هل تدخل روسيا من باب التجارة في التنافس على إفريقيا؟

عبيد اميجن

كانت إفريقيا في القرن العشرين خلفية للقوى الأوروبية وخصومها، وها هي في القرن الحادي والعشرين تتحول إلى فناء خلفي للقوى الصاعدة ومنافسيها، فمنذ بداية الألفية الجديدة؛ طوَّرت الصين والبرازيل والهند وتركيا وروسيا..إلخ، علاقات جديدة ومتعددة الأبعاد مع البلدان الإفريقية، بما في ذلك العلاقات العسكرية وتجارة الأسلحة. فإفريقيا هي المكان الذي تنبعثُ فيه مقدرات القوى الصاعدة، وتظهر قوتها التجارية والدبلوماسية قبل أن تقتحم ميدان المنافسة الشرس، فحتى إن وريث ثاني قوى عظمى سابقة (روسيا الاتحادية) اختار إعلان عودته من خلال الدعوة إلى قمة ومنتدى سوتشي على البحر الأسود حيث انعقدت “بنجاح” لقاءات الرئيس، فلاديمير بوتين، مع قادة ورؤساء الحكومات الإفريقية. في هذه القمة، ظهر تعطش موسكو للتبادل التجاري مع إفريقيا بالرغم من إدراكها الكامل لطبيعة اللعبة على أديم القارة، وحيث تنتصب الصين على رأس قائمة الشركاء التجاريين بوصفها أكبر مانح على مستوى القارة على مدار العشرين عامًا الماضية، فهل تقوى روسيا الاتحادية على مواجهة القوى الصاعدة داخل الأسواق الإفريقية أم إنها تتحرك بناء على رغبتها في مواجهة الغرب في قارة المستقبل؟

من الملاحظ أن موجة الربيع العربي التي انطلقت شرارتها الأولى من الشمال الإفريقي، في سبتمبر/أيلول 2010، قد منحت روسيا الاتحادية مقدرة ومرونة ضمنتا لها إعادة التموقع بسهولة ضمن الفاعلين الأساسيين في السياسة العالمية، فبعدما ظلت موسكو محصورة بين العقوبات الغربية والركود الاقتصادي والمالي؛ حيث يتحتم عليها الانكماش في زاوية الخريطة العالمية، عاد الرئيس فلاديمير بوتين ليُغذي طموحات الروس المتعطشة لرؤية بلادهم وهي تتمتع بمميزات موقعها في قلب العالم.

مارس الرئيس الروسي جهودًا مضنية لاستعادة ما يراه المكانة المناسبة لبلاده كقوة عظمى ضمن المنحى الاستراتيجي الدولي، فموسكو باتت على قناعة بأنه بفضل التدابير العملية التي يسلكها رئيسها القوي فإنه ليس بالإمكان تجاهلها كفاعل أساسي على صعيد الأمن الاقليمي وتعزيز الاستقرار الدولي. ولا يرغب الروس في أن يتجاهل العالم “النتائج الحاسمة” للتدخل الروسي لصالح الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي كان نظامه السياسي عرضة للانتفاضات الشعبية في كافة المحافظات السورية، والتي سرعان ما تحولت إلى ثورة مسلحة لإسقاط النظام وأجهزته بواسطة مجموعات المعارضة السورية المدعومة عسكريًّا من قبل التحالف الدولي لولا التدخل الروسي.

ينظر الخبراء في منطقة الساحل التي تمتد من غرب إفريقيا إلى شرقها، انطلاقًا من السنغال وصولًا إلى جيبوتي، باهتمام إلى الدور الروسي الحازم من أجل كبح جماح التهديدات الإرهابية في الشرق الأوسط باعتباره مؤشرًا دالًّا على بروز قوى إقليمية يمكنها أن تنضاف إلى التحالف من أجل مساعدة منطقة الساحل التي تشهد بدورها تنامي التمردات العسكرية والجريمة المنظمة، وخاصة على ضوء تذمر الأوساط السياسية الإفريقية جرَّاء إحجام الولايات المتحدة عن دعم القوة المشتركة التابعة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، وشُحِّ الموارد الفرنسية المقدمة في هذا السياق. وعلى هذا الأساس، لا يُخفي الأفارقة امتعاضهم من الارتهان السياسي لدى الغرب وتضايق الشعوب الإفريقية من التبعية المالية للصينيين. وانطلاقًا من رؤية الأفارقة، وهم يبحثون عن الدعم اللوجيستي للجيوش من أجل إخماد الصراعات والحروب المتفاقمة في مناطق القارة، قام الخبراء الروس بتصميم سياسات تهدف إلى إعادة بلادهم إلى مواقعها الموروثة عن الحقبة السوفيتية بشكل يتسق مع الطموح “البوتيني” القاضي بإعادة هندسة روسيا كقوة إقليمية. وقد وصفت صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” الروسية الشعبية هذا التحول بما يلي: “تلعب روسيا الآن دور الوسيط الدولي وصاحب النفوذ، ولن تستطيع أي من القوى الاقليمية أن تتجاهل هذا الدور”(1).

ما هي الرؤى الروسية تجاه إفريقيا؟

الواقع أن الاستراتيجية الروسية بعيدة المدى لإيجاد موطئ قدم لها بإفريقيا، لم تولد مع قمة سوتشي الأخيرة، فالمبادلات التجارية بين روسيا وإفريقيا بلغت قيمتها في سنة 2018 عشرين مليار دولار، أي ما يعادل نصف قيمة المبادلات مع فرنسا وأقل بعشر مرات من المبادلات مع الصين. وحتى الآن، فإنه من بين المجالات النادرة التي تتصدر فيها روسيا السوق الإفريقية يَرِد بشكل أساسي ذكر تجارة السلاح، فروسيا “تصدِّر حاليًّا إلى الأسواق الإفريقية ما قيمته 25 مليار دولار من المواد الغذائية؛ وهو بالفعل أكثر مما تصدِّره من الأسلحة التي تشكل 15 مليار دولار”(2)، بحسب كلمة بوتين خلال افتتاح القمة الروسية/الإفريقية، ومن أجل تجسيد هذا الطموح تستخدم روسيا العديد من المزايا والأدوات الناعمة والتي ستمكنها من إعادة إحياء نفوذها التاريخي داخل قارة كانت تزدحم بحركات التحرر التي تستقي كثيرًا من قيمها الأيديولوجية من العقيدة السوفيتية. وعلى هذا الأساس، أبرزت صحيفة نيزافيسيمايا جازيتا اليومية الروسية أنه “خلال الحرب الباردة، كانت إفريقيا مسرحًا للمواجهة بين المعسكر الاشتراكي والدول الغربية. والآن، سيتعين على روسيا أن تنافس ليس الغرب الجماعي بقدر ما تنافس الصين التي رسَّخت وجودها بقوة في السنوات الأخيرة في القارة السمراء”(3).

من الناحية الاستراتيجية والأمنية، فإن القوى الإقليمية والدولية الأخرى كالولايات المتحدة لا تُبدي انزعاجًا ملحوظًا من عودة روسيا إلى إفريقيا فلا يزال مكمن الخطر الرئيسي بالنسبة لواشنطن كامنًا في تغول الصين التجاري والاقتصادي في البلدان الإفريقية؛ حيث تُظهر الصين قدراتها الاستثمارية الهائلة لتتحول إلى منافس رئيسي لا يرحم الغرب في هذه المنطقة من العالم. أما روسيا وغيرها من القوى الصاعدة التي ما زالت أدوارها السياسية والاستثمارية تتنامى فقد لا تكون مصدر ارتياب وإرباك إلا بالنسبة للأوروبيين وفرنسا بالتحديد. ذلك أنه لم تعد المنافسة الإسبانية أو الإيطالية هي ما يؤرِّق سياسات الإليزيه ولكنها هذه القوى الاقتصادية الصاعدة التي تحولت سريعًا إلى منافس شرس للقوى الإمبريالية السابقة داخل القارة الإفريقية(4). ويعكس الإعلام الفرنسي باستمرار مثل هذه الرؤى الفرنسية؛ ففي الوقت الذي كان الرئيس الروسي يستقبل القادة الأفارقة في مدينة سوتشي بالجنوب الروسي كانت قناة “تي في 5 موند” (TV5 Monde) تعيد تغطيتها للاحتجاجات المُنظمة في باماكو (مالي)، يوم 12 أكتوبر/تشرين أول 2019، من قبل “مجموعة الوطنيين الماليين” والتي رفعت خلالها شعارات معادية لفرنسا مع تحميلها مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في شمال مالي منذ 2012. وكان لافتًا مطالبة المتظاهرين بالاستعاضة عن القوى الاستعمارية السابقة وعن “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة والمتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” بالتعاون العسكري مع روسيا الاتحادية، وذلك على خلفية فاعلية التجربة الروسية خلال مواجهة المجموعات الإرهابية والمتمردة في سوريا.

من الواضح أن العروض الروسية في مجال الأمن والدفاع آخذة في الازدياد وخاصة على مستوى مبيعات الأسلحة، فوفقًا لرئيس القيادة الفيدرالية لنقل التكنولوجيا الفائقة فإن حجم شحنات الأسلحة الروسية إلى الدول الإفريقية سيتراوح ما بين 30 إلى 40 بالمئة من جميع صادرات الأسلحة الروسية في المستقبل المنظور(5). أما معهد ستوكهولم لبحوث السلام (SIPRI)، فإنه يرصد خلال الفترة الممتدة ما بين 2014 إلى 2018 أن صادرات الأسلحة إلى القارة الإفريقية باستثناء مصر في حدود 17% حتى الآن، ولكن من حيث الحجم والحضور فإن الصادرات الدفاعية الروسية إلى دول جنوب الصحراء تبقى قليلة نسبيًّا أما معظم هذه الصادرات فهو موجه إلى الجزائر، وتشير نفس الدراسة إلى أن الوضع يتجه إلى التغير ليشمل بقية البلدان الإفريقية وذلك على إثر إبرام الروس، سنة 2018، لعشرات اتفاقيات التعاون العسكري مع أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينافاسو وغينيا الاستوائية، وتشمل هذه الاتفاقيات حاجة الدول الإفريقية إلى الطائرات والمروحيات القتالية والمركبات والصواريخ المضادة للدبابات والمحركات النفاثة المقاتلة، بالإضافة إلى عينات حديثة من الأسلحة الخفيفة والكلاشينكوف(6).

ولا تقتصر العلاقات العسكرية والأمنية بين إفريقيا وروسيا على صادرات الأسلحة التقليدية فقد استطاعت روسيا، في يناير/كانون الثاني 2018، الحصول على موافقة أممية لتسليم الأسلحة إلى دولة إفريقيا الوسطى وتدريب الجنود على استخدامها، متجاوزة بذلك الحظر الأممي الصادر في 2013 عقب اندلاع الحرب الأهلية الدائرة بين الأعراق والملل الدينية المحلية. ولم تكتف موسكو بتصدير الأسلحة فقد تجاوز ذلك إلى استقدام القوات العسكرية الخاصة الروسية؛ فعلى سبيل المثال، ينشط “مستشارون أمنيون” مرتبطون بمجموعتي “باتريوت” و”فاغنر” الروسيتين الخاصتين في جمهورية إفريقيا الوسطى حيث تزعمان القيام بمهام حراسة السدود والمنشآت الحساسة وتأمين حكومة الرئيس، “فوشتين آرشانج توادييرو”، خلال مواجهتها للجماعات المتمردة(7).

يتزامن التدخل الروسي في إفريقيا الوسطى مع دراسة أعدها البنتاغون، وتقضي بسحب قوات “الأفريكوم” من إفريقيا تطبيقًا لاستراتيجية الأمن القومي التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتتضمن أيضًا سحب جنودها من الشرق الأوسط. ويهدف هذا الإجراء إلى التخفيف مما أسماه التقرير “استنزاف القوات الأميركية” والتحضير لمواجهة التهديدات الأمنية القادمة من الصين. فهل يمكن أن تكون هذه الاستراتيجية لا تلقي بالًا لتزايد النفوذ الروسي في إفريقيا؛ بحيث تسمح بتعزيز حضور شريك إفريقيا الجديد والذي يقدم نفسه كشريك بديل؟ ومن المفيد الإشارة إلى أن بعض التقارير الاستقصائية تتحدث عن تركز مرتزقة روس في السودان وليبيا وكذلك بلدان إفريقية أخرى، ومن اللافت إذن أن الأميركان لا يلقون بالًا حتى الآن لطموحات بوتين في إفريقيا(8).

لا تخفي روسيا حساباتها الدبلوماسية والسياسية حيال إفريقيا، فمنذ 2010 وهي تحاول توسيع جغرافية مصالحها السياسية في إفريقيا بما يتجاوز مناطق نفوذها السابقة (الجزائر، وإثيوبيا، وليبيا، وأنغولا..). وكانت مشاركة الرئيس بوتين في القمة العاشرة لبريكس 2018(9) بجنوب إفريقيا بداية حقبة جديدة تم على إثرها الإعلان عن منتدى وقمة التعاون الروسي-الإفريقي التي نُظِّمت في الفترة ما بين 22 إلى 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وبالطبع فإن هذه الدينامية الدؤوب تكشف عن محاولات الروس نسج شبكة من العلاقات الدبلوماسية مع القارة السمراء على أمل أن تسهم هذه الحسابات في دعم مصالحها الوطنية داخل أروقة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى، خصوصًا أن إفريقيا تمثل حوالي 25% من دول العالم.

على أن جزءًا من الاستراتيجية الروسية البعيدة المدى يرتبط بشمال إفريقيا حيث الشركاء التاريخيون للاتحاد السوفيتي (الجزائر وليبيا ومصر)، ولا يفوِّت فلاديمير بوتين الفرصة لتأكيد ذلك، ففي العام 2006، أعلن انطلاقًا من الجزائر عن التوجه الاستراتيجي لبلاده ناحية إفريقيا، ومنذ ذلك الحين تستأثر الجزائر لوحدها بحوالي 80% من مبيعات الأسلحة الروسية في إفريقيا. وفي العام 2008، فازت روسيا بعقود لتشييد السكك الحديدية في ليبيا لكن الثورة التي اندلعت في عام 2011 قوضت هذا الاستثمار. وفي مصر، سرَّع وصول الرئيس، عبد الفتاح السيسي، إلى السلطة في عام 2014 إلى تنشيط الشراكة التاريخية بين البلدين حيث تقوم بعض الشركات الروسية ببناء وتجهيز محطات لتوليد الطاقة النووية في مصر.

وهكذا، زادت روسيا من تنويع شركائها الأفارقة رغم العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب منذ خمس سنوات على موسكو، وتوَّجت جهدها بحشد المستثمرين الكبار -وليس فقط الشركات الصغيرة والمتوسطة- للمشاركة في منتدى سوتشي. وعلى هذا الأساس، وقَّعت مؤسسة التنمية الاقتصادية الروسية، “روسشونجريس Roscongress”، العديد من اتفاقيات التعاون مع عدد من الوكالات والغرف التجارية الإفريقية (مصر، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والنيجر، وبوركينافاسو، ومالي، وغيرها). كما تم إطلاق مشروع لبناء مجمع للبتروكيماويات بالمغرب بين بنك التنمية الروسي VEB والشركة المغربية MYA Energy حيث يكلف هذا المشروع حوالي 2 مليار يورو(10). وقد وقَّع نفس البنك مذكرة تفاهم أخرى مع شركة البترول الكونغولية من أجل بناء خط أنابيب للنفط. ومن الجدير ذكره أن روسيا باتت تتبوأ المرتبة الثانية عشرة من حيث عدد المشاريع في دولة جنوب إفريقيا (أقوى الاقتصادات الإفريقية)، كما تحتل المرتبة الخامسة من حيث حجم الاستثمارات في هذا البلد الذي يعد أقوى الاقتصادات الإفريقية على الإطلاق. أما على صعيد مناطق القارة الأخرى، فقد وسعت روسيا مصالحها في مجال الطاقة والمناجم؛ حيث يأتي اليورانيوم -العنصرَ الرئيسَ في صناعة الطاقة النووية- على رأس قائمة اهتماماتها. إن استراتيجية فلاديمير بوتين تتركز دائمًا على محاولة التأكيد على أن بلاده تختلف جذريًّا عن منافسيها الآخرين وخاصة القوة الشرقية (الصين والهند واليابان)، والغربية (الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي)، فبوتين يقدِّم بذكاء عرضًا “منخفض التكلفة” بناء على صيغة “رابح/رابح”، ويبدو حتى الآن أن هذه المقاربة قد واجهت نكسة واحدة، عندما رفضت جيبوتي مؤخرًا الطلب الروسي باستخدام جزء من القاعدة البحرية الصينية المقامة مؤخرًا(11).

هل تأتي النهضة الإفريقية على أيدي الدول الصاعدة؟

في السياق الحالي، حيث يسطع بريق القوى الجديدة وتتزايد شهيتها للوصول إلى الموارد الأولية الخام بإفريقيا كالمناجم والنفط والأخشاب وحتى بالنسبة للأراضي الصالحة للزراعة التي تميل أسعارها غير المُستقرة إلى الانخفاض، وكلها عوامل تدفع نحو تعزيز التنافس على أسواق الطاقة الإفريقية التي تمثل حوالي 12? من إنتاج النفط العالمي و10? من الاحتياطيات العالمية المؤكدة، كما يُسيل الوضع الديمغرافي لعاب القوى الدولية حيث يتوقع أن ينتقل سكان إفريقيا من مليار نسمة حاليًّا إلى 2 مليار في عام 2050.

في هذا السياق الجيوسياسي الجديد، تتجه إفريقيا إلى تنويع شركائها الكبار، فإلى جانب القوى الصاعدة والرائدة (الهند، وتركيا، والبرازيل) فقد اتجهت إلى تحديث الروابط التاريخية مع مناطق النفوذ الرئيسية في العالم (فرنسا، والولايات المتحدة، والصين، وروسيا..)، وقد شملت هذه الاستراتيجية الاتحاد الأوروبي الذي يشتري عمومًا 22? من احتياجاته النفطية من إفريقيا، والولايات المتحدة الأميركية حيث تصل إمداداتها حاليًّا من النفط الإفريقي إلى 27?، أما الصين فهي تستورد منه أكثر من 20? من احتياجاتها وخاصة من أنغولا والسودان.

ولا تنفصل المواد الأولية المماثلة والمعادن النادرة عن هذه الاستراتيجية؛ وخاصة اليورانيوم (النيجر وناميبيا) والكولتان (كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية)، ولكن أيضًا الحديد والمنغنيز، والنحاس والذهب والماس (موريتانيا، وغانا، وليبيريا)، وفي هذه المجالات تبرز بقوة الاستثمارات الصينية المرتبطة بالبنية التحتية في مناطق التعدين، مع أن هذه الاستثمارات غالبًا ما تسهم في خلق طبقات من المتمولين على حساب مسألة التنمية لصالح الشعوب.

على صعيد التنافس مع الصين، برزت أيضًا اليابان التي أصبحت أكبر جهة مانحة لإفريقيا حيث نظمت بدورها، في شهر أغسطس/آب 2019، النسخة السابعة من مؤتمر طوكيو الدولي حول التنمية الإفريقية (TICAD) في مدينة يوكوهاما. وخلال هذا المؤتمر تعهدت اليابان، بغضِّ النظر عن المصالح الجيوسياسية، “بالنهوض بإفريقيا من خلال الناس والتكنولوجيا والابتكار”(12) مبرزة أولوية حشد الدعم للتعليم والتنمية البشرية لفائدة الدول الإفريقية. وتندرج أولويات اليابان ضمن المساعدات التي كان رئيس الوزراء الياباني، “شينزو آبي”، قد وعد بتقديمها لإفريقيا في صورة مساعدات وصفقات تجارية تُقدر بـ14 مليار دولار. ولليابان أيضًا حضورها القوي في أسواق الموزمبيق، والكوت ديفوار، وإثيوبيا، وهي ثلاث دول تعد من بين أسرع الاقتصاديات نموًّا في إفريقيا.

بالنسبة لموسكو، فإنها تتابع تبعات “سياسة القوة المفرطة” التي عادت للظهور من جديد في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على الغرب عمومًا والولايات المتحدة خاصة، وهي الاستراتيجية التي تستند على ثلاث أولويات:

  • • أولًا: مكافحة الإرهاب.
  • • ثانيًا: تعزيز استراتيجية احتواء الجهاديين من خلال برنامج المساعدة العسكرية.
  • • ثالثًا: تعزيز الاستثمارات التجارية والنفطية(13).

وبناء على رؤية التضايق الإفريقي من ازدواجية الغرب، فإن قدرة الروس على التودد إلى صنَّاع القرار الإفريقي تزداد، وخاصة في أعقاب إقرار الولايات المتحدة لقانون النمو والفرص في إفريقيا (AGOA) حيثُ تربط واشنطن المعونة الاقتصادية بمدى إحراز الأفارقة للتقدم في مجال وقف الانتهاكات التي تطول حقوق الإنسان. وفي هذا المسعى، وجدت بعض الدول الإفريقية نفسها عرضة لتعليق استفادتها من فرص هذه الاتفاقية (رواندا، وموريتانيا)، وتعدُ الأخيرة موضعًا لاختبار تناقض سياسات واشنطن، ففي الوقت الذي يجري فيه تأكيد اكتشافات غازية هائلة على سواحل المحيط الأطلسي سارعت إدارة ترامب إلى إبداء رغبتها في إعادة نواكشوط إلى الاتفاقية المذكورة.

وعلى مستوى أوروبا، فكما يقال فإن “مصائب قوم عند قوم فوائد”؛ فوكالات الائتمان العالمية تُعيد التأكيد على صحة هذا المثل السائر على صعيد الاقتصاد العالمي، فقد شهدت القارة العجوز أزمة نمو وتباطؤ شديدين بالمقارنة مع الاقتصاديات المتقدمة الأخرى(14). ولهذا السبب، فإن أوروبا لن يكون أمامها سوى الاتجاه إلى تعزيز فرص التجارة جنوب/جنوب. ومن هذا المنظور، فإن القارة الإفريقية الملْأى بالموارد المعدنية والنفطية من ناحية، والتي تزايد احتياجاتها بشكل هائل على صعيد البنية التحتية والطاقة والنقل، والتنمية الزراعية من ناحية أخرى، سوف تكون عنصرًا جاذبًا على الدوام؛ بحيث تظل فضاء تتنافس عليه الشركات والدول حتى لو اقتضى ذلك امتصاص الصدمات الصاعدة عن الاهتمام المتزايد للبلدان الصاعدة، بما في ذلك روسيا نفسها.

خاتمة

إن التنافس في مثل هذه الظروف غالبًا ما يؤدي إلى تداخل مجالات السياسة والقيم العالمية مع لعبة المصالح الاقتصادية؛ فالمُساعدات المقيدة بالمعايير الدولية يبدو أنها لا تتفق مع أولويات صانعي القرار في الدول الإفريقية لذلك يميل هؤلاء إلى البديل الجاهز للتدخل في كل الأوقات والأوضاع. كما أن التمويلات والديون الصينية باتت هاجسًا يؤرق مضاجع واضعي سياسات الدول الإفريقية. لكل هذه الأسباب يبرز الترويج داخل المنتديات الإفريقية لمسألة التعاون في ظل عالم متعدد الأقطاب ومتعاظم الفوائد (البلدان الصاعدة، دول الشمال وبين الدول الإفريقية نفسها)، فإفريقيا تتجه إلى تشجيع التبادل التجاري الحر بين دولها من جهة، وبين شركائها في التنمية والبلدان الإفريقية من جهة أخرى، ويمكن القول: إن إطلاق الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، في يوليو/تموز 2019، “المرحلة التشغيلية” من منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (Zlec) لتصبح بذلك “أكبر مساحة تجارية في العالم” يمكنه أن يسهم في التشجيع الكافي لجذب الاستثمارات ذات الثقل التجاري المعتبر(15).

وعلى نحو مغاير، يجب أن يُبلور الأفارقة سياستهم الأمنية والاقتصادية في أفق رؤية 2063 التي يسوِّق لها الاتحاد الإفريقي؛ إدراكًا من دول القارة لأن العالم يتغير اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا بسرعة، وأنه بإمكان الشعوب الإفريقية اللحاق بالركب. وعلى هذا النحو، ينبغي التركيز على تدريب القوى العاملة الإفريقية كأولوية حقيقة بدلًا من أن يبقى ذلك التزامًا تجميليًّا من جانب الحكومات، وبدل أن تبقى الحكومات مُجبرة لا مخيرة على استقدام الخبرات من خارج حدودها فما “حكَّ جلدك مثل ظفرك”، كما يقال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبيد اميجن، إعلامي وكاتب موريتاني مهتم بشؤون إفريقيا.

مراجع

(1) ستيف روزينبيرغ، كيف تحول فلاديمير بوتين من شخصية منبوذة إلى اللاعب السياسي الرئيسي في الشرق الأوسط؟، موقع بي بي سي، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تم التصفح في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):

https://www.bbc.com/arabic/world-50081146

(2) بوتين: 25 مليار دولار صادرات روسيا الغذائية إلى إفريقيا ونخطط لمضاعفتها، موقع الاقتصاد، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تم التصفح في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/2qbNwMx

(3) الكرملين يستعد للعودة إلى إفريقيا، موقع RT، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (التصفح في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/2Nzs8ZM

(4) حسين مجدوبي: زيارة أردوغان للمغرب العربي تجعل من تركيا منافسًا سياسيًّا واقتصاديًّا قويًّا لفرنسا وإسبانيا، القدس العربي، 7 يونيو/حزيران 2013، (تم التصفح في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):http://www.alquds.co.uk/?p=51912

(5) حجم إمدادات الأسلحة الروسية إلى البلدان الإفريقية يمكن أن يصل إلى 40? من الصادرات الروسية، موقع Sputnik، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تم التصفح في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/337rngW

(6) انظر: عبر الاستثمار..روسيا تبحث عن موطئ قدم ثابتة في إفريقيا، موقع AA، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تم التصفح في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://bit.ly/33c08BY

(7) Patrick Forestier, Centrafrique: comment la Russie travaille patiemment à supplanter la France, Le Point 15/12/2018 (Accès le 30 octobre 2019):https://www.lepoint.fr/afrique/centrafrique-comment-la-russie-travaille-patiemment-a-supplanter-la-france-15-12-2018-2279472_3826.php

(8)  ستيف روزينبيرغ، كيف تحول فلاديمير بوتين من شخصية منبوذة إلى اللاعب السياسي الرئيسي في الشرق الأوسط؟، مرجع سبق ذكره.

(9)  بريكس هي رابطة تضم خمسة اقتصادات نامية، هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وهي دول في مجملها تضم أكثر من ثلث سكان العالم أو ما يشكِّل 42 بالمئة من سكان العالم، كما تحتل دول هذه المجموعة 26 بالمئة من مساحة الأراضي في العالم وتمتلك احتياطيًّا نقديًّا يفوق 4 تريليونات دولار.

(10)Théau Monnet, Avec l’Afrique, la Russie tente de diversifier ses exportations, Jeune Afrique 25 octobre 2019 (Accès le 1 novembre 2019):https://www.jeuneafrique.com/847150/economie/avec-lafrique-la-russie-tente-de-diversifier-ses-exportations/

(11) Jean-Luc Martineau, Djibouti et le « commerce » des bases militaires: un jeu dangereux? OpenEdition No 34 2018-1 (Accès 28 octobre 2019):https://journals.openedition.org/espacepolitique/4719

(12)  في مؤتمر باليابان، غوتيريش يدعو إلى الاستثمار في إفريقيا لتحقيق إمكانات القارة السمراء، موقع الأمم المتحدة، 28 أغسطس/آب 2019، (تم التصفح في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019):https://news.un.org/ar/story/2019/08/1038891

(13)  وفقًا لهذه الرؤية، يجب أن تصل واردات الولايات المتحدة من إفريقيا، في عام 2020، إلى 25?.

(14) Anne Cheyvialle, L’Afrique dopée par les pays émergents, Le Figaro, Publié le 19 décembre 2011 (Accès le 1 novembre 2019):https://www.lefigaro.fr/conjoncture/2011/12/19/04016-20111219ARTFIG00482-l-afrique-dopee-par-les-pays-emergents.php

(15)  سيدريك أشيل امبينغ ميزوي، الصناعة في إفريقيا .. مشروع ذو أولوية، ترجمة: سيدي .م. ويدراوغو، مجلة قراءات إفريقية، 24 يونيو/حزيران 2019، (تم التصفح في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2019):https://bit.ly/33bGbLt

 

رابط المصدر:

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/11/191111071345904.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M