معضلة الاستقرار: ملامح ومحفزات التوترات الأمنية في جنوب السودان

شيماء البكش

 

منذ استقلال جنوب السودان، وتشكل حالة الأمن المعادلة الأصعب ضمن ترتيبات الانتقال نحو بناء الدولة. وبعد سنوات من الحرب الأهلية والصراع المسلح، أرسى اتفاق السلام المنشط لعام 2018 الأساس لترتيبات دستورية وأمنية من شأنها إنهاء كافة مظاهر الانقسام والتناحر بين كافة فصائل السياسية والمجتمعية. وبعد فترة من الاستقرار النسبي، شهدت خلالها تشكيل الحكومة الانتقالية في فبراير 2022، وفق الاتفاق بين رئيس الدولة سلفاكير ونائبه رياك مشار، والمدفوع بالضغوط والتهديدات الدولية، عادت الانقسامات السياسية والصراعات القبلية إلى صدارة المشهد في جنوب السودان، على نحوٍ ينذر بتقويض اتفاق السلام المنجز بشق الأنفس. وفي ضوء ذلك، اتسعت خريطة العنف على مدار عام 2022 وتقاطعت مع التباينات العرقية والسياسية بطريقة فاقمت من الصراعات الممتدة على طول البلاد.

أولًا: خريطة العنف والاضطرابات الأمنية

شهدت معظم ولايات جنوب السودان صراعات متعددة الدوافع خلال العام الماضي، والتي كان أبرزها الصراعات بين المليشيات والفصائل المسلحة والتابعة للنخب السياسية المتناحرة، والتي وفرت بدورها إلى جانب العوامل المتعلقة بالتداعيات السلبية للظواهر المناخية؛ بيئة ملائمة لتنامي الصراعات القبلية القائمة على التنافس حول ملكية الأراضي والسيطرة على الموارد. ويمكن تناول أبرز هذه الصراعات بإيجاز على النحو التالي:

 ولايتا أعالي النيل وجونجولي:

شهدت قرية تونجا بولاية أعالي النيل في أغسطس 2022، صراعًا مسلحًا، امتد إلى المناطق الشمالية لولايتي جونجولي والوحدة، مما أدى إلى 166 قتيلًا و237 جريحًا وما بين 20000 إلى 50000 نازح و3000 لاجئ داخلي. وكانت التعبئة والمواجهات داخل فصيل الحركة الشعبية المعارضة أبرز ما شهدته الولاية خلال العام الماضي، أحد عوامل عدم الاستقرار على طول الحدود بين أعالي النيل وجونجولي؛ إذ هاجمت قوات موالية للجنرال “سيمون جاتويك دوال” والمنضوية تحت فصيل “كيتوانج” بالحركة الشعبية- المعارضة، قوات “أجويليك” من نفس فصيل “كيتوانج” موالية للجنرال “جونسون أولوني”، في بانيكانغ بأعالي النيل.

وجاءت هذه الاشتباكات رغم توقيع كل من جاتويك وأولوني، المنشقين عن رياك مشار، اتفاقًا مع الرئيس سيلفاكير في يناير 2022، بموجبه يتم وقف إطلاق النار، ودمج قواتهما في القوات الخاصة خلال ثلاثة أشهر، فضلًا عن الوعود بحسم الجدل حول مدينة ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل. وفي جونجلي، تصاعد القتال بسبب التعبئة بين شباب النوير المسلحين، على خلفية عبور الرعاة بالماشية إلى منطقة بور، والتي أتلفت المحاصيل الزراعية في طريقها قبل أن تعود مرة أخرى إلى جونجولي؛ مما فجر الصراع في مدينة مانجالا الاستوائية.

ولايتا الوحدة وواراب:

بعد إعلان جاتويك في أغسطس الماضي تنصيب نفسه رئيس أركان الحركة الشعبية المعارضة بدلًا من مشار المتهم بالتفريط في مطالب النوير والشلك، هاجمت قوات مشار الفصيل المنشق عنه في “قاعدة ماجنيس” في ديسمبر 2021، مما أثار التوتر في الولاية. وسرعان ما تنامى الخلاف أيضًا بين جاتويك وأولوني وهو ما ساهم في المواجهات التي شهدتها ولاية أعالي النيل كما سبق الذكر، على خلفية تحفظات أولوني على إلحاق المعارضين الآخرين غير الموقعين على اتفاق السلام؛ وهو الموقف الذي أثار حفيظة جاتويك باعتباره انحيازًا من أولوني للرئيس كير بعد وعوده بحسم مظالم الشلك الذين ينتمي إليهم أولوني في ملكال.

وقد سبقت المواجهات بين فصائل المعارضة المنشقة منذ أغسطس الماضي، مواجهات بين قوات مشار وقوات سلفاكير في نهاية مارس الماضي، وانسحاب الحركة الشعبية المعارضة من الهيئة المشرفة على عملية السلام، مما أدى لتجدد الاشتباكات. ورغم مساهمة الضغوط الدولية والوساطة السودانية في دفع الطرفين لتوقيع وثيقة “هيكلة القيادة العليا في جميع القوات النظامية” ضمن بند الترتيبات الأمنية، في الثالث من إبريل الماضي، لكن سرعان ما تجددت الاشتباكات بينهما في الثامن من إبريل حول معسكر “كوتش ميرمير” الذي يضم قوات موالية لمشار في ولاية الوحدة.

وفي الرابع عشر من إبريل 2022، تم الإعلان عن تشكيل القيادة الموحدة للقوات النظامية، والمنوط بها تخريج دفعات من القوات المشتركة وإعادة انتشارها، في خطوة متأخرة ومدفوعة بالضغوط الخارجية، ويثير تنفيذها استقطابًا متزايدًا بين النخب السياسية والعسكرية لتأمين مشاركتها في هيكل القيادة ودمج قواتهم ضمن القوات النظامية قيد التشكيل. وفي أغسطس الماضي، تجددت الاشتباكات مقاطعة تويك في واراب ومستوطنة آنيت في منطقة أبيي الإدارية إلى تشريد ما يقرب من 3500 شخص، مما أدى إلى نشر قوات الدفاع الشعبي للبلاد لنزع سلاح المجتمعات المحلية لردع العنف.

 ولاية وسط الاستوائية:

نشبت مواجهات مسلحة بين فصائل المعارضة، خاصة جبهة الإنقاذ الوطني بقيادة توماس سيريلو، عضو تحالف حركة المعارضة (SSOMA)، هذا بالإضافة إلى النزاعات بين المزارعين والرعاة في الولاية، الذي أسهم في أعمال الاختطاف والقتل الانتقامي في الولاية، على الرغم من الأوامر الرئاسية بإخلاء الولاية. وقد أدت المواجهات بين جبهة الإنقاذ الوطني NAS وقوات الأمن في أكتوبر 2022، إلى ازدياد مستويات انعدام الأمن في مقاطعة نهر ياي، ونسب عمليات الاختطاف والقتل لعناصر NAS، مما أثار الذعر بين السكان المحليين.

ثانيًا: محفزات ودوافع العنف والصراع

ما بين الانقسامات بين النخب السياسية وفصائلها المسلحة، وما بين المجتمعات القبلية المتشاحنة على الموارد والأراضي، تتنوع وتتعدد دافع الصراع المتنامي في البلاد:

الخلاف حول الترتيبات الأمنية:

يعكس الصراع في أعالي النيل على وجه التحديد، أبرز تجليات الخلافات المتعلقة بالترتيبات الأمنية. فعلى سبيل المثال ساهم الاتفاق الذي أجراه كير مع الفصيلين المنشقين عن مشار، بدمج قواتهما في الجيش وحسم النزاع على السيطرة على مدينة ملكال المتنازع عليها بين الدينكا والشلك في تأجيج التوترات بين قوات كير ومشار، كما وفر أرضًا خصبة لصراعات مفتوحة حتى داخل قوات المعارضة نفسها على خلفية تنازع الولاءات والاستعداد لانشقاقات متتالية.

كانت صراعات النخب والفصائل والانشقاقات المتتالية والمرتكزة على أساس عرقي ومناطقي حاضرة في قلب محفزات الصراعات المتنامية على كافة أرجاء البلاد؛ فحفز اتفاق السلام المنشط بين كير ومشار، انشقاق فصائل كانت موالية للأخير، مثل فصيل كيتوانج بقيادة “سيمون جاتويك” التابع لعرقية النوير، والمتشدد في أهمية دمج كافة قوات المعارضة من النوير في الجيش وليس قوات مشار فقط، فيما كانت الكتلة المنشقة الثانية بقيادة “جونسون أولوني” والتابعة للشلك والتي تطالب بشكل رئيسي بالسيطرة على مدينة ملكال، واللذين تحالفا معًا وأسسا قاعدة “ماجنيس” بالقرب من الحدود السودانية، خاصة بعدما فشل مشار في الوفاء بوعده بتعيين أولوني واليًا على أعالي النيل كتثبيت لحقوق الشلك في الولاية.

محدودية الالتزام السياسي بمسار السلام:

بجانب الخلافات حول تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية، غابت الإرادة السياسية لدى النخب، فإن ضعف ولاية وزارة بناء السلام ومحدودية مواردها، يحد من دورها في نشر السلام من خلال المؤتمرات التصالحية بين المجتمعات المحلية. وكان المتوقع أن يسد من هذه الفجوة الشروع في التخريج الفعلي للقوات المشتركة، ففي أغسطس 2022، حيث تم تخريج الدفعة الأولى من القوات الموحدة في منطقة الاستوائية الكبرى بإجمالي 26184 جندي تخرج في جوبا ومريدي وتوريت. وفي منطقة بور بولاية جونجولي تم تخريج 1007 جندي، وفي نوفمبر تخرج 13491 جندي في واو بولاية بحر الغزال، و1366 جنديًا في مدينة موم بولاية الوحدة و9.958 في ملكال بأعالي النيل.

هذا إلى جانب تحالف المعارضة الغير موقع على اتفاق السلام، والذي رغم إبدائه الانفتاح على إجراء محادثات للسلام في أكتوبر الماضي مع الحكومة بمشاركة بعثة الأمم المتحدة، إلا أن وزير شؤون الرئاسة بارنابا ماريال بنيامين، أعلن في نوفمبر الماضي تعليق المحادثات مع فصيل المعارضة بقيادة توماس سيريلو. وقد أدى الخلاف بين جاتويك وأولوني بعد تخريج دفعة من القوات المشتركة، في أكتوبر 2022، مكونة من 500 فرد من قوات أولوني بموجب الاتفاق بينه وبين كير، إلى إعلان فصيل كيتوانج بقيادة جاتويك، معارضة إقامة الانتخابات في هذا الواقع وتحالفه مع فصائل المعارضة لمواجهة كير.

الصراعات على الموارد والأراضي:

واحدة من محفزات الصراعات المحلية تكمن في التنافس على الموارد المحدودة وملكية الأرض، وهو ما تجلى في النزاع على وضعية ملكال في ولاية أعالي النيل بين الدينكا والشلك، بما وفر أرضًا خصبة وظفتها قوات كير ومشار. فيما تفاقم الظروف المناخية من حدة المعاناة الإنسانية وتضغط على الموارد، إذ أثرت الفيضانات على ولايات جونجولي وبحر الغزال وأعالي النيل وواراب وغرب الاستوائية وولايات البحيرات ومنطقة أبيي الصراع في ولاية جونجولي بين النوير والمورلي إلى أحد أوجه الصراعات على الموارد والأراضي، والذي ساهم في الحشد والتعبئة بين شباب النوير.

كذلك، استند النزاع الذي شهدته مقاطعة تونج الشرقية بولاية واراب إلى العنف والانتقام القبلي بين مجتمعي لوانيانج والباك، إذ شنت المجتمعات هجمات انتقامية ردًا على أحداث في عام 2020. وجدير بالذكر أن نزوح السكان من مناطق الصراعات يؤجج الصراع في المناطق التي انتقلوا إليها، نظرًا للضغط والتنافس القبلي على الموارد. فالصراع الذي دار بين الجماعات العرقية في مقاطعة تويك بواراب وآنيت في أبيي، دفع إلى نقل النازحين من آنيت إلى مانييل ومايوم ومادينج وأنييل كوتش وريكاين في مقاطعة تويك، وقد أدى وصولهم إلى تفاقم الوضع الإنساني الهش بالفعل في مقاطعة تويك، التي تستضيف ما يقرب من 29000 شخص من المتضررين من الفيضانات.

في الأخير، يُعد الصراع بين النخب السياسية عاملًا مغذيًا للصراعات والمظالم المجتمعية بشكل يؤجج من الوضع غير المستقر بالأساس، بل إن هذه الصراعات السياسية قد توفر الأساس لانتكاسات ومن ثم تقويض ترتيبات السلام الهشة، مما يؤدي إلى العودة للمربع الأول من الصراع الأهلي، وهو الوضع الذي تنعدم معه ليس فقط فرص الاستقرار السياسي والمؤسسي ومن ثم المضي قدمًا في تحقيق أهداف بناء الدولة، وإنما قد تنعدم معه فرص الاستقرار الأمني على نحوٍ قد يُنذر بفشل الدولة الهشة بالفعل، وهو الأمر الذي لن يرغب فيه الشركاء الإقليميون والدوليون.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32799/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M