بعد مضي أكثر من 25 عامًا على إمضاء اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب على البوسنة والهرسك نهاية العام 1995، تجد الدولة نفسها في ذات الوضع المتأزم الذي كانت عليه بعيد الحرب، مع احتمالات ضئيلة للنمو وتجاوز كل الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بل يبدو من المعجزة، في ظل الانقسامات الإثنية الحادة، أن تظل البوسنة والهرسك دولة واحدة موحدة.
ومن أجل بقاء الدولة واستمرارها على المدى الطويل، فإنها بحاجة ملحة إلى إجراء إصلاحات ضرورية. غير أن الهيمنة الحالية الطاغية للأحزاب القومية، والافتقار إلى الإرادة السياسية، والتهديدات المتكررة بانفصال كياني ريبوبليكا صربسكا والكانتونات ذات الأغلبية الكرواتية، تجعل القبول بأي إصلاحات أمرًا في غاية الصعوبة والتعقيد. كل هذا يحدث على خلفية آمال البلاد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو طموح بعيد المنال إلى أن تتمكَّن الدولة من معالجة التوصيات التي قدمتها المفوضية الأوروبية لاشتراط بدء محادثات الانضمام إلى النادي الأوروبي المغلقة أبوابه منذ العام 2013.
قد تبدو البوسنة والهرسك دولة محكوما عليها بالفشل، لكن التغيير الحقيقي لن يحدث حتى تتوقف الأحزاب القومية عن اختطاف مؤسسات الدولة، وتأجيل الإصلاحات الدستورية، وتتصدى للمشاكل الأساسية التي تمزق البلاد وشعبها المتعدد الأعراق، وهي تحتاج لإتمام ذلك دعمًا دوليًّا واسعًا، أوروبيًّا وأميركيًّا بالأساس، ومؤازرة من دول الجوار الطامعة في أراضيها، وكفَّ روسيا والصين عن لعب أدوار لا تصبُّ في صالح استمرار الدولة ونمائها واستكمال بناء السلم الاجتماعي. أما العمل على الحلول المؤقتة في ظل البناء الدستوري الحالي، دون توافر باقي الشروط، فلن يؤدي إلى إحراز تقدم على المدى الطويل.
1. السياق التاريخي والديناميات الحاكمة للوضع
من الضروري التذكير بالسياق التاريخي الذي وُلدت فيه دولة البوسنة والهرسك؛ فذلك جزء أساسي لفهم تطورات الأوضاع اللاحقة، داخليًّا، والديناميات الحاكمة للعلاقات بين دول البلقان فيما بينها، ثم فيما بينها وبين المجتمع الدولي، الراعي والوصي والحاكم الفعلي لدولة البوسنة والهرسك.
لقد وُجدت البوسنة والهرسك كوحدة سياسية وترابية في حدودها المعروفة حاليًّا، قبل أكثر من ألف عام(1)، عاشت خلالها فترات من الحكم الذاتي، كما شهدت قيام ثلاث إمبراطوريات كبرى على أراضيها، ثم خضعت لسلطة الاتحاد اليوغسلافي -المنحلِّ- كإحدى الدول الفدرالية المكونة للاتحاد، لكنها تمتعت باستقلالية شبه كاملة في إدارة شؤونها الداخلية. وقد تقاسم شعب البوسنة -متعدد الأعراق والأديان- الجغرافيا والثقافة واللغة الواحدة، وكان يشكِّل نسيجًا مجتمعيَّا أكد قدرته على التعايش المشترك في أجواء من التسامح لقرون طويلة، إلى أن شهدت المنطقة الصراعات الأولى الدامية خلال حربي البلقان الأولى والثانية(2)، ثم عاشت حرب البلقان “الثالثة” التي أدت إلى استقلال الدول الموحدة سابقًا تحت لواء الاتحاد اليوغسلافي، وولادة دول جديدة في المنطقة هي: سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا وصربيا، وأخيرًا دولة كوسوفو التي أعلنت استقلالها في العام 2008.
ورغم مرور حوالي ثلاثين عامًا على اندلاع حروب يوغسلافيا، فإن الوضع الجيوسياسي في الإقليم عمومًا، وفي البوسنة والهرسك على وجه الخصوص، ما زال بعيدًا عن الاستقرار النهائي بسبب الانقسامات الإثنية المزمنة، والفشل السياسي التام، والرغبات القديمة-المتجددة لدى الصرب والكروات، وحتى الألبان، في إقامة دول “إثنوقراطية” خالصة، على حساب إلغاء وجود دولة البوسنة والهرسك.
تعود ولادة دولة البوسنة والهرسك الحديثة إلى الاستفتاء الشعبي العام الذي جرى في مارس/آذار 1992، وشارك فيه نحو 67% من الناخبين البوسنيين على اختلاف أعراقهم (بوشناق وصرب وكروات وأقليات أخرى)(3)، وصوتوا لصالح استقلال البوسنة والهرسك عن الاتحاد اليوغسلافي، الذي شهد قبل ذلك انفصال دول سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا(4).
كانت نتيجة الاستفتاء مفاجئة لقادة صرب البوسنة والهرسك، حيث صوت 99% من الناخبين المسجلين وفقًا لإحصاء عام 1991، بالموافقة على الانفصال رغم تهديدات الرئيس الصربي حينها، سلوبودان ميلوشيفيتش، بضمِّ الأراضي البوسنية إلى صربيا إذا ما اتخذت حكومة سراييفو خطوات للانفصال عن الاتحاد اليوغسلافي.
لاقت تهديدات ميلوشيفيتش تجاوبًا من داخل البوسنة، حيث رفض رادوفان كارادجيتش، زعيم صرب البوسنة ورئيس حزب الجبهة الديمقراطية الصربية المؤسس نهاية العام 1989، نتيجة الاستفتاء المؤيدة لانفصال البوسنة.
وكانت الجبهة الديمقراطية الصربية قد دعت يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 1991، إلى تأسيس برلمان صربي يمثِّل مصالح الإثنية الصربية في المؤسسات التابعة للاتحاد اليوغسلافي. كما نظمت استفتاء في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، اختار فيه غالبية المشاركين بقاء ما سُمِّي في يناير/كانون الثاني 1992، بـ”جمهورية الشعب الصربي في البوسنة والهرسك” في إطار الاتحاد اليوغسلافي.
سبقت عملية الاستفتاء البوسني خطوة استباقية من صرب البوسنة، الذين تبنّوا دستورا خاصا بجمهورية الشعب الصربي في البوسنة، والتي كان يفترض أن تضمَّ كل الأقاليم الصربية والبلديات والدوائر الترابية الأخرى التي يعيش فيها المواطنون الصرب، وهو ما اعتُبر إعلان حرب من جانب واحد؛ فهذه الخطوة كانت تمثِّل دعوة مفتوحة إلى طرد كل من لا ينتمي إلى الإثنية الصربية من مواطني البوسنة الآخرين، كما أنها خطوة صريحة إلى الرغبة في إقامة مناطق “نظيفة إثنيًّا”.
أما على الجانب الكرواتي فقد تأسست ما سُمِّيت بـ”جمهورية هرسك-بوسنة” الكرواتية في جنوب البلاد، في نوفمبر/تشرين الثاني 1991، وقد سعى مؤسسوها -بدعم لوجيستي وسياسي ومادي من دولة كرواتيا في عهد الرئيس فرانيو تودجمان- إلى الانفصال عن دولة البوسنة والهرسك وإلحاق كروات البوسنة والأقاليم التي يعيشون فيها بالدولة الأم كرواتيا. غير أن “جمهورية هرسك-بوسنة” التي تَواصَل وجودها طيلة فترة الحرب (الممتدة من مارس/آذار 1992 إلى نهاية العام 1995)، لم تحظ بالاعتراف بها في اتفاقية دايتون الموقعة يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995، بين ممثلي الدول الثلاث المعنية بالحرب: البوسنة والهرسك ودولة كرواتيا والاتحاد اليوغسلافي.
كانت تلك هي الأجواء التي سبقت إعلان الحرب على البوسنة، حيث سعى صرب البوسنة، بإيعاز من حكومة ميلوشيفيتش في بلغراد وبزعامة رادوفان كارادجيتش سياسيًّا وقيادة راتكو ملاديتش عسكريًّا(5)، إلى إرغام مسلمي وكروات البوسنة على البقاء في الاتحاد اليوغسلافي بالقوة.
في تلك الأثناء أيضًا، كُشف عن مضمون اتفاق سري بين كلٍّ من الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش ونظيره الكرواتي فرانيو تودجمان، عرف باتفاق “كارادجورجيفو” (6) لتقاسم أراضي البوسنة والهرسك وإلحاق أقاليمها بالدولتين الأم وفقًا لثقل التواجد الإثني فيها.
في أبريل/نيسان 1992، أي بعد أيام قليلة من إعلان البوسنة والهرسك استقلالها عن الاتحاد اليوغسلافي، شنَّت مليشيات كارادجيتش شبه العسكرية -التي كانت تملك آلة حربية متطورة- هجومًا كاسحًا على سراييفو وأطبقت الحصار عليها، ثم واصلت بعد ذلك عمليات احتلال الأراضي البوسنية وإخلائها من سكانها من غير الصرب. وقد جرى كل ذلك بدعم من صربيا الأم وروسيا، ووسط صمت أوروبي ودولي وُصف بوسنيًّا بـ”المتواطئ”.
لم تكن أوروبا ترى أنها معنية بذلك الصراع الذي وصفته بالحرب الأهلية التي لا ينبغي التدخل فيها، رغم أن البوسنة والهرسك كانت دولة مستقلة ومعترفا بها دوليًّا. أما المجتمع الدولي فقد كانت حلوله التي جاءت متأخرة، بعيدة عن التأثير الجدي لإيقاف الاعتداءات والمذابح التي تعرض لها المدنيون العزل، وفي مقدمتهم مسلمو البوسنة والهرسك.
من جانبها، لم تكن إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون متحمسة لأخذ زمام المبادرة، واكتفت بدور المراقب عن بعد لما يجري على أرض البوسنة والهرسك، رغم أن مجلس الشيوخ الأميركي، وفي تفاعله مع مذبحة سريبرينيتسا، صوَّت يوم 26 يوليو/تموز 1995 على قرار برفع الحظر عن الأسلحة لصالح الجانب المسلم في البوسنة، ثم تبنَّى مجلس النواب الأميركي هذا القرار في جلسته المنعقدة في الأول من أغسطس/آب من العام نفسه، إلا أن الرئيس كلينتون رفض إمضاءه مستعملًا حق النقض لإجهاضه. ثم كان الحدث الفاصل في تغيير الموقف الأميركي من دور المراقب للأحداث إلى دور الفاعل فيها بقوة، متمثلًا في النصر العسكري الذي حققته قوات كروات البوسنة في منطقة كرايينا الاستراتيجية يوم 7 أغسطس/آب 1995، وتحرير حوالي 20% من الأراضي البوسنية، ومن ثم إجبار قوات صرب البوسنة على التراجع إلى المناطق الغربية من البوسنة والهرسك، وقد كان هذا النصر الكرواتي مدعومًا أميركيًّا، بشكل غير مباشر.
باختصار، كان الحلُّ الذي اختارته إدارة كلينتون بتقديم دعم أميركي غير مباشر للجانب الكرواتي، ردًّا على انسداد الأفق الذي فرضه الحلفاء الأوروبيون برفضهم مشروع رفع الحظر عن الأسلحة واستخدام الطيران الحربي لحلف الناتو لقصف أهداف عسكرية صربية، فقد كان حلفاء واشنطن (باريس ولندن وموسكو) يصرُّون على عدم التأثير في تغيير موازين القوى بين أطراف الصراع الثلاثة، لاعتقادهم بأن وقف الصراع وحمل الأطراف المتنازعة على التفاوض يتطلب بقاء التوازن العسكري على ما هو عليه. لكن انتصار كروات البوسنة واستعادتهم لمنطقة كرايينا الحساسة، التي كان صرب البوسنة قد أعلنوها جمهورية صربية خاصة منذ العام 1991 وإلى حدِّ تحريرها من قبضة قوات صرب البوسنة، قلبَ موازين القوى وأعطى زخمًا جديدًا للدور الأميركي، كما أخرج فرنسا من دائرة الضوء والتأثير في القضية البوسنية وأعطى الفرصة لصانع القرار الأميركي لاستعادة دور الريادة وفرض قواعد اللعبة في ضوء المصالح الجيو-استراتيجية الأميركية في المنطقة ككل.
مباشرة بعد تحرير منطقة كرايينا، أرسل الرئيس كلينتون مبعوثه الخاص، أنثوني لايك، إلى العواصم الفرنسية والبريطانية والروسية ليُعلم الحلفاء بقراراته لا لمشاورتهم، فقد قررت واشنطن حمل الأطراف المتحاربة في البوسنة على الاتفاق حول إنهاء الصراع المسلح، وهي المهمة التي أوكلت إلى الدبلوماسي الأميركي، ريتشارد هولبروك، مهندس اتفاق السلام في البوسنة، المعروف باتفاقية دايتون.
2. دايتون.. اتفاق هدنة وسلام وليس اتفاقًا لتأسيس دولة حقيقية
لا مراء في أن اتفاقية دايتون للسلام أوقفت أسوأ عدوان وإبادة جماعية على أرض أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد كان عدم قدرة الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على الاتفاق على طرق لوقف القتل؛ أكبر فشل عبر المحيط الأطلسي في العقود السبعة الأخيرة. لكن، بالنظر إلى سجل الحرب على البوسنة والهرسك المليء بالمآسي والكوارث، فإن السلام الذي تم التوصل إليه في دايتون عام 1995 نُظر إليه على أنه نجاح مذهل ومدهش.
فمن وجهة نظر القدرة التفاوضية الفنية والهدف ذي الأولوية، المتمثل في إسكات الأسلحة، يمكن القول إن اتفاقية دايتون تعاملت مع الأوضاع في حينها بشكل جيد، وكانت محاولة ناجحة لبلوغ السلام على أساس افتراض أن “الاتفاق الأمثل لكل طرف من أطراف الصراع” كان مستحيلًا في تلك المرحلة القصوى من الصراع. لذلك كان الأمر يتعلق بالوصول إلى نقطة توازن مثالي بين المواقف المتباينة والمخاوف الوجودية للأطراف، التي من شأنها ضمان الاستقرار الفوري والتقدم نحو السلام، حتى لو كان مؤقتًا، ليكون الانتقال من حالة “بناء السلام” إلى “تعزيز السلام” في فترة لاحقة. وكان التزام المجتمع الدولي بنشر مهمة عسكرية ذات مصداقية وحجم ووسائل متناسبة مع الاحتياجات والتفويض المناسب؛ أمرًا حاسمًا على الأرض. وهكذا تتالت المهام الدولية والأوروبية لحفظ وتعزيز السلام المنبثق عن دايتون بدءًا بـ”القوات الدولية لحفظ السلام” (IFOR)، تلتها “قوة حفظ السلام” (SFOR)، وأخيرًا “قوات الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك” (EUFOR).
اليوم، يبدو جليًّا أن اتفاقية دايتون باتت ترتبط بفرض السلام بدرجة أكبر من ارتباطها بإصلاح الخلل الوظيفي الذي أصبحت عليه دولة البوسنة والهرسك. ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن الاتفاقية كانت هدنة أكثر منها تسوية سياسية شاملة ونهائية، فقد جمَّدت مواقعَ الأطراف المتحاربة (جمهورية صربسكا والاتحاد الفدرالي بين المسلمين والكروات) وكافأت السيطرة على الأراضي على أساس عرقي. ومنذ ذلك الحين، تلاعب القوميون الإثنيون، أو الكليبتوقراطيون، بالأحكام المضمَّنة في اتفاقية دايتون لترسيخ سلطاتهم على حساب قدرة البلاد على البقاء.
فالدستور الذي منحته الاتفاقية للبوسنة والهرسك(7) عبَّر بشكل حصري عما أسماها مصالح “الشعوب المكوِّنة، وهي: الشعب البوشناقي-المسلم والشعب الكرواتي والشعب الصربي”؛ ولم يُعرِّف سيادة دولة البوسنة والهرسك بوصفها تعبيرًا عن رغبة وإرادة شعبها أو مواطنيها حتى تكون ديمقراطية تمثيلية حقيقية؛ وهو ما أدى بالضرورة إلى التمييز العنصري واستثناء باقي الجماعات والشعوب التي تتوزع على 17 إثنية أخرى، تمثِّل بدورها رافدًا لشعوب جمهورية البوسنة والهرسك، وفقًا للإحصاء السكاني للعام 1991.
وبذلك، يكون تنظيم مجموع المؤسسات الحيوية للدولة قد بُني أساسًا، تحت ضغط مطالب القوى القومية-الإثنية، على المعطَى العرقي كهدف أساسي لعمل دولة البوسنة والهرسك، بدلًا من أن تتضمَّن ديباجته -كما هي حال دساتير الدول الديمقراطية المعاصرة- تعدادًا لحقوق المواطنين وبيانا لدور الدولة الديمقراطية في حماية حقوق ومصالح الأمة باعتبارها وحدة لا تتجزأ.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن جمهورية البوسنة والهرسك شاركت في مفاوضات دايتون وهي تمتلك أحدث النظم الديمقراطية الحديثة التي تتضمن هياكل الحكومة العادية المؤلَّفة من مؤسسات الدولة المركزية والبلديات الممثلة لمختلف المناطق وممثليات الجماعات المحلية باعتبارها سلطات حكم محلي(8). وفي الواقع، فإنه كان لكل الجمهوريات في الاتحاد اليوغسلافي السابق نفس النظم الدستورية عند حصولها على الاستقلال، حيث كانت اللجنة المكلَّفة بصياغة دستور جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية حريصة على مطابقة دساتير الجمهوريات الاشتراكية لدستور الجمهورية الاتحادية، غير أن مفاوضات دايتون أدت إلى إقرار كل دساتير الجمهوريات المستقلة، باستثناء دستور البوسنة والهرسك، التي كانت الجمهورية الوحيدة التي مُنحت دستورًا جديدًا-فريدًا من نوعه في أدبيات القانون الدستوري الحديث- لتُحيلها من ديمقراطية برلمانية إلى دولة ممسوخة الهوية لا تنتمي إلى الأنظمة الديمقراطية. لقد اعتمد دستور دايتون، “الممنوح” من القوى الكبرى، خيار التمييز بين مختلف مكونات المجتمع المتعددة، وأسَّس برلمانًا بغرفتين تجمعان فقط ممثلين عما يُسمَّى “الشعوب المكوِّنة” أو “المكونات الإثنية المؤلِّفة لشعب البوسنة والهرسك”. كما شكَّل أيضًا مجلسًا للوزراء ورئاسة للمجلس، في حين ألغى المحكمة العليا للبوسنة والهرسك. وهكذا يكون الدستور البوسني “الجديد” قد ألغى المبادئ الديمقراطية الجوهرية التي قام على أساسها دستور جمهورية البوسنة والهرسك قبل الحرب عليها، ليعيد الدولة الوليدة بعد الاتفاقية -عمليًّا- إلى مرحلة ما قبل الدستور.
يبقى أن نشير في هذا السياق، إلى أن دستور البوسنة والهرسك لا يعترف بغير “المصالح الوطنية الحيوية للـشعوب المكونة الثلاثة”، أي البوشناق والكروات والصرب، في حين لم يأت مطلقًا على ذكر مصطلحات، مثل: الشعب، والمصلحة العامة، والمصلحة الوطنية ومصلحة الأمة. ولا شك أن تأسيس استقرار داخلي لدولة البوسنة والهرسك في ظل هذه المواد الدستورية، لا يبدو قابلًا للتحقُّق ولا يؤدي إلى أي تقدم تطمح إليه شعوب البوسنة والهرسك، بل إنه قاد البلاد إلى فشل بيِّن ما تزال تتخبط فيه بعد مرور أكثر من 25 عامًا من العمل وفقًا لدستور دايتون.
3. تضخيم مؤسسات الدولة السياسية: أعباء إضافية تسهم في إفشال الدولة
كان منتظرًا بعد إقرار الدستور الجديد للبلاد، أن تعود البوسنة والهرسك إلى الوضع الدستوري الذي كان قبل إعلان حالة الطوارئ يوم 8 أبريل/نيسان 1992، وفقًا لمقتضيات أحكام الدستور، والتزامًا باشتراطات المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان. وكان من شأن ذلك أيضًا، عودة مؤسسات البوسنة والهرسك السيادية لاستئناف سير عملها الطبيعي الذي كانت عليه قبل إعلان حالة الطوارئ. كان هذا التوقُّع مؤسسًا على ما أثبته الواقع من تعرُّض جمهورية البوسنة والهرسك لحرب عدوانية، دون أن تخلَّ من جانبها بأحكام القانون الدولي التي التزمت بها أثناء عملية الاعتراف باستقلالها وسيادتها ضمن الحدود الدولية المعترف بها رسميًّا من طرف الأمم المتحدة يوم 6 أبريل/نيسان 1992، غير أن المجتمع الدولي لم يلتزم بالقيام بدوره، بل واعتمد مهندسو اتفاق السلام تكييفًا قانونيًّا مخالفًا للوقائع على الأرض، معتبرين أن ما جرى في البوسنة والهرسك لم يكن سوى “صراع داخلي مأساوي في المنطقة”، بينما كان إطار الاتفاق المعلَن للسلام يخصُّ البوسنة والهرسك وحدها ولا يشمل كامل المنطقة، وهذا ما أسَّس لشَرْعَنَة قانون الأمر الواقع ومكافأة المعتدي بالقوة على الطرف الأضعف. وخلافا لكل ما تضمنته وثائق الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أقرَّت اتفاقية دايتون بالأمر الواقع والتسليم بما أفرزته نتائج حرب الإبادة وما صاحبها من استيلاء على أجزاء واسعة من أراضي البوسنة والهرسك(9).
على المستوى السياسي والإداري-المؤسساتي، أنشأت اتفاقية دايتون عددًا كبيرًا من المؤسسات السياسية والإدارية الجديدة لدولة البوسنة والهرسك “الجديدة”؛ فبالإضافة إلى مؤسسة الرئاسة الثلاثية التمثيل، أضافت الاتفاقية كيانات جديدة أفرزتها الحرب هي: “ريبوبليكا صربسكا” و”اتحاد البوسنة والهرسك”، بالإضافة إلى 10 كانتونات أو (ولايات)، حيث يتقاسم البوشناق والكروات السلطة، بالإضافة إلى إنشاء إقليم/مقاطعة برتشكو على أساس تحكيم دولي(10).
لقد أغرقت اتفاقية دايتون دولة البوسنة والهرسك بعدد كبير من المؤسسات التي لا تحتاجها ولا مصلحة لها فيها، مما أثقل كاهل اقتصاد البلاد غير المتعافي أصلًا. فكل كيان من الكيانات المشار إليها أعلاه، مسؤول عن وضع قوانينه الخاصة والعمل بها، في حين لا تتمتع دولة البوسنة والهرسك نفسها بأي سلطة تذكر، ومجلس الرئاسة الثلاثي لا يقرِّر في أهم المسائل، فضلًا عن صعوبة بلوغ رؤسائه الثلاثة شرط الإجماع لتبني قراراته. وفي الوقت الذي تتبع فيه جمهورية صربسكا نظامًا سياسيًّا وإداريًّا مركزيًّا، تتمتع الكانتونات العشرة في الاتحاد بسلطات واسعة.
يمكن القول إن النتيجة التي قادت إليها اتفاقية دايتون كانت خلق دولة هي الأكثر لامركزية في العالم، حيث توجد أربع سلطات قضائية و14 وزارة عدل. وفي المجموع، يوجد في البلاد 13 حكومة وبرلمانًا و3 رؤساء و149 وزارة وما لا يقل عن 180 وزيرًا في مختلف الوزارات. إن مثل هذا الهيكل يؤدي إلى عدد لا يحصى من المشاكل، على الصعيدين السياسي والمجتمعي، على حد سواء. في اتحاد البوسنة والهرسك، ونظرًا لعدد كبير من فرص التصويت العرقية والإقليمية، لم يتم تشكيل حكومة منذ الانتخابات العامة التي جرت عام 2018، ولم يتم تمرير أي قانون جديد خلال الدورة البرلمانية لعام 2019. كما تميل المجموعات العرقية الثلاث المعترف بها إلى التصويت للأحزاب القومية التي تمثِّل توجهاتها السياسية، مما يؤدي إلى انقسام واضح في السياسة الحزبية.
لقد أدى المأزق السياسي وعدم إحراز تقدم في نهاية المطاف إلى عواقب وخيمة على مواطني البوسنة والهرسك، ولاسيما جيل الشباب. ففي العام 2019، بلغ معدل البطالة بين فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين (15-25 عامًا) 33.8% من مجموع القوى النشيطة. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة أجريت عام 2014 أن 49.2% من الشباب يريدون مغادرة البلاد. وتُعد هجرة العقول والنمو السكاني السلبي من أعظم آثار الوضع السياسي والاقتصادي السيئ. ووفقًا لتعداد عام 1991، بلغ عدد سكان البلاد حوالي 4.38 ملايين نسمة، في حين أظهر التعداد الرسمي لعام 2013 أن هذا العدد انخفض إلى 3.53 ملايين، وفقًا لإحصائيات خاصة بمؤسسة وستمنستر للديمقراطية 2020(11).
من ناحية أخرى، تواجه عملية اتخاذ القرار السياسي عددًا من الحواجز والانسدادات، فهي تتطلب التوافق الكامل بين الفرقاء السياسيين، والإجماع فيما يتعلق باتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والتنفيذية الكبرى (من قبيل اعتماد الميزانية العامة للدولة أو الانضمام إلى اتفاقيات دولية أو إقليمية، أو رسم معالم السياسة الخارجية أو حتى تعيين حكام الكانتونات…)، وقد تم إدخال آلية “الفيتو”(12) التي تمنح كل الأطراف المشاركة في السلطة (البوشناق والصرب والكروات) حق النقض، وبالتالي إمكانية إجهاض اتخاذ أي قرار، مما يؤدي إلى تعطيل عمل المؤسسات السياسية.
وهكذا، فإن الأساس القانوني والسياسي الذي بُنيت عليه دولة البوسنة والهرسك لا يمكِّنها من انتهاج نظام اقتصادي عصري، ولا يسمح لها بتسيير المؤسسات المجتمعية بشكل سلس، بل ويقف حاجزًا دون بناء أي علاقات تعاون وتكامل إقليمية، حيث إن بنود دستورها تتعارض، بشكل واضح، مع المعايير التي وضعتها المفوضية الأوروبية. فدستور البوسنة والهرسك لم يُبنَ في إطار مبادئ الدولة الأوروبية العصرية القائمة على التمثيل السياسي وتوزيع السلطات ومبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة. بل إن دستور دايتون، الممنوح للبوسنة والهرسك، يمثِّل -بالإضافة إلى كل التعقيدات المشار إليها سابقًا- خليطًا غريبًا من النظريات القانونية الدستورية، وتتضمن بنوده، فضلًا عن تفسيره، مواد تشرِّع التمييز العنصري وكل المحظورات الأخرى التي تعرقل عملية التشريع القانوني وتضع الحواجز أمام القرارات السياسية(13). فدستور دايتون لم يضع قواعد تضمن إقامة علاقات طبيعية لدولة البوسنة والهرسك مع دول الجوار الإقليمي ولا مع باقي دول العالم. غير أنه، وبطريقة غريبة عن مبادئ وروح القوانين الدستورية، أقرَّ المادة الثالثة ضمن الفصل الثاني من الدستور، التي تعطي الحق للكيانين البوسنيين (الاتحاد وريبوبليكا صربسكا) في بناء علاقات موازية فيما بينهما وبين دول الجوار ضمن الحيز الجغرافي والسيادي لدولة البوسنة والهرسك، وهو ما سمح للكيان الصربي البوسني بالانتقاص من سيادة الدولة عبر إمضائه جملة من المواثيق والاتفاقيات الدولية مع الجارة والحليفة جمهورية صربيا، التي لم تعد تفصلها معها أي حدود فعلية. وبذلك تكون ريبوبليكا صربسكا، بقيادة السياسي الصربي-البوسني المثير للجدل، ميلوراد دوديك، الذي يتزعم الكيان الصربي البوسني منذ ما يزيد عن 15 عاما، قد نفَّذت مخططًا قديمًا-متجددًا يقضي بإلحاقها بالدولة الصربية الأم وانفصالها عن البوسنة، وهو هدف استراتيجي كان الرئيس الصربي السابق ميلوشيفيتش قد حدَّده عند دخول بلاده الحرب ضد البوسنة والهرسك.
4. تعقيدات إضافية تسهم في إضعاف دولة البوسنة والهرسك
ظلت دولة البوسنة والهرسك، منذ نشأتها، تواجه تحديات إضافية متتالية، وهي اليوم أيضًا، رغم مرور أكثر من ربع قرن على اتفاقية دايتون، تواجه ثلاثة تحديات كبرى متزامنة ومتشابكة فيما بينها؛ فبالإضافة إلى المشاكل الهيكلية التي تطرحها الاتفاقية نفسها بتمكين القوميين العرقيين من إعاقة بناء مؤسسات الدولة وتقدمها ونموها؛ تجد الدولة نفسها أمام حالة من استشراء الفساد وتأزم الأوضاع الاقتصادية والعجز عن مجابهة آثار جائحة كوفيد 19.
فالهياكل العرقية-الإثنية-السياسية القائمة لا تساعد على بناء الثقة بين مواطني البلاد، في حين يستوطن الفساد ويتزايد، وتسمح الأجواء المشحونة بنشاط ملحوظ للعصابات المنظمة، خاصة داخل الكيان الصربي. لقد أفسد نظام الحكم غير الرشيد الذي أسَّسه دايتون -وأسهمت الأحزاب السياسية القومية البوسنية في تأزيمه- البلاد وقوَّض ديمقراطيتها، وقلَّل ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة، وشوَّه الاقتصاد، وجذب تدفقات مالية مشكوكا فيها تَعْبُر منها إلى باقي بلدان أوروبا.
أما النظام القضائي المختل أصلًا، فقد استولى عليه القوميون العرقيون، وباتت رشوة القضاة من الروتين اليومي، بل وأصبحوا يشاركون في الأنشطة السياسية الحزبية أو يتلكؤون في نظر القضايا المتراكمة، مما يؤخر إنجاز العدالة ويزيد من تآكل الثقة في الهياكل القائمة. ومع تسييس سلطة القضاء وبروز قضاة سياسيين، بات المواطنون يشككون في الأحكام القضائية، بل ويرفضون الامتثال لها أيضًا. وهكذا أصبح القضاء الذي يُفترض فيه أن يكون جزءًا من الحل، جزءًا من المشكلة(14).
من جهة أخرى، يعطِّل إطار دايتون المؤسسي أيضًا مشاريع التنمية الاقتصادية للبلاد، فالبوسنة والهرسك دولة موحدة، لكنها تمتلك عدة اقتصادات، وتسعى كل سلطة لامركزية -سواء على مستوى الكيانات أم على مستوى الكانتونات- إلى وضع الحواجز أمام النشاط الاقتصادي للكيانات الأخرى، حيث لكل مستوى حكومي قواعد وإجراءات أعمال خاصة به، وهو ما يغذِّي الاختلافات العرقية والسياسية ويزيد من تأكيدها. وقد أدى كل ذلك في النهاية إلى تدنِّي مرتبة الدولة عالميًّا على مستوى مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الصادر عن تقرير للبنك الدولي عام 2020.
كما طال الفساد عمل البنى التحتية للاتصالات بسبب الانقسامات السياسية، بينما أسطول النقل متصدع وغير متطور بسبب سيطرة الأحزاب السياسية القومية العرقية على المؤسسات العامة والقطاعات الكبرى المملوكة للدولة.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن نسبة البطالة الهيكلية مرتفعة جدًّا، فما يقرب من نصف السكان غير نشطين اقتصاديًّا، ولا يحصل على عمل سوى ربع إجمالي السكان فقط، في حين بلغت نسبة بطالة الشباب من حملة الشهادات الجامعية والتأهيلية، بسبب آثار جائحة كوفيد-19 أكثر من 40% في عام 2020، وهو ما دفع بأعداد هائلة من الشباب من خريجي الجامعات والحاصلين على درجات علمية مرموقة، إلى مغادرة البلاد بحثًا عن فرص حياة أفضل.
كما لا يزال ضمان حرية التعبير موضع شك، حيث تسيطر الأحزاب السياسية القومية على أغلب وأهم وسائل الإعلام المرئية والورقية في البلاد، وتنفرد لوحدها في توجيه الرأي العام الموالي لها واستهداف كل مناوئيها من الأحزاب والجمعيات، بل وحتى المواطنين البوسنيين الذين ينتمون إلى أعراق أخرى، بينما يتلقى الصحفيون الذين لا يتمتعون بحماية قانونية كافية، تهديدات تهدِّد وجودهم وتنتقص من مصداقيتهم(15).
لم تقف الانقسامات العرقية عند النظام السياسي فقط، فالتعليم مجال آخر لا تزال فيه البلاد منقسمة بعمق، حيث تفتقر البوسنة والهرسك إلى منهج تعليم أساسي مشترك. ونتيجة لاتفاقية دايتون، أصبح التعليم خارج نطاق اختصاص الدولة، حيث يقع تنفيذه بدلًا من ذلك في الكانتونات العشرة التي يهيمن عليها التوجه الإثني وريبوبليكا صربسكا، والنتيجة هي إقرار مناهج تعليمية مختلفة من قبل المجموعات العرقية، وهو ما يزيد من احتمالات فرض الانقسامات العرقية عن طريق التعليم، وكانت النتيجة تسييس التعليم ومزيدا من انقسام المجتمع بين خطوط عرقية(16).
أما الأخطر من ذلك، فهو أن المناهج التعليمية الثلاثة المنفصلة تركز على إيذاء مجموعة معينة، وهو أمر يصعب على الدولة البوسنية السيطرة عليه عندما يتم اعتماد اثنين من المناهج الثلاثة (الصربية والكرواتية) من خارج حدودها. هذا بالإضافة إلى أن البوسنة والهرسك تعتمد نظامًا يتكون من مدرستين تحت سقف واحد، حيث يتم تقسيم المدارس، بل وفصولها أيضًا في بعض الأحيان، بين المجموعات الإثنية المختلفة، وعلى الأخص بين الكروات والبوشناق في المدارس المعتمدة داخل اتحاد البوسنة والهرسك، وهو ما يُعد خرقًا جسيمًا للحكم الصادر عن المحكمة العليا لكيان الاتحاد عام 2014.
5. مخاوف جدية من الانزلاق نحو الانهيار والفوضى
حتى الآن غابت الإرادة السياسية الكافية، الداخلية والدولية على حد سواء، لتغيير البنية الدستورية الفوقية التي فرضتها اتفاقية دايتون على دولة البوسنة والهرسك، مما سمح للانفصاليين باكتساب نفوذ متزايد من خلال استغلال الثغرات القانونية الجوهرية في الاتفاقية وتفسير بنودها.
فالولايات المتحدة، الفخورة بفرضها وقف الحرب وإبعاد البوسنة عن دائرة بؤر التوتر المشتعلة في العالم، والتي تواجه تحديات دولية أخرى يتقدَّمها وقف صعود الصين وكبح طموحات روسيا، فقَدَت أملها في استعادة أوروبا مسؤوليتها عن القضية البلقانية عمومًا، والمسألة البوسنية خصوصًا، حتى تتمكن واشنطن من معالجة الأخطار العالمية الوشيكة. ومع ذلك، فإن القادة الأوروبيين لم يكونوا قادرين على تقييم الأوضاع بنفس المقاربة السياسية، وكانوا -مثل الأميركيين- يرون أن الوضع ليس خطيرًا رغم كونه ميؤوسًا منه، ولم يكونوا يتقاسمون نفس الأفكار من أجل تحفيز التغييرات الضرورية والمستعجلة في البوسنة والهرسك، أو في البلدان الأخرى غير المنضبطة في غرب البلقان (صربيا وجمهورية مقدونيا الشمالية وكوسوفو)، وتمكينها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
يقف المجتمع الدولي، وفي مقدمته رعاة البوسنة والهرسك؛ الاتحاد الأوروبي وأميركا، عاجزين عن استرداد الدولة من قبضة النخب الكليبتوقراطية والمؤثرين الخارجيين الذين يختطفونها، ويسهمون في تحويلها إلى بلد أقل أمنًا، حيث باتت احتمالات اندلاع أعمال عنف فيها أكبر مما كانت عليه قبل الأعوام الـ15 الماضية.
بالنسبة لدول الجوار، وعلى الرغم من توقيع صربيا وكرواتيا على اتفاقية دايتون للسلام والتزامهما، بالتالي، باحترام وتأكيد سيادة البوسنة والهرسك وسلامة أراضيها، نرى أن زعماء البلدين يتبادلون نفس الأدوار، تقريبًا، لإضعاف مؤسسات الدولة البوسنية والزجِّ بها نحو الفشل والانهيار الكامل(17).
بالإضافة إلى ما تقدَّم، فإن تلك الاتجاهات السلبية تغذيها قوى من خارج المنطقة، وفي مقدمتها روسيا، التي على الرغم من أنها ليست طرفًا رئيسيًّا في صنع القرار في المنطقة، فإنها تتصرف بشكل انتهازي من خلال زرع انعدام الثقة بين الجهات الفاعلة المحلية، وتشجيع السياسيين الانفصاليين وتقديم الدعم لهم ورشوتهم، وتوسيع علاقاتها معهم عبر الاستثمار في مجالات الطاقة والأمن، من خلال تسليح وتدريب القوات شبه العسكرية في الكيان الصربي-البوسني، وتوسيع نشاطاتها الاستخباراتية، واستغلال الفضاء السيبراني لبث كل ما من شأنه تضليل الرأي العام وتعطيل تقدُّم البوسنة والهرسك نحو عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو(18).
أما القوة الدولية الأخرى التي بدأ تأثيرها يزداد في المنطقة منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، فهي جمهورية الصين الشعبية، حيث يبلغ إجمالي استثمارات بيجين في مجال الطاقة والمعادن والنقل في البوسنة والهرسك حوالي 3 مليارات دولار، وهو رقم مهم لبلد فقير يبلغ عدد سكانه بحوالي 3.3 ملايين نسمة. هذه الأموال الصينية تزيد من تغذية الفساد المستشري في البلاد، كما تغرقها أكثر في ديون لا قبل لها بسدادها(19).
في مقابل التدخلات الخارجية الخطيرة وتداعياتها السلبية على استقرار البوسنة والهرسك، يبرز الدور التركي الداعم والمساند لوحدة واستمرار دولة البوسنة والهرسك. فأنقرة، ورغم اتهامها بمحاولة التوغل في البلقان وإحياء أمجادها التاريخية في المنطقة، كانت داعمة اقتصاديًّا وسياسيًّا للبوسنة. وفي الواقع، لا تطرح تركيا نفسها خيارًا استراتيجيًّا بديلًا، ولا هي الفاعل الاقتصادي الأكبر في المنطقة، وليست غايتها إبعاد غرب البلقان عن الاتحاد الأوروبي، ولا تعتبر نفسها قوة موازنة لروسيا في المنطقة. لكنها تتخذ، في المقابل، خطوات لتقوية وتنويع علاقاتها مع دول غرب البلقان، مع الحفاظ على حرصها على حماية المسلمين البوشناق في البوسنة والهرسك وكوسوفو، وتتمتع بعلاقات جيدة مع كل من صربيا وكرواتيا وسلوفينيا(20).
اليوم، ورغم بعض الأمل الذي أضفاه تأكيد المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا، يوم 8 يونيو/حزيران 2021، حكمًا ابتدائيًّا صادرًا عنها عام 2017، ضد راتكو ملاديتش بارتكاب جرائم إبادة جماعية في البوسنة والهرسك، وتنفيذ حكم آخر صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بإزالة كنيسة أرثوذكسية بنيت بشكل غير قانوني على أرض مواطنة بوسنية، وقرب تعيين ممثل سام جديد في البوسنة هو الألماني كريستيان شميدت، رغم ذلك فإن تزايد المخاطر الداخلية والخارجية، والدفع بالبوسنة إلى أن تتحول إلى مركز جاذبية للفساد والجريمة العابرة للقارات، بالإضافة إلى تغذية النزعات الانفصالية العرقية، يُخشى معه أن يكون انهيار البوسنة والهرسك وشيكًا، مع ما سيستتبع ذلك من إدخال المنطقة كلها، وبقية أوروبا، بل والعالم أيضًا، في دوامة جديدة من الصراعات الدامية قد يطول أمد الخروج منها.
نشرت هذه الدراسة في العدد الحادي عشر من مجلة لباب، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)
(1) يجادل بهذا عدد من المؤرخين والحقوقيين البوسنيين وعلى رأسهم أستاذ القانون الدولي العام بجامعة سراييفو، الدكتور عمر إبراهيماغيتش، في كتابه “تطور الوضع القانوني لدولة البوسنة والهرسك”، الصادر في سراييفو عام 1998.
(2) نشبت حروب البلقان على إثر نزاعين شهدتهما شبه جزيرة البلقان عامي 1912 و1913، حيث ألحقت أربع دول بلقانية، هي اليونان وبلغاريا والجبل الأسود وصربيا، هزيمة بالإمبراطورية العثمانية في حرب البلقان الأولى. وفي حرب البلقان الثانية، قاتلت بلغاريا ضد حلفائها السابقين، كما تعرضت إلى هجوم مفاجئ شنته ضدها رومانيا من جهة الشمال.
(3) يتوزع سكان دولة البوسنة والهرسك، وفقًا لإحصاء 2013 على النحو التالي: البوشناق (مسلمون): 51%، الصرب (أرثوذكس) 31%، الكروات (مسيحيون رومانيون) 15%، معتنقو ديانات أخرى (بمن فيهم اليهود) 2%، والملحدون (غير المتدينين) 1%. لم تتغير هذه النسب في توزيع عدد سكان البوسنة والهرسك، وفقًا لانتماءاتهم الدينية-الإثنية كثيرًا عما كان عليه الوضع قبل اندلاع الحرب، حيث كانت كتلة السكان المسلمين تساوي تقريبًا 50%، والصرب حوالي 30% والكروات حوالي 14%. للتوسع انظر:
Benjamin Elisha Sawe : “Religious Demographics of Bosnia and Herzegovina,” World Atlas, April 25, 2017, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/2TRcdfT.
(4) Dejan Marolov, “The Reasons for the Collapse of Yugoslavia,” International Journal of Sciences: Basic and Applied Research, December 31, 2000, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3gIMDle.
ما بين 29 فبراير/شباط و1 مارس/آذار 1992 دعا حزب حركة العمل الديمقراطي برئاسة علي عزت بيغوفيتش، إلى تنظيم استفتاء شعبي عام للإجابة على السؤال التالي: هل توافق على استقلال البوسنة والهرسك؟
(5) أيدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة يوم 8 يونيو/حزيران 2021 حكمًا ابتدائيًّا صدر في العام 2017 بالسجن المؤبد على الجنرال الصربي راتكو ملاديتش، الذي قاد قوات صرب البوسنة شبه النظامية خلال الحرب العدوانية على البوسنة والهرسك، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة في سريبرينيتسا وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
Carol J. Williams, “Serbs, Croats Met Secretly to Split Bosnia: Balkans: The latest in a series of behind-the-scenes deals fails to ease the fighting. The United States condemns the plotting by local ethnic leaders,” latimes.com, May 9, 1992, “accessed June 14, 2021”. https://lat.ms/3gOslXs.
(6) Erich Rathfelder, “Karađorđevo and the territorial-ethnic division of Bosnia and Herzegovina,” ba.boell, March 25, 2019 “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3jdc8hl.
(7) دستور البوسنة والهرسك الحالي، الذي هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة، ليس سوى الملحق 4 من اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك، أي اتفاقية دايتون، الموقعة يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995.
(8) Alberto Nardelli , Denis Dzidic and Elvira Jukic, “The Guardian; Bosnia and Herzegovina: the world’s most complicated system of government?,” theguardian.com, October 8, 2014, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3gJoFY4.
(9) Leon Hartwell, “Conflict Resolution: Lessons from the Dayton Peace Process,” Negotiation Journal (Wiley online Library), October 15, 2019, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3zC52sy.
(10) تم تعديل الدستور البوسني عام 1999 من أجل السماح بإنشاء مقاطعة برتشكو الخاضعة للتحكيم الدولي.
(11) تُقدِّر إحصاءات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة عدد سكان البلاد بـ3 ملايين و301 ألف نسمة اعتبارًا من عام 2019. انظر: “تعداد السكان الإجمالي، البوسنة والهرسك”، البنك الدولي، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2021)، https://bit.ly/3zHjP5m.
(12) Enna Zone Đonlić, “Protection of the vital national interest in Bosnia and Herzegovina,” esthinktank.com, December 4, 2017, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3wKieKa.
(13) James C. O’Brien, “The Dayton Constitution of Bosnia and Herzegovina,” United states Institute of peace, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3iTeLoi.
(14) “OSCE presents the third report on judicial response to corruption in Bosnia and Herzegovina,” osce.org, November 23, 2020, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3vMOT05.
(15) Lina Rusch, “Media Freedom in Bosnia and Herzegovina,” Balkanmedia, Media and Democracy in South East Europe, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3gFDkna.
(16) William Eggerton, “Bosnia & Herzegovina: Is the Current System Viable?,” ulster.ac.uk, April 8, 2021, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3xuPOna.
(17) في بدايات شهر مايو/أيار 2021 تم تسريب وثيقة غير رسمية، قيل إنها صادرة عن رئيس وزراء سلوفينيا، يانيز يانشا، ووافق عليها نظيره الكرواتي واطَّلع عليها أيضًا الرئيس الحالي لمجلس الرئاسة البوسني، ميلوراد دوديك، تقترح تقسيمًا سلميًّا لأراضٍ شاسعة من البوسنة والهرسك بين دولتي صربيا وكرواتيا، وإلحاق كوسوفو بألبانيا. للتوسع انظر:
Guy Delauney: “Mystery plans to redraw Balkan borders alarm leaders,” bbc.com, May 28, 2021, “accessed June 14, 2021”. https://bbc.in/3gHdvmG.
(18) Dimitar Bechev, “Russia’s strategic interests and tools of influence in the Western Balkans,” atlanticcouncil.org, December 20, 2019, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/35EPbvu.
(19) Vladimir Shopov, “Decade of patience: How China became a power in the Western Balkans,” ecfr.eu, February 2, 2021, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3gOeEYI.
(20) Asli Aydıntaşbaş, “From myth to reality: How to understand Turkey’s role in the Western Balkans,” ecfr.eu, March 13, 2019, “accessed June 14, 2021”. https://bit.ly/3qaKYsS.
.
رابط المصدر: