صرّح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مؤخرًا بنية إسرائيل مساعدة أوكرانيا عسكريًا في حربها أمام روسيا، ثم أضاف استعداد إسرائيل التوسط بين الطرفين لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية.
ويعد هذا التصريح السياسي بشأن مساعدة أوكرانيا عسكريًا هو الأول لنتنياهو منذ وصوله إلى الحكم، والأول منذ الضربة المنسوبة لإسرائيل للمصنع الإيراني في أصفهان.
أولًا: الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا
شهدت حكومة بنيت-لابيد بداية الحرب في أوكرانيا (فبراير 2022)، وحينها حرصت إسرائيل على الاحتفاظ بعلاقة متوازنة مع أوكرانيا (عملاً بالالتزام القيمي أمام الولايات المتحدة تجاه معسكر الدول الغربية الديمقراطية)، ومن جهة أخرى مع روسيا من أجل تنفيذ توصيات الجيش الإسرائيلي الذي ارتأى أولوية ضمان استقرار واستمرار التحرك في الأجواء السورية لضرب الأهداف الإيرانية.
ولكن ما لبثت الحكومة الإسرائيلية أن واجهت ضغطًا أمريكيًا لوقف المواءمة السياسية مع روسيا، فاضطرت إسرائيل للإنخراط في حسابات الحرب الأوكرانية عن طريق منح كييف مساعدات إنسانية، ومساعدة اللاجئين الأوكرانيين من خلال الوكالة اليهودية في روسيا، وتسليم معدات عسكرية خفيفة، وتدريب المقاتلين الأوكرانيين المحسوبين على تنظيمات شبه عسكرية متطرفة مثل كتيبة آزوف.
حينها ظهرت التعليقات بشأن الضغط الأمريكي على إسرائيل بتسليم الجيش الأوكراني بطاريات القبة الحديدية لمواجهة الطائرات الروسية المتقدمة، ولكن عدته التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية خطًا أحمر لدى موسكو لا ينبغي تجاوزه بأي حال من الأحوال، خاصة مع تنامي ظاهرة اعتراض الطائرات الإسرائيلية في السماء السورية من قبل الدفاع الجوي الروسي، اتساقًا مع انتشار إيران في مواقع حساسة سورية تهدد الأمن القومي الإسرائيلي.
بعد انخراط إيران في الحرب الأوكرانية عن طريق طلب روسيا مساعدتها بتسلم طائرات إيرانية مسيرة لضرب الأهداف الأوكرانية العسكرية والمدنية، شعرت إسرائيل بتهديد بالغ من التقارب العسكري الإيراني-الروسي الملحوظ، المتمثل في إمكانية تسلم إيران خبرات فنية نووية روسية، وصواريخ فرط صوتية روسية، ودفاعات جوية متقدمة، وأخيرًا تزايد فرص تمويل مشاريع التصنيع العسكري الإيراني في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، واعتبار أوكرانيا ساحة لتجريب السلاح الإيراني المطور.
ولذلك، إذا ترددت إسرائيل سابقًا في منح أوكرانيا القبة الحديدية منعًا من استفزاز روسيا، وإلحاق ضرر محتمل بإسرائيل في سوريا، أو في تقاربها اللافت مع إيران، وبالتالي تضمن إسرائيل قناة اتصال مفتوحة ومستقرة مع الكرملين، وهو ما ظهر حقيقة في أول اتصال من الرئيس الروسي بوتين مع رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، واستغل نتنياهو الدعوة للتعبير عن قلقه من توسع العلاقات العسكرية بين روسيا وإيران، الذي قد ينتهي بتزايد فرص نقل تكنولوجيا المسيرات المتقدمة إلى وكلائها في المنطقة (حزب الله، والحوثيين بالتحديد).
وعليه، فستتردد إسرائيل أكثر حيال إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا في مواجهة روسيا حاليًا، لا سيما وأن البنتاجون الأمريكي بعد حادث أصفهان نفى صلته بالحادث، وسارعت التقارير الأمريكية “وول ستريت جورنال” إلى ربط مسئولية الحادث بإسرائيل. ومن المقدر أن انتقل انطباع لدى الدوائر السياسية الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة لا ترغب في التورط بأي أزمة منفلتة في الشرق الأوسط في الوقت الحالي لتركيز الانتباه في الحرب الأوكرانية فقط. وبما أن الولايات المتحدة نفت صلتها بحادث تفجير المصنع في أصفهان، فيبدو أن إسرائيل ترغب في خلق حالة من الاستقلال في التصرف العسكري ضد إيران، لمجموعة من الدوافع اللاحق ذكرها.
ثانيًا: دوافع إسرائيل في الوقت الحالي
يبقى السؤال حول الدوافع التي حفزت نتنياهو للتصريح بدراسة تسليم أوكرانيا منظومة القبة الحديدية، ويمكن رسم هذه الدوافع على النحو التالي:
1- رسم طابع مركزي للدور الإسرائيلي في الحرب:
بالنظر إلى أطراف الأزمة في أوكرانيا يمكن التقدير بأنهم هم: أوكرانيا، وروسيا، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية التي منحت أوكرانيا السلاح، وأخيرًا إيران (أهم دولة تساعد روسيا عسكريًا في الوقت الحالي). ويرى نتنياهو (الذي يسعى لرسم دور إقليمي وعالمي لنفسه) أن إسرائيل بعيدة عن مركز حسابات الصراع في أوكرانيا بالمعنى الحقيقي؛ نتيجة المواءمات الخجولة التي انتهجتها سابقًا، وعليه ترغب في التلويح بالانخراط بشكل معلن وواضح في حسابات الحرب عن طريق القبة الحديدية. والهدف هو توصيل رسالة سياسية إلى موسكو بأن إسرائيل ترغب في لعب دور الوساطة بين الأطراف، ويجب على موسكو دراسة هذه الرغبة الإسرائيلية بجدية؛ لأنه في حالة فشل هذا الدور فستدرس إسرائيل جديًا منح أوكرانيا القبة الحديدية.
تعتمد إسرائيل في سعيها للعب دور سياسي مركزي داخل شبكة أطراف الحرب، على: (1) اتصالها المفتوح مع الكرملين. (2) وإلحاح أوكرانيا على طلب المساعدة الإسرائيلية، بالإضافة إلى إعادة فتح سفارة إسرائيل في كييف. (3) وتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. (4) وعدائها الواضح مع إيران ورفضها انخراط طهران الآخذ في التعمق بحرب أوكرانيا. (5) والتحالف الاستراتيجي الذي يجمع إسرائيل بدول الاتحاد الأوروبي.
يتخطى الأمر فكرة محاولة إسرائيل لعب دور مركزي في شبكة حرب أوكرانيا سياسيًا، ليصل إلى احتمالية لعب دور مركزي في مجال الدفاع والأمن. إذ يتسق اهتمام إسرائيل بما يجري في الساحة الأوكرانية مع رغبتها بأن تكون القبة الحديدية هي منظومة الدفاع الجوية الرسمية في أي تحالف إقليمي أمني محتمل في الشرق الأوسط بهدف ترسيخ دمجها في الإقليم؛ لا سيما وأن المتغير الجديد والحاسم نوعًا ما في الحرب الأوكرانية هي المسيرات الإيرانية، وهو المتغير ذاته الذي يزعزع معادلة الأمن في الشرق الأوسط.
2- وقف الحرب في أوكرانيا:
تأخذ الحرب في أوكرانيا كثيرًا من الانتباه لدى واشنطن، والذي يدفعها لتأجيل مواجهة أي تطور في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحالي، منعًا للتورط في أي أزمة إقليمية غير مرغوبة. بالإضافة إلى أن الحرب تأخذ كل الجهد السياسي والحربي لروسيا بطبيعة الحال، مما دفع موسكو لسحب بطاريات دفاع جوي من سوريا وترك فراغ أمني تستغله إيران، انعكس في اعتزام طهران تدشين مناورات عسكرية مع الجيش السوري في سوريا، وزيادة عدد المقاتلين التابعين لحزب الله في مناطق قريبة من هضبة الجولان.
لذا من مصلحة إسرائيل أن تتوقف الحرب في أوكرانيا وفق الحسابات الأمنية فقط؛ وذلك من أجل استعادة الانتباه الروسي والأمريكي مرة أخرى لمعادلات الأمن في الشرق الأوسط، مستدلة إسرائيل بما قد يتفلت من أزمة على غرار ما حدث في أصفهان الذي يبدو منه اعتزام إسرائيل الحفاظ بحق تنفيذ ضربات عسكرية بشكل مستقل على نحو ما (هذا في حالة ثبوت تورط إسرائيل بالفعل).
3- العودة مرة أخرى إلى مربع الصراع الإسرائيلي-الإيراني:
يتسبب استمرار الحرب في أوكرانيا في منح إيران الهامش في زيادة حركتها في المنطقة، وفي تسريع عملية تخصيب اليورانيوم وتطوير القدرات العسكرية الهجومية بمستويات متقدمة تتجاوز الخطوط الإسرائيلية الحمراء. علاوة على أنه في عقب ضرب أصفهان، سافر وزير خارجية قطر إلى طهران لتسليم رسائل من أطراف المباحثات النووية لإحياء التفاوض، وعبّر وزير خارجية إيران عن ترحيب طهران بعقد علاقات جيدة مع دول الخليج، وهو ما يعني أن هناك احتمالات متنافسة بوجود تطبيع إيراني خليجي في مرحلة ما، وهو ما تراه إسرائيل حجر عثرة أمام التطبيع الإسرائيلي-العربي الذي يعتمد في سيره على وقود الصراع الإسرائيلي-الإيراني.
تزامن الأمر مع موجة اضطراب أمني غير مسبوقة في الضفة الغربية وضواحي القدس الشرقية، نجم عنها تشديد أمريكي على ضرورة حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وعودة الولايات المتحدة مرة أخرى لتبني خطاب قيمي تشير فيه إلى قيم الديمقراطية وتبني الخيار السلمي في التعامل مع الفلسطينيين.
ثالثًا: تقييم الموقف الإسرائيلي
ينتفي مبدأ “المركزية” في حالة ثبوت وجود بديل آخر لهذا المركز، لا سيما إذا تراكمت لديه خيوط للعبة أكثر من نظرائه. وذلك يعني أن إسرائيل ستتعثر في تحقيق رغبتها بالوساطة بين روسيا وأوكرانيا في حال وُجِد بديل لها. ومن هنا، تتوفر لدى دول أخرى مزايا دور الوساطة، وهي تركيا على سبيل المثال لا الحصر.
نجحت أنقرة في الاحتفاظ بعدد كبير من خيوط الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ (1) حيث يتبدى تفاهم ملحوظ بين روسيا وتركيا في عدة ملفات وكذلك الحال مع أوكرانيا، مثل الوساطة في اتفاق شحن الحبوب بين روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى تدشين ممر جديد لشحن الأسمدة والأمونيا. (2) الضغط على أوروبا الممثلة في الناتو بالتحديد في مسألة ضم السويد وفنلندا لدول تحالف الناتو. (3) جوار مستقر مع إيران نشأ من خلال علاقات جيدة، كما يجمعهما منصات سياسية متعددة، من بينها منصة سوتشي لبحث الأزمة السورية. يتبقى فقط الولايات المتحدة التي تجمعها مع تركيا علاقات متوترة في الفترة الأخيرة بسبب التقارب الاقتصادي بين روسيا وتركيا. (4) لكن تسعى تركيا لموازنة الأمر من خلال تحضيرها لعقد قمة للغاز الطبيعي، سيحضر فيها الدول الأوروبية المصدرة والمستوردة ودول شرق المتوسط ودول القوقاز وبحر قزوين؛ ينتهي هدفها النهائي أن تصبح تركيا محورًا مهمًا للغاز الطبيعي إلى السوق الأوروبية غير الراغب في شراء الطاقة من روسيا.
يمكن القول في هذا السياق، إن تركيا تمتلك قدرة أكبر في إنجاح دور وساطة إذا تقدمت به، عن قدرة إسرائيل ورغبتها في لعب دور غير مكتمل في الوساطة، خاصة بعد أن ردت روسيا على تفجير أصفهان بأنه عمل “إرهابي”، ليعقبه بيان روسي يحذر فيه من الخطوات الاستفزازية التي يمكن أن ينتج عنها عواقب غير متوقعة. وكان قد حذر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيدف في أكتوبر الماضي، من أن إرسال أسلحة إسرائيلية إلى أوكرانيا سيدمر العلاقة بين روسيا وإسرائيل. علاوة على أن وزارة الخارجية الروسية ردت على إسرائيل بأن أي قطعة سلاح سيتم إرسالها إلى أوكرانيا ستلقى تصرفًا عسكريًا روسيًا.
في حال تخطت إسرائيل المحاذير الروسية وأرسلت القبة الحديدية إلى أوكرانيا، فلن تتمكن إسرائيل من فتح خيارات كثيرة لمواجهة رد الفعل الروسي الغاضب. أما في الواجهة الأخرى، فتمتلك موسكو خيارات مفتوحة ضد إسرائيل، فيمكنها أن تتحرك في سوريا ضد المصالح الإسرائيلية عن طريق السماح لإيران بمزيد من النشاط، أو منح إيران تكنولوجيات عسكرية متقدمة قد تزيد من قوة إيران الهجومية، آخرها كان تسليم روسيا لطهران طائرات السوخوي-35.
ختامًا، يمكن القول إن تصريح نتنياهو بدراسة مد أوكرانيا بالأسلحة يأتي مدفوعا بعدد من الدوافع ولكن يعرقله عدد آخر من الاعتبارات السياسية والأمنية، وعلى رأس الاعتبارات السياسية هي أن إسرائيل لا تمثل عقدة مركزية في شبكة حسابات الحرب الأوكرانية، أي لا تمتلك علاقات مستقرة مع كل الأطراف، لا سيما وأن الولايات المتحدة تريد من إسرائيل أن يقتصر دورها حاليًا على إرسال السلاح. وعلى رأس الاعتبارات الأمنية هي أن احتمالية فشل القبة الحديدية أمام المسيرات الإيرانية مطروحة وغير مستبعدة، بالإضافة إلى أن احتمالية تسرب التكنولوجيا الدفاعية الإسرائيلية إلى روسيا وإيران قد تكون واردة أيضًا. لذا، يبقى هدف نتنياهو من هذا التصريح هو أن تعيد موسكو النظر في تقاربها العسكري مع طهران.
ويبقى هناك محدد مهم في تفسير التحركات الإسرائيلية، وهو حرصها على أن تظل رأس حربة في مواجهة إيران في أي ساحة صراع، وأن تحول تكنولوجيتها العسكرية إلى أصل استراتيجي في أي معادلة أمن خاصة في الشرق الأوسط، مستغلة زيادة الأصوات داخل الكونجرس الأمريكي بتجميد التعاون الأمريكي السعودي في تطوير أنظمة دفاع جوي ذكية اصطناعيًا لمواجهة المسيرات (مركز ريد ساندز الأمريكي على الأراضي السعودية).
.
رابط المصدر: