي يغطي أيضاً كلاً من هاييتي وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وبنين وساحل العاج وغانا وغينيا وتوغو.

 

وتأتي هذه الاستراتيجية في سياق يحمل قدراً من الغموض بشأن سير عملية التسوية في ليبيا، حيث شهدت الفترة الماضية ما يشبه التجميد المؤقت لتطبيق مبادرة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، التي أعلنها خلال إحاطته الأخيرة بمجلس الأمن بتاريخ 27 فبراير، لصالح إعطاء الفرصة لمجلسيّ النواب والدولة، حيث شكَّل المجلسان لجنة 6+6 تختص بإعداد القوانين الانتخابية؛ غير أن هذه اللجنة لم تجتمع سوى مرة واحدة فقط منذ تشكيلها، ولا يوجد حتى الآن ما يضمن نجاح اللجنة في تأدية مهامها. وفي المقابل، تستمر اجتماعات اللجنة العسكرية 5+5، بنشاط ملحوظ من قبل المبعوث الأممي، وذلك في أجواء إيجابية توحي بإمكانية حدوث نقلة نوعية في تحقيق المستهدف من اجتماعات اللجنة، رغم الاقتصار حتى الآن على تحقيق بعض التقدم الطفيف في الملفات الهامشية.

 

تعرض هذه الورقة أبرز جوانب الاستراتيجية العشرية الأمريكية في ليبيا، وكيف تعكس رؤية واشنطن تجاه الملف الليبي، وحدود وآفاق تطبيقها، وانعكاسات ذلك على تطورات عملية التسوية.

 

مضامين الاستراتيجية الأمريكية

يمكن استعراض أهم ما تضمنته الاستراتيجية الأمريكية من خلال النقاط الآتية:

 

  • المدى الزمني: تمتد الاستراتيجية على مدار عشر سنوات كاملة، ما يعني أن الانخراط الأمريكي المتزايد أخيراً في الملف الليبي من المقرر له أن يستمر، وذلك على خلاف النزعة الانسحابية التي خيّمت على تعامل واشنطن مع الملف منذ اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي 2012 وحتى الانخراط العسكري الروسي عام 2019. ويُشار في هذا الصدد إلى أن قانون الهشاشة العالمية، الذي تمثل الاستراتيجية تطبيقاً له، قد حظي بدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس.

 

  • النفوذ الروسي: على الرغم من الإشارة إلى “جهات فاعلة خبيثة” تستغل الأوضاع غير المستقرة في ليبيا، فإن الطرف الوحيد الذي سُمِّي بشكل صريح باعتباره خصماً هو روسيا، حيث أشارت الاستراتيجية في أكثر من موضع إلى الخطر الذي يمثله الوجود الروسي على مصالح الولايات المتحدة، وعلى الجبهة الجنوبية لدول الناتو.

 

  • المعضلة الأمنية: تضع الاستراتيجية حل المعضلة الأمنية ضمن الأولويات الرئيسة، وذلك عبر العمل على تحقيق هدفين أساسيين: أولهما، نزع السلاح والتسريح وإعادة إدماج الجهات الفاعلة المسلحة؛ والثاني، توحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادة مدنية تتحكم بشكل مطلق في قرار استخدام القوة.

 

  • إجراء الانتخابات: جاء الحديث عن الانتخابات خلال الوثيقة في اتجاه معاكس للسياسة الأمريكية المعلنة والمتبعة في المرحلة الراهنة، إذ أشارت الاستراتيجية إلى “تهيئة الظروف اللازمة لإجراء انتخابات ديمقراطية على المدى الطويل”، ودعم العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي وإجراء “انتخابات في نهاية المطاف”. ويتعارض ذلك مع “الإصرار الأمريكي” على ضرورة إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، ومن ثمّ أسبقية الانتخابات ضمن مراحل تسوية جوانب الصراع كافة في الرؤية الأمريكية.

 

  • أولوية الجنوب: تولي الاستراتيجية أهمية خاصة لجنوب ليبيا، باعتبارها المنطقة الأكثر هشاشة من الناحية الأمنية، والأقل تمثيلاً في المؤسسات الوطنية، والأكثر تهميشاً من الناحية التنموية. وفي هذا السياق نصت الاستراتيجية على أن يُتَّخذ الجنوب منطلقاً للتعاون في المجال التنموي، ثم التوسع نحو بقية مناطق البلاد.

 

  • المجتمعات المحلية: ترتكز الخطة على تعزيز دور المجتمعات المحلية كمدخل لتحقيق الاستقرار في جميع المناطق، سواء فيما يتعلق بدور المجالس البلدية، أو دور المجتمع المدني والنخب المحلية. ويتسع هذا الدور ليشمل مراحل الاستراتيجية وجوانبها كافة، سواء على صعيد المشاورات الأولية ووضع السياسات، أو على مستوى التنفيذ وحشد الموارد والقدرات المحلية.

 

  • البُعد الأفريقي: تنظر واشنطن إلى الأوضاع الهشة في ليبيا عبر ربطها بالسياق الأفريقي، وذلك من ناحيتين؛ أولها، الارتباط الجغرافي، حيث نُصّ على أن الخطة “تدعم نهجاً متكاملاً عبر إقليمي لجهود الوقاية التي تبذلها حكومة الولايات المتحدة عبر منطقة الساحل والمغرب وغرب إفريقيا الساحلية من خلال تعزيز ليبيا أكثر استقراراً وسلاماً وازدهاراً”؛ وثانيها، التأكيد على دور الاتحاد الأفريقي بشأن المصالحة الوطنية في ليبيا.

 

  • الأطراف الشريكة: على صعيد الشراكة، ركزت الاستراتيجية على كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية. وبذلك تجنّبت الولايات المتحدة طرح أسماء دول بعينها كحلفاء، بما قد يعكس التوجه نحو تعزيز الطابع التعاوني الجماعي في التعامل مع مستقبل الصراع في ليبيا؛ أو بتعبير آخر، العمل على توظيف شرعية المنظمات الدولية كمظلة للدور الأمريكي، بدلاً من التركيز على سياسة الأحلاف والأحلاف المضادة.

 

بين “الاستراتيجية” والتوجهات الراهنة

احتوت الاستراتيجية الأمريكية على النحو المبين العديد من نقاط الاتصال مع التوجهات والسياسات الأمريكية القائمة حالياً، بما يجعل تلك الاستراتيجية بمثابة تعميق لتلك التوجهات ودفعها للأمام، وليست توجهات بديلة. وبالنظر إلى طول المدى الزمني الذي يمتد على مدار عقد كامل، فمن المفيد التركيز على ما قد تعنيه تلك الاستراتيجية على المدى القصير، بوصفها امتداداً للتوجهات الأمريكية الراهنة، والتي يمكن القول بأنها تنصب على هدفين رئيسين، هما: إجراء الانتخابات، وإنهاء النفوذ العسكري الروسي المباشر، ممثلاً بالأساس في مقاتلي فاجنر.

 

بالنسبة للانتخابات، انطوت الاستراتيجية على بعض الغموض الناتج عن التعارض الظاهري بين التعبيرات المستخدمة، والتي توحي بأن الانتخابات قد لا تحتل بالضرورة موقع الأسبقية في مسيرة التسوية، وبين الخطاب الفعلي للإدارة الأمريكية والذي يعكس قناعة راسخة بهذه الأسبقية؛ غير أن هذا الغموض يتراجع عند النظر إلى التحركات الأمريكية الراهنة، والتي أصبحت تعطي أولوية كبيرة للمسار العسكري إلى جانب الحديث عن العملية الانتخابية، وهو الأمر الذي يتناغم بدرجة كبيرة مع رؤية المبعوث الأممي عبد الله باتيلي وأجندته.

 

تضمّنت التحركات الأمريكية في ليبيا، منذ بداية العام الحالي 2023، مؤشرات واضحة على تكثيف التواصل مع الأطراف الليبية، لاسيما المشير خليفة حفتر في شرق البلاد، وهو أمر غير مسبوق بالنسبة لكثافة اللقاءات وعلانية أغلبها، فضلاً عن تنوع مستوى التواصل ما بين الأمني والدبلوماسي والعسكري؛ حيث التقى حفتر في 12 يناير ويليام بيرنز مدير المخابرات المركزية، الذي التقى بدوره أيضاً رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة في نفس اليوم؛ ثم لقاء حفتر مع القائم بأعمال السفارة الأمريكية ليزلي أوردمان رفقة نائب قائد سلاح الجو في قيادة الأفريكوم جون دي لامونتاني في 18 يناير؛ وأخيراً يأتي استقبال وفد رفيع المستوى برئاسة مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف بتاريخ 20 مارس، خلال زيارة لها إلى ليبيا، تضمّنت لقاءات أخرى منفصلة مع كل من رؤساء البرلمان والحكومة ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وكذلك المبعوث الأممي. ووفق التغطيات الإعلامية لتلك الزيارات، فقد كانت قضية إخراج مقاتلي فاجنر من ليبيا من بين القضايا الرئيسة التي جرت مناقشتها.

 

على هذا النحو حملت التحركات الأمريكية الأخيرة انعطافاً جزئياً عن السياسة التي كانت متبعة قبل بداية العام الجديد، ويمكن تلخيص هذا الانعطاف في ملمحين رئيسين، الأول هو ارتقاء هدف إخراج مقاتلي فاجنر في سلم الأولويات الأمريكية، بشكل يكاد يتساوى مع هدف إجراء الانتخابات؛ والثاني أن العمل على هذا الهدف يتم عبر رفع مستوى التواصل والتنسيق مع القيادة العامة شرق البلاد، بدلاً من التوجه الأمريكي التقليدي الذي كان يركز سابقاً على التواصل بشكل رئيس مع سلطات طرابلس، وتقديم الدعم للقوات التابعة لها لتحقيق التوازن المطلوب مع قوات حفتر المتحالفة مع فاجنر، الأمر الذي كان يجعل أحد السيناريوهات القوية المطروحة على الدوام لإبعاد فاجنر إلى خارج ليبيا هو تنفيذ ذلك عبر عملية عسكرية، ومن ثم تغيير التوازنات لغير صالح القيادة العامة.

 

تناغم الملمحان المشار إليهما مع رؤية المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، وهو ما نتج عنه تزامن واضح بين الانعطاف الجزئي في التوجهات الأمريكية وبين زيادة نشاط باتيلي في إدارة عملية التسوية وتوجيهها. ويمكن تفسير التوجهات الراهنة في ضوء عدة اعتبارات، أبرزها الآتي:

 

  • أن تطورات الصراع الروسي الغربي نفسها، والضغوط العسكرية المتزايدة التي تتعرض لها موسكو على الساحة الأوكرانية، ربما مَثّل حافزاً لدى واشنطن لتسريع وتيرة الضغوط على الوجود العسكري الروسي في ليبيا، بغرض توظيف التوازنات الدولية الراهنة وضعف الموقف الروسي لتحصيل مكاسب أمريكية على الجبهة الجنوبية لحلف الناتو.

 

  • أن التعثُّر الذي يشهده المسار السياسي للتسوية، في مقابل التقدم الطفيف الذي يشهده المسار العسكري، يعزز من إمكانية جعل التقدم في ملف الانتخابات مرهون بالتقدم في عمل اللجنة العسكرية، وفي القلب منه ملف إبعاد المقاتلين الأجانب.

 

  • أن التركيز على المسار العسكري من شأنه تحقيق عدة أهداف، أهمها:

 

  1. حل المعضلات الأمنية التي قد تواجه العملية الانتخابية من حيث المبدأ، فضلاً عن توفير الشروط الموضوعية التي تكفل تحقيق مستويات أعمق من الاستقرار في مرحلة ما بعد الانتخابات، قياساً بخيار الذهاب إلى الانتخابات بأي ثمن رغم استمرار الانقسام العسكري والهشاشة الأمنية.
  2. أن تحقيق تقدم على مستوى توحيد المؤسسة العسكرية من شأنه تفكيك العديد من عوامل التعطيل المرتبطة بالأطراف الخارجية التي ليست على عداء صريح مع المصالح الأمريكية، عبر إدماج مصالح تلك الأطراف في المعادلة الأمنية الجديدة، حتى وإن كانت تلك المعادلة لا تقدم حلولاً شاملة ونهائية للمصالح المتنافسة لتلك الأطراف.
  3. أن تحقيق التوافق بين الأطراف المحلية ذات السلطة والسيطرة الفعلية من شأنه ضمان تحقيق تقدم جوهري، وليس مجرد توافقات لفظية سرعان ما يُتراجَع عنها، الأمر الذي يظهر عند مقارنة المباحثات التي كانت تشارك فيها القيادة العامة بشأن الملف النفطي مثلاً (سواء إبان حكم السراج أو مع حكومة الدبيبة)، وتلك التي تجري بين مجلسيّ النواب والدولة منذ سنوات دون مردود حقيقي على عملية التسوية؛ فضلاً عما قد يمثله التوافق بين الأطراف العسكرية من عامل ضغط على الأطراف المعنية بالمسار السياسي والدستوري.

 

تفاعلات المسار العسكري

خلال الأشهر الأخيرة، جاءت تطورات المسار العسكري لعملية التسوية بشكل يحمل العديد من الدلالات من منظور الاستراتيجية الأمريكية، وبشكل يترابط خلاله ما ورد في الاستراتيجية بشأن طرد المقاتلين الأجانب مع إيلاء الأولوية للجنوب مع اعتماد نهج تعاوني متعدد الأطراف.

 

من بين القضايا الرئيسة المطروحة للتباحث في اجتماعات لجنة 5+5، تشكيل قوات مشتركة بين شرق البلاد وغربها، تكون مهمتها تأمين الحدود الجنوبية. والجدير بالذكر أن تشكيل هذه القوات كان من المطالب التي طرحها بيرنز على حفتر خلال زيارته في يناير الماضي، بحسب ما أفادت تقارير صحفية حينها.

 

لا يبتعد هدف تشكيل قوات مشتركة في الجنوب عن مسعى الولايات المتحدة لإخراج فاجنر من ليبيا، حيث يعد الجنوب الليبي خاصرة أمنية رخوة، وهو ما أفاد مقاتلي فاجنر من ناحيتين؛ أولاهما، السيطرة على القواعد العسكرية في وسط البلاد وجنوبها، بشكل يصعب كبحه أو موازنته من قبل القوات الموالية لحكومة طرابلس والمدعومة من واشنطن؛ والثانية، سهولة الانطلاق من تلك القواعد لتقديم الدعم اللازم (إذا تطلب الأمر ذلك) لعمليات فاجنر التي تنشط في بعض دول الجوار المباشر وغير المباشر، مثل مالي وأفريقيا الوسطى. وعلى هذا النحو ليس من المستغرب أن تربط الاستراتيجية الأمريكية بين الوضع في ليبيا وبين منطقة الساحل وغرب أفريقيا؛ فمن هذه الزاوية، من المفترض أن يمثل القضاء على وجود فاجنر في ليبيا أحد عوامل إضعاف فرص تنامي نفوذ المنظمة في منطقة الساحل.

 

على صعيد مواز، قام المبعوث الأممي بجولة أفريقية شملت كل من السودان وتشاد والنيجر، للتباحث حول مسألة مغادرة المرتزقة الأفارقة من أبناء هذه الدول الأراضي الليبية. ويتكامل دور البعثة مع المساعي الأمريكية الهادفة إلى إخراج مقاتلي فاجنر، لخلق سياق أوسع لمسألة إبعاد المقاتلين الأجانب.

 

بذلك يمكن القول بأن التحركات الأمريكية الهادفة لطرد فاجنر من ليبيا تسير عبر عدة مسارات:

 

  • إعادة صياغة بيئة الصراع، عبر خلق توازنات جديدة تنتفي خلالها حاجة قوات شرق ليبيا إلى التحالف مع فاجنر، على خلفية تراجع حدة العداء وتعزيز النهج التعاوني الهادف لإنهاء الانقسام.

 

  • العمل على اتخاذ الجنوب ساحة لبدء تشكيل قوات مشتركة، بشكل قد يمثل عامل ضغط على وجود فاجنر هناك، وهو الأمر الذي في حال حدوثه قد يحقق هدفين: الأول، معالجة جزء من حالة الهشاشة الأمنية السائدة في الجنوب، والتي تتطلب زيادة الانتشار العسكري. والثاني، ابتعاد الجنوب عن مناطق السيطرة المباشرة والثقل الجغرافي لكلا الطرفين في الشرق والغرب، ومن ثم طمأنة الطرفين بأن التعاون العسكري في هذه الحالة لن يمس بالتوازنات العسكرية بين الأطراف المحلية.

 

  • دمج دول الجوار المباشر على الحدود الجنوبية في عملية إنهاء وجود المقاتلين الأجانب، ليس فقط عبر سحب المقاتلين التابعين لتلك الدول (لاسيما أن أغلب هؤلاء المقاتلين لا يتبعون على الأغلب السلطات الحاكمة في هذه الدول)، بل والأهم ضمان تعاون هذه الدول في ضبط الحدود وملاحقة هذه العناصر إذا لزم الأمر؛ ويحضر في هذا السياق تجربة التنسيق بين قوات حفتر والحكومة التشادية، بدعم أمني وعسكري فرنسي مباشر، في طرد المقاتلين التابعين للمعارضة التشادية من الجنوب الليبي خلال شهريّ يناير وفبراير 2019.

 

آفاق التطبيق وحدوده

على المدى البعيد، تحمل الاستراتيجية العشرية رؤية طموحة لمستقبل الدور الأمريكي في ليبيا، سواء على مستوى كثافة الانخراط أو على مستوى طبيعة هذا الدور، والذي يفسح مجالاً أوسع لمفهوم القوة الناعمة في حماية المصالح الأمريكية؛ لكن على المدى القصير، يبدو هذا الدور منصباً على التعامل مع القضايا الأكثر إلحاحاً من وجهة نظر المصالح الأمريكية في سياق الصراع مع روسيا.

 

على الرغم مما يبدو من صعوبة بشأن هدف إبعاد فاجنر إلى خارج ليبيا، لاسيما مع ترسيخ المنظمة أقدامها هناك، وسيطرتها على عدد من القواعد العسكرية الاستراتيجية، فإن خبرة الصراع الليبي خلال السنوات الماضية تشير إلى وجود نمط متكرر من إعادة رسم خارطة الصراع بين فترة وأخرى، سواء نتيجة حدوث تغييرات في التوازنات بين أطراف الصراع، أو نتيجة حسابات وصفقات سياسية أوسع نطاقاً، بحيث تكون الأوضاع في ليبيا ترجمة لتوازنات أوسع تتجاوز الساحة الليبية نفسها.

 

في هذا الإطار، من غير المستبعد نظرياً إحراز تقدم جزئي على صعيد تحقيق الأهداف الأمريكية على المدى القصير، غير أن ذلك سيتطلب حزمة من الحوافز والعقوبات في آن معاً، لدفع أطراف الصراع (المحليين على وجه الخصوص) لإبداء مزيد من المرونة في هذا الصدد. وقد تتمثل الحوافز بالنسبة لحفتر في منحه حصة أكبر في المناصب الرئيسة في طرابلس، على غرار ما جرى سابقاً من تغيير قيادة المؤسسة الوطنية للنفط على سبيل المثال.

 

من ناحية أخرى، سيمثل اتجاه واشنطن نحو إشراك المجتمعات المحلية عامل ضغط إضافي على النخب المسيطرة والمستفيدة من إطالة أمد الأزمة؛ كما سيعزز ذلك من القوة الناعمة للدور الأمريكي، وسيمنحه مزيداً من المقبولية، لاسيما بالنسبة لبعض الشرائح المجتمعية كالشباب والنساء.

 

في المقابل، من المتوقع ظهور الكثير من العقبات أمام تطبيق تلك الاستراتيجية نتيجة تباين استجابة مختلف الأطراف الليبية، في شكل قد يصل إلى المعارضة الصريحة للدور الأمريكي؛ فعلى الأقل ستواجه الولايات المتحدة رفضاً متوقعاً من قبل المكونات الاجتماعية الموالية لسيف الإسلام، والمنتشرة في بعض مدن الجنوب الليبي الذي يحتل الأولوية في التعاون الأمريكي مع المجتمعات المحلية؛ كما أن تباين المصالح بين الأطراف الليبية نفسه سيصعّب عملية بناء التوافق حول الترتيبات التي ستسعى الولايات المتحدة لإقرارها. فعلى سبيل المثال، صرّح فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، بأن توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية يظل غير ممكن على المدى القصير، وتكمن أهمية هذا التصريح في أن باشاغا يعد من القيادات ذات الثقل من الناحية العسكرية والأمنية في مدينة مصراتة، وهناك العديد من التشكيلات المسلحة الموالية له.

 

على صعيد آخر، فبينما يتزايد الحديث عن تشكيل قوات مشتركة بين القيادة العامة وقوات حكومة طرابلس لحماية الحدود الجنوبية، نشرت القيادة العامة، في الأسبوع الثاني من أبريل، دوريات عسكرية بمشاركة من أربع تشكيلات تابعة لها، لتأمين كامل الحدود الجنوبية للبلاد، الأمر الذي رافقه تصريح صادر عن اللواء مبروك السحبان، آمر غرفة عمليات الجنوب والمشرف على العملية، بأنه يمكن تأمين جنوب البلاد في حال إجراء الانتخابات. وقد تكون تلك التطورات ذات دلالة سلبية، بالنظر لما تحمله من معان بشأن قدرة قوات القيادة العامة منفردة على تحقيق الأهداف الأمنية في الجنوب الليبي، من دون الاضطرار لمشاركة القوات التابعة لسلطات طرابلس.

 

أخيراً، فمن المؤكد أن الاستراتيجية الأمريكية سيطرأ عليها الكثير من الإضافات والتطوير خلال عملية التنفيذ، سواء بسبب اختلاف الإدارات الأمريكية نفسها طوال العشر سنوات التي تغطيها الاستراتيجية؛ أو بحكم المستجدات المستمرة التي ستفرض نفسها على صناع القرار، وهو ما أكدت عليه الاستراتيجية نفسها في مواضع عدة، بالحديث المتكرر عن المرونة والقابلية للتطوير في ضوء ما ستفرضه تطورات الأوضاع على الأرض.

 

خلاصة واستنتاجات

من المتوقع أن تخلق الاستراتيجية العشرية الأمريكية واقعاً جديداً يتسم بكثافة الحضور الأمريكي في الساحة الليبية، الأمر الذي سيحمل بدوره تحديات عدة بالنسبة للأدوار الخارجية، ما سيفرض على اللاعبين الخارجيين مزيداً من اليقظة لتشكلات تلك الاستراتيجية بين مرحلة وأخرى، في ضوء إعادة التقييم المستمرة التي ستخضع لها، وما سيفرضه ذلك من إدخال تعديلات على الخطة العشرية وكيفية تنفيذها بما يحقق أهدافها الرئيسة. لذا فإن قدرة الأطراف الخارجية على تحقيق مصالحها في تفاعلها مع الدور الأمريكي ستتوقف على قدرة كل طرف على القراءة المبكرة لتلك التحولات حيناً، واستباقها والعمل على تشكلها في اتجاه معين في أحيان أخرى، لاسيما في إطار ربطها مع تفاعلات الصراع الأمريكي الغربي وانعكاسها على دول المنطقة من جهة، وربط الصراع الليبي مع سياق الجوار الأفريقي من جهة أخرى.

 

وتمثل التطورات الحادثة في السودان منذ منتصف شهر أبريل، الاختبار الأول للاستراتيجية الأمريكية المذكورة؛ حيث ستفرض التطورات السودانية تحدياً طارئاً لكيفية إدارة عملية التسوية الليبية، نظراً لحالة التشابك الأمني مع ملف المقاتلين الأجانب؛ وسيتداخل هذا التحدي مع تحدي آخر يتمثل في ضغط العنصر الزمني خلال الشهرين المقبلين وصولاً إلى منتصف العام، حيث يتطلب الأمر مزيداً من الحسم، من قبل الولايات المتحدة والبعثة الأممية، فيما يتعلق بأولويات عملية التسوية وجدول أعمالها، واختبار إمكانية التمسك بهدف إجراء الانتخابات خلال العام الحالي، أم سيتم التركيز على استكمال المتطلبات الأمنية لعملية التسوية، ومن ثم مزيداً من الإرجاء للمحطة الانتخابية.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/alastiratijia-alashria-al-amrikia-fi-libya-waineikasatuha-ala-amaliat-altaswia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M