تشير التحركات الرباعية الروسية مع كل من سوريا وإيران وتركيا إلى ترتيبات سياسية وأمنية جديدة ربما ستشكل متغيرًا على الخريطة السورية في المدى المتوسط؛ إذ لا يزال محور هذه اللقاءات التي يأتي أحدثها لقاء رباعي في موسكو هذا الأسبوع يواجه تحدي سقف المطالب المتبادلة على الجانبين التركي – السوري تحديدًا. لكن في مقابل ذلك ينعطف المشهد السوري نحو مسار جديد من الصراع الإسرائيلي الإيراني، ظهر أبرز مؤشراته في تكثيف الهجمات الإسرائيلية على سوريا والتي استهدفت مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، حيث شنت إسرائيل ثلاث هجمات متقاربة زمنيًا خلال أسبوع واحد آخرها الأحد 2 ابريل والتي استهدفت قاعدة T4 غرب “تدمر” حيث تتواجد عناصر للحرس الثوري، إضافة إلى مطار الضبعة في ريف حمص الغربي، حيث تتمركز عناصر حزب الله اللبناني، وتعرض كذلك مقر مركز البحوث العسكرية التابع للجيش العربي السوري للهجوم.
وكشفت تقديرات إسرائيلية أن تلك العمليات تأتي ردًا على عملية تسلل نسبتها إلى حزب الله اللبناني على مفترق “مجدو” منتصف مارس المنقضي، حيث انفجرت عبوة ناسفة أدت إلى إصابة إسرائيلي واحد، بينما أعلنت تل أبيب عن قتل منفذ العملية، مشيرة إلى أنها عثرت بحوزته على أسلحة وحزام ناسف جاهز للاستخدام. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل اعترضت انطلاق طائرات مسيرة من الجانب السوري إلى إسرائيل.
ومع ذلك، لا تعكس ردود الأفعال والتصريحات الإسرائيلية لتبرير كثافة الهجمات على سوريا أنها تستهدف فقط مجرد الرد على تلك العمليات الهجومية سواء عملية مجدو التي نسبتها إلى حزب الله أو إطلاق المسيرّات إلى أجوائها والتي نسبتها إلى إيران؛ اذ من المتصور أن ثمة تطورات أخرى قد تشكل دوافع جديدة لدى إسرائيل لتكثيف الهجمات على سوريا، كجزء من خطة عمل قابلة للتوسع كسيناريو محتمل حال خروج الأمور عن السيطرة بين الطرفين.
أهداف إيران وخطوط إسرائيل الحمراء
يبدو أن أهم تلك التطورات هو مسعى طهران إلى بناء شبكة دفاع واسعة في سوريا تمنحها القدرة على الحركة بشكل كبير. وسربت تقارير أمريكية، منها تقرير لمجلة نيوزويك نقلًا عن مصادر استخبارية، تأكيدات على التوجه الإيراني بنشر منظومات دفاع جديدة، وأنه بالفعل تم نقل الدفعة الأولى منها خلال فترة الزلزال الذي تعرضت له سوريا الشهر قبل الماضي.
لكن هيئة الإذاعة الإيرانية قطعت الشك باليقين (24 فبراير 2023) عندما أشارت إلى أن طهران ستورد صواريخ أرض-جو إلى سوريا لمساعدتها في تعزيز الدفاعات الجوية في مواجهة الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة، وأن سوريا بحاجة إلى إعادة بناء شبكة دفاعها الجوي وتطلب قنابل دقيقة لطائراتها المقاتلة. وألمحت هيئة الإذاعة آنذاك إلى أنه “من المرجح أن نشهد إمدادات من إيران بالرادارات والصواريخ الدفاعية، مثل نظام 15 خرداد، لتعزيز دفاعات سوريا الجوية”. وذلك في إطار التعاون الدفاعي المشترك بين البلدين.
ترى إسرائيل من جانبها أن إيران بهذا التطور تتجاوز الخطوط الحمراء، وأنها تسعى إلى تغير هيكل موازين القوى في الساحة السورية. وقد دعم هذه النظرية السفير الأمريكي السابق لدى سوريا والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن “روبرت فورد” فقال: “إن أكثر الأوقات خطورة في صراع منخفض المستوى هو عندما يتغير توازن القوى ويُفرض خط أحمر جديد”، في إشارة إلى الوضع الحالي في سوريا. وأضاف “بينما تخفض روسيا قواتها، يزيد الحرس الثوري الإيراني من وجوده، وتدرك إسرائيل ازدياد التهديد الإيراني تدريجيًا، سواءً من البرنامج النووي، أو من البرنامج الصاروخي الإيراني في سوريا، ولا أقصد بذلك أن الحرب الشاملة ستبدأ على الأرجح في سوريا الأسبوع أو الشهر المقبل. لكن، مع ذلك، من الممكن أن تتجاوز أي من هذه البلدان الخط الأحمر عن غير قصد، وتفجير تصعيد لا تريده أي من البلدان حقًا”.
الموقف الأمريكي من التصعيد
ينسجم هذا التصور الذي طرحه “فورد” مع متغير في الخطاب الإسرائيلي وتطوير معادلة الاشتباك، من استهداف إسرائيل لقوافل الأسلحة الإيرانية إلى سوريا إلى السعي إلى إخراج إيران وحزب الله من سوريا وفق ما أعلن عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوأف جالانت مؤخرًا، والذي أورد في تصريحاته كذلك أن إسرائيل ربما تواجه حرب استنزاف من إيران من خلال الساحة السورية؛ في دلالة على احتمال تطوير إسرائيل للتصعيد ضد إيران على الساحة السورية، لمواجهة تمدد البنية العسكرية الإيرانية في مواقع جديدة لاسيّما شرق سوريا.
يمكن تصور مؤشر آخر على متغير معادلة الاشتباك، هو معادلة الاشتباك الإيرانية – الأمريكية الموازية على الساحة السورية؛ فقد سبق جولة التصعيد الإسرائيلية جولة تصعيد إيرانية أمريكية في الشمال الشرقي السوري، حيث شن الحرس الثوري الإيراني هجومًا بخمسة صواريخ على مواقع انتشار القوات الأمريكية في حقل نفط “كونيكو” إضافة إلى هجوم بطائرات “شاهد 131” على معسكر للجيش الأمريكي في القرية الخضراء قرب دير الزور، ما أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي وجرح 5 من القوات الأمريكية. وفي المقابل ردت القوات الأمريكية بهجوم مضاد على مركز قيادة إيراني ومواقع لتخزين أسلحة إيرانية في دير الزور والميادين. وفي تلك الأثناء أكد رئيس الحرس الثوري الإيراني أولًا على مشروعية التحركات وتطور مظاهر الانتشار العسكري الإيراني في سوريا لإسناد النظام السوري في إطار التعاون الدفاعي المشترك والمعلن بين الطرفين.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية أكدت أنها لا تسعى إلى تطوير مسار التصعيد مع الجانب الإيراني في سوريا أو في غيرها من المناطق في الشرق الأوسط، تعقيبًا على تلك الهجمات، إضافة إلى التأكيد على أن المهمة الأمريكية في سوريا تنحصر في استمرار الحرب على تنظيم داعش حيث تقود واشنطن تحالفًا دوليًا لهذا الهدف؛ فإن موقف البنتاجون يعكس نظرة مختلفة لهذا المسار، دلالة ذلك تصريحات الجنرال مايكل كوريلا قائد عمليات القيادة الوسطى الأمريكية في الشرق الأوسط في لجنة استماع بالكونجرس (26 مارس) والتي أكد فيها أن ما تقوم به ايران ووكلاؤها في سوريا هو نوع من أعمال الحرب ضد الولايات المتحدة، وكشف كوريلا عن إن القوات الأمريكية تعرضت لهجوم من جماعات تدعمها إيران نحو 78 مرة منذ بداية 2021. وربما ينظر إلى أن كلا من واشنطن وتل أبيب قد لا تتفقان على تشارك أو تنسيق الهجمات في سوريا، إلا أنهما تلتقيان في تقويض التمدد الإيراني على الساحة السورية.
من الأهمية بمكان في هذا السياق تسليط الضوء على الموقف الروسي في إطار متغير معادلة الاشتباك، فمن الواضح أن موسكو ربما تركز في المرحلة الحالية على ترتيبات سياسية يمكن أن تنعكس في شكل ترتيبات أمنية أيضًا في المرحلة المقبلة بين حلفائها في سوريا (إيران وتركيا)، ومع ذلك توظف إيران هذا التوجه بشكل استباقي؛ ففي الوقت الذي تخفض فيه موسكو انتشارها العسكري نسبيًا، فإن إيران تسعى إلى ملئ فراغات الغياب الروسي، كنقاط تمركز الشرطة العسكرية الروسية.
ذلك فضلًا عن توجه إيران إلى بناء شبكة دفاعية يأتي على خلفية سحب موسكو بعض أنظمة الدفاع وتوجيهها إلى الساحة الأوكرانية، وما تبقى في سوريا يغطي مراكز الوجود الروسي في قاعدتي “حميميم” الجوية و”طرطوس” البحرية”. إلى جانب ذلك يتضح أن إسرائيل هي الأخرى تلتفت لهذا التطور، على سبيل المثال لم تكن موسكو تعترض الهجمات الإسرائيلية على سوريا، لكن الجديد في هذا السياق هو تقلص زمن الإخطار من الجانب الإسرائيلي لدى روسيا بالقيام بهجوم من ساعة إلى بضع دقائق.
في الأخير، من المتصور أن الترتيبات السياسية والأمنية السابقة التي أشرفت عليها موسكو، مثل مسار خفض التصعيد في إطار اتفاق “سوتشي-2018” لم تشكل متغيرًا في الموقف الإسرائيلي تجاه الوجود الإيراني في سوريا، لكن الترتيبات الحالية التي تجري في موسكو سيواكبها متغيرات جديدة في معادلة الاشتباك متعددة الأطراف. مع الأخذ في الحسبان أن حسابات الرئيس السوري ربما لم تكن تميل إلى هذا الاتجاه، بل على العكس من ذلك سعى خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو إلى التأكيد على زيادة الوجود العسكري الروسي في سوريا، لكن يعتقد أن روسيا تميل إلى عدم تشتيت جهودها وقدرتها بالتركيز على الساحة الأوكرانية، وأن ما ستبقي عليه في سوريا سيكون في حدود حساباتها الاستراتيجية الخاصة بتأمين وجودها دون الانخراط في صراعات القوى الإقليمية، وتحويل فائض جهودها إلى دور الوسيط لترتيب العلاقات متعددة الأطراف.
.
رابط المصدر: