بسنت جمال
استطاع الاقتصاد المصري أن يتجاوز تداعيات فيروس كورونا خلال فترة قصيرة حتى مع استمرار انتشار الوباء بموجتيه الثالثة والرابعة، محققًا نموًا إيجابيًا خلال العام الماضي رغم تحقيق غالبية الاقتصادات العالمية انكماشًا بضغط من الجائحة، وهو ما عزز من رؤية المؤسسات الدولية لاقتصاد البلاد خلال العامين المقبلين. وتتمثل أبرز المؤشرات الإيجابية الاقتصادية في ارتفاع الاحتياطي النقدي بحلول نهاية سبتمبر الماضي، مسجلًا 40.83 مليار دولار بزيادة تبلغ 153 مليون دولار مقارنة بالمستوى المسجل في أغسطس.
تطور الاحتياطي النقدي منذ 2019
تمكَّن الاحتياطي النقدي من استعادة زخمه منذ يونيو 2020؛ إذ حقق ارتفاعات متتالية منذ ذلك الحين وحتى الشهر الماضي محاولًا تجاوز تأثيرات فيروس كورونا على كافة مصادر العملات الأجنبية، بداية من تراجع الصادرات والإيرادات السياحية وعوائد قناة السويس بسبب توقف حركة التجارة العالمية واضطراب قطاع الشحن، وانتهاءً بتخارج استثمارات الصناديق المالية الأجنبية من الأسواق الناشئة.
وعلى الرغم من تلك الارتفاعات، إلا أن الاحتياطي النقدي لم يتمكن بعد من العودة للمستويات التي سجلها قبل انتشار الجائحة خلال عام 2019 وبحلول أوائل عام 2020 حين وصل إلى أعلى مستوياته خلال الفترة محل الدراسة عند 45.51 مليار دولار في فبراير من العام الماضي، ليسجل بعدها تراجعات مستمرة حتى مايو 2020، والذي شهد أدنى مستوياته عند 36 مليار دولار. وحدث ذلك بعدما استخدم البنك المركزي نحو 5.4 مليارات دولار من الاحتياطي النقدي لمواجهة تداعيات الإجراءات الاحترازية الهادفة لاحتواء الوباء، ولتلبية احتياجات السوق المصري من النقد الأجنبي، كاستيراد السلع الاستراتيجية، وسداد الالتزامات الخاصة بالمديونية الخارجية للبلاد.
ومع إعادة افتتاح الاقتصاد العالمي، واستعادة المستثمرين الأجانب الثقة في الاقتصاد المصري، إلى جانب تأمين حزم تمويلية من صندوق النقد الدولي تُقدر بنحو 8 مليارات دولار منذ بداية الجائحة؛ بدأ الاحتياطي النقدي في الارتفاع تدريجيًا، كما يوضح الشكل التالي:
الشكل (1): تطور الاحتياطي النقدي (مليار دولار)
ومن الجدير بالذكر أن الاحتياطي النقدي يستطيع أن يوفر احتياجات البلاد من المواد الخام اللازمة للإنتاج والسلع والخدمات الاستراتيجية، لمدة تتجاوز سبعة أشهر، وهو ما يعبر عن قوة الاقتصاد القومي.
محفزات ارتفاع الاحتياطي النقدي
يتركز الاحتياطي النقدي المصري على خمسة مصادر أساسية: تحويلات العاملين بالخارج، وإيرادات السياحة، وعائدات قناة السويس، والصادرات، والاستثمارات الأجنبية في أذون الخزانة المحلية. وفيما يلي عرض لتطور تلك المصادر خلال الفترة الماضية:
1.تحويلات العاملين بالخارج:
تُعد تحويلات المصريين العاملين من الخارج أبرز مكونات الاحتياطي النقدي؛ إذ يؤثر ارتفاعها أو انخفاضها على رصيد العملات الأجنبية لدى البنك المركزي بشكل مباشر وملحوظ. وتأثر حجم التحويلات بفيروس كورونا بضغطٍ من توقف النشاط الاقتصادي واضطراب سلاسل التوريد في غالبية دول العالم، وفيما يلي عرض لتطورها خلال حوالي عقدٍ زمني:
الشكل (2): تحويلات المصريين العاملين بالخارج (سنويًا)
يتبين من الشكل السابق تسجيل تحويلات العاملين بالخارج مستوى قياسيًا خلال العام المالي الماضي (2020/2021) عند 31.4 مليار دولار، محققة ارتفاعًا بنحو 12.9% على أساس سنوي. كما يتضح أن التدفقات الوافدة من الخارج صمدت جيدًا خلال ذروة انتشار كورونا في العام المالي (2019/2020) مسجلة
ارتفاعًا قدره 10.3% عند 27.8 مليار دولار نتيجة صعود قيمة التحويلات خلال الربعين الثاني والثالث من العام نفسه، وانخفاضها بنسبة ضئيلة خلال الربع الرابع فقط، وهو ما يتبين من الرسم التالي:
الشكل (3): تحويلات المصريين العاملين بالخارج (فصليًا)
يتبين من الشكل السابق أن تحويلات العاملين شهدت تراجعًا خلال الربع الرابع من 2019/2020 (الربع الثاني من 2020) بنحو 20.5% على أساس فصلي تزامنًا مع الموجة الأولى من الجائحة، وانخفاض تاريخي في أسعار النفط، فقط لتنتعش على الفور خلال الربع التالي، مسجلة 8 مليارات دولار.
2.الصادرات:
تراجع عجز الميزان التجاري المصري خلال يوليو 2021 مسجلًا نحو 2.88 مليار دولار خلال يوليو 2021 مقابل 3.37 مليارات دولار للشهر نفسه مـن العام السابق، حيث بلغت 5.82 مليارات دولار فيما وصلت الصادرات إلى 2.94 مليار دولار. ويُوضح الشكل التالي أداء الصادرات شهريًا خلال العامين الماضي والجاري:
الشكل (4): تطور أداء الصادرات (سنويًا)
يتضح من الشكل السابق تسجيل الصادرات المصرية اتجاهًا عامًا موجبًا خلال الفترة محل الدراسة محققة أعلى مستوياتها خلال يونيو الماضي عند 3.61 مليارات دولار بارتفاع يبلغ نحو 16.4% على أساس شهري، وحوالي 49.1% على أساس سنوي.
3.الإيرادات السياحية:
استقبلت مصر نحو 3.5 ملايين سائح خلال الفترة من أول يناير وحتى نهاية يونيو الماضي بفضل إعادة حركة الطيران مع العديد من الدول حول العالم، ولكن لا تزال الإيرادات السياحية تحاول التعافي من تداعيات الإجراءات الاحترازية الهادفة لاحتواء كورونا والتي أسفرت عن توقف حركة الطيران والسفر وإغلاق الحدود بين الدول لعدة شهور للحد من تفشى العدوى.
وبلغت عوائد السياحة نحو 3.1 مليارات دولار فقط خلال الأشهر التسعة الأولى من العام المالي 2020/2021 (يوليو 2020 – مارس 2021) مقارنة مع نحو 9.8 مليارات دولار خلال العام المالي السابق، وهو ما يتضح من الشكل الآتي:
الشكل (5): إيرادات السياحة سنويًا (فصليًا)
من الشكل السابق يتضح أن الإيرادات السياحية بدأت في التصدي لتداعيات كورونا، بداية من الربع الأول من عام 2020/2021، مسجلة ارتفاعات حتى الربع الثالث من العام نفسه لتصل إلى 1.32 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار أنها لم تصل حتى الآن إلى المستويات المرتفعة التي سجلتها قبل انتشار جائحة كورونا.
4.الاستثمارات الأجنبية في الدين المحلي:
أظهر تقرير صادر عن وكالة “استاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني في سبتمبر الماضي أن استثمارات الأجانب في أدوات الدين (السندات – أذون الخزانة) التي تصدرها الحكومة بالعملة المحلية ارتفعت إلى 33 مليار دولار حتى أوائل أغسطس الماضي، وهو ما يتجاوز أعلى مستوياتها المسجلة في فبراير 2020 عند 28 مليار دولار. وذكرت الوكالة أن الاستثمارات الأجنبية في الدين المحلي شهدت ارتفاعًا متواصلًا بعد أن تراجعت إلى 10 مليارات دولار في يونيو 2020 في ظل نزوح الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين من الأسواق الناشئة بعد تفاقم الجائحة.
وترجع هذه الزيادة إلى زيادة ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري، وارتفاع معدل الفائدة الحقيقي (سعر الفائدة مخصومًا منها معدل التضخم) مقارنة بجميع دول العالم وفقًا لحسابات “بلومبرج” التي تتبع أسعار الفائدة في خمسين اقتصادًا، وهو ما يدلل عليه الشكل الآتي:
الشكل (6): الدول صاحبة أعلى معدل فائدة حقيقي حول العالم
5.عوائد قناة السويس:
سجلت قناة السويس عبور 9763 سفينة بحمولات قدرها 610 ملايين طن وعائد يبلغ 3 مليارات دولار خلال النصف الأول من العام 2021، وفقًا لهيئة قناة السويس. وعلى الرغم من التحديات التي شهدتها القناة خلال الآونة الأخيرة؛ إلا أنها حققت أعلى إيراد سنوي في تاريخها عند 5.84 مليارات دولار خلال العام المالي السابق 2020/2021 بنسبة زيادة قدرها 2.2% على أساس سنوي، وهو ما يتبين من الشكل التالي:
الشكل (7): عوائد قناة السويس (سنويًا)
وقد انعكست جميع التطورات السابقة إيجابيًا على أداء الجنيه المصري خلال الفترة الماضية؛ إذ شهد استقرارًا منذ بداية العام وحتى منتصف أكتوبر حول متوسط 15.64 جنيهًا مقابل الدولار للشراء، و15.74 جنيهًا مقابل الدولار للبيع.
واستنتاجًا مما سبق، نجد أنه رغم عدم وصول الاحتياطي النقدي لمستويات ما قبل وباء كورونا، إلا أنه استطاع التعافي بشكل ملموس خلال العام الجاري مسجلًا ارتفاعات متعاقبة بدعم من ارتفاع مصادر النقد الأجنبي كما اتضح من التحليل السابق، وهو ما يعكس قدرة الاقتصاد المصري على التصدي لتداعيات الجائحة.
.
رابط المصدر: