هل تملأ روسيا الفراغ الفرنسي في مالي وغرب إفريقيا؟

صلاح خليل

 

تشهد دول غرب إفريقيا صراعًا على النفوذ بين كل من روسيا وفرنسا، ولا أحد يمكن التكهن بما ستئول إليه مآلات هذا الصراع، ولا سيما في ظل كسب روسيا تأثيرًا في مناطق النفوذ الفرنسي التاريخي في هذه المنطقة، فروسيا تقدم نفسها كبديل لفرنسا التي خلّفت وراءها واقعًا مأساويًا تعيشه شعوب غالبية دول غرب إفريقيا، وقد بدأت مؤشرات التراجع الفرنسي في هذه المنطقة مع خروج القوات الفرنسية من جمهورية مالي بعد أكثر من تسع سنوات من وجودها العسكري ونقل عدد كبير من عتادها العسكري إلى تشاد، وذلك على إثر إنهاء عملية “برخان” ضد الجماعات الإسلامية في فبراير 2022، وبعدما نشرت آلاف الجنود لمحاربة فرعي تنظيمي القاعدة” الدولة الإسلامية”، فهل تملأ روسيا الفراغ الذي تتركه فرنسا، وتمضي في سياسة توسيع النفوذ في القارة وفق النظرة البوتينية التي ترغب في استعادة مجد الإمبراطورية الروسية على الساحة الدولية؟.

أولًا- دوافع الانسحاب الفرنسي من مالي:

يعكس هذا الانسحاب تدهور العلاقات الفرنسية المالية، فلقد تدهورت العلاقات الفرنسية المالية بعد تراجع المجلس العسكري الحاكم في مالي عن اتفاقه مع فرنسا على تنظيم انتخابات في فبراير 2022.

كما اكتشفت فرنسا قيام المجلس العسكري الحاكم في مالي، بتوظيف 1000 فرد من شركة فاغنر شبه العسكرية الروسية، مما يبرز نفوذ موسكو المتزايد في منطقة غرب إفريقيا، ويثير معارضة شرسة من فرنسا وشركائها الذين قضوا أكثر من ثماني سنوات في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل المضطربة ولكن دون تحقيق انتصارات تحد من تمركز الجماعات الجهادية. ولذا دعت فرنسا مالي إلى التخلي عن أي تفكير في صفقة محتملة مع مجموعة فاغنر، محذرة المجلس العسكري من أنه قد يواجه عزلة دولية إذا دخل في ترتيبات مع مجموعة المرتزقة الروسية.

وعلى الرغم من الانتصارات التكتيكية التي حققتها قوات مجموعة الخمسة وشركاؤهم الأوروبيون، ضد الجماعات الجهادية في جمهورية مالي، لم تتمكن تلك الجهود من بسط سيطرة القوات الحكومية على المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية الراديكالية. وما زاد من خطورة الوضع الإطاحة بالحكومة المالية في انقلابين في 2020 و2021، أديا إلى تولي السلطة من قبل مجموعة عسكرية ترفض تنظيم انتخابات قبل سنوات، وتستغل مشاعر عداء الشعب المالي لفرنسا في المنطقة. فضلًا عن انتقادات كبيرة وجهتها فرنسا للمجلس العسكري الحاكم في البلاد، حيث ترفض فرنسا وشركاؤها الأوروبيون السياسة التي ينتهجها الجيش المالي الذي استولى على السلطة عبر انقلاب في مايو 2021.

من ناحية أخرى، تكبدت فرنسا خسائر بشرية وصلت إلى 55 جنديًا فرنسيًا، وتكبدت جيوش كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد آلاف الجنود في ثماني سنوات منذ بداية الحرب ضد الجماعات الجهادية. فمنذ ست سنوات كانت الجماعات الجهادية على بعد 600 كم من العاصمة المالية باماكو. وفي عام 2022، أصبحت الجماعات المتطرفة تهاجم على بعد أقل من 100 كم من العاصمة المالية، حيث تسيطر الجماعات الجهادية على مساحات شاسعة في وسط مالي وعلى طول الحدود مع النيجر وبوركينافاسو. وعلى الرغم من وجود قوة عسكرية كبيرة للأمم المتحدة متمركزة في منطقة (جاو)، بناء على طلب من الحكومة الفرنسية، حيث أكثر من 13000 جندي يقومون بدوريات عسكرية، في الوقت الذي تنفذ فيه الجماعات المتطرفة عمليات ضد المزارعين والرعاة؛ تتزايد المشاعر المعادية للفرنسيين اليوم بين شعوب في مالي وكثير من دول غرب إفريقيا الأخرى. فبعد أكثر من 150 عامًا لا تزال باريس تلعب لعبتها في غرب إفريقيا، من غير تحقيق تنمية واستقرار وأمن لشعوب هذه الدولة.

ثانيًا- إعادة التموضع الفرنسي الأوروبي والبحث عن شراكة جديدة:

تمت اجتماعات القمة المصغرة في باريس التي عقدت في فبراير الفائت، لمناقشة آخر التطورات الأمنية والسياسية في بلدان الساحل، حيث شارك فيها العديد من رؤساء الدول والحكومات وممثلي دول الساحل وأوروبا، وكذلك الرؤساء من المؤسسات الشريكة متعددة الأطراف، ولا سيما الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي. وتركزت الاجتماعات على أبعاد وتداعيات الانسحاب الفرنسي الأوروبي من جمهورية مالي، وأيضًا مستقبل الوجود العسكري الفرنسي الأوروبي بمنطقة الساحل، من خلال أربعة محاور:

1. إعادة إنتاج شراكة عسكرية مع دول غرب إفريقيا، ونقل جميع العتاد والجنود الفرنسيين والأوروبيين إلى مكان آخر في المنطقة.

2. تعزيز الوجود الفرنسي الأوروبي في النيجر، ودعم الجيش في جنوب البلاد بشكل أكبر، باعتبارها أكثر المناطق التي تشهد زخمًا للجماعات الجهادية.

3. انسحاب فرنسا من البعثة الأممية في مالي، وأيضًا انسحاب بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية بمالي، اللتين تقدمان مساعدات مالية وجوية وطبية لدول أخرى في غرب إفريقيا مثل السنغال وبنين وساحل العاج، لمساعدتها على التصدي لانتشار الجماعات الجهادية في خليج غينيا.

4. تسعى فرنسا وشركاؤها الأوروبيون لطمأنة قادة دول الساحل بالتزام فرنسا وشركائها بمكافحة الإرهاب بالمنطقة، حتى خليج غينيا، مصحوبة ببرامج استراتيجية بحيث تكون شعوب هذه الدول في قلب الاستراتيجية الفرنسية لمكافحة الجماعات الجهادية من خلال برامج اجتماعية وخدمية يمكن أن تجعل العمل العسكري أكثر نجاحًا.

لذا فإن القوات الفرنسية وشركائها سيعاد تموضعهم في كل من تشاد والنيجر ونيجيريا، بحجة استمرار عملية مكافحة الإرهاب، باعتبارها أولوية قصوى للدول الغربية الفاعلة في غرب إفريقيا، كرغبة منهم في مواصلة التزامهم في منطقة الساحل حيث تنشط الجماعات الجهادية.

كما تتحرك فرنسا للاستعانة بشركاء مثل الولايات المتحدة لإقناع المجلس العسكري الحاكم في مالي بعدم المضيّ قدمًا في الصفقة المزمع إبرامها بين كبار المسئولين في مالي مع نظرائهم الروس في موسكو في الشهور المقبلة. حيث تتخوف باريس من أن وجود مرتزقة روس في مالي سيعرض جمهورية مالي لعدم تمويل الشركاء الدوليين، خاصة فيما يتعلق بمهام التدريب التي ساعدت في إعادة بناء الجيش في مالي، وتشعر باريس بالقلق الكبير من وصول أعداد كبيرة من مجموعة فاغنر إلى مالي، وهو من شأنه أن يقوض عملية مكافحة الإرهاب المستمرة من عقود طويلة ضد بوكو حرام والقاعدة وتنظيم الدولة، والجماعات المسلحة الأخرى، وأيضًا لأن ذلك غير متوافق مع الجهود الدولية التي يبذلها شركاء مالي من منطقة الساحل والشركاء الدوليين المنخرطين في التحالف من أجل الأمن والتنمية في المنطقة.

لكن يرى المجلس العسكري الحاكم في مالي أن بلاده تعمل على تنويع علاقاتها مع جميع دول العالم في المدى القريب والمتوسط بهدف ضمان أمن البلاد. فيما عزز المجلس العسكري في مالي اتصالاته مع روسيا، بما في ذلك زيارة وزير الدفاع المالي ساديو كمارا إلى موسكو التي التقى فيها نائب وزير الدفاع ألكسندر فومين، وحضرا مناورات بالدبابات في سبتمبر 2021. وتلك الزيارة برهنت على أن الروس يعملون بقوة لسد الفجوة لمواجهة النفوذ الفرنسي الجيوسياسي في غرب إفريقيا.

ثالثًا- تداعيات الحضور الروسي في غرب إفريقيا:

1. تموضع روسيا: يبدو أن انسحاب فرنسا من جمهورية مالي جعل روسيا تتموضع بسهولة في المنطقة، ويظهر ذلك مع النشاط المتزايد لشركة فاغنر، وهو الأمر الذي يقلق فرنسا وشركاءها الأوروبيين في غرب إفريقيا. ففي مالي حلم طويل الأمد يتم الترويج له من قبل القوميين والوطنيين، وهو أنه يجب أن تقطع العلاقة مع فرنسا، والتعاون بدلًا من ذلك مع موسكو. هذا الحلم يعود إلى العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين مالي والاتحاد السوفيتي والكتلة السوفيتية في بداية الستينيات من القرن الماضي، ومن المقرر عقد القمة الروسية الإفريقية الثانية في عام 2022، بعدما حققت موسكو مكاسب كبيرة في القارة الإفريقية.

2. ظهور قوات فاغنر كبديل للقوات الفرنسية: بهذا الانسحاب ستضطر دول غرب إفريقيا لشراء الأسلحة والحصول عليها من شركة فاغنر التي تتمتع بسمعة احترافية أكبر من القوات الفرنسية.

3. تراجع الحضور الفرنسي: تستغلّ روسيا الاحتجاجات والمظاهرات التي تقودها شعوب هذه الدول ضد الوجود الفرنسي، وتنطلق روسيا من إدراكها الأبعاد الاستراتيجية، خاصة البعدين السياسي والعسكري، في تزايد نفوذها، الذي يجعلها تتخندق في غرب إفريقيا دون عوائق أو عراقيل غربية.

4. تعزيز حضور روسيا على مستوى القارة: تسعى روسيا من خلال شركة فاغنر في مالي إلى تعزيز مكانة موسكو وتأثيرها العالمي، وتكون جزءًا من حملة أوسع لزعزعة ديناميكيات القوة طويلة الأمد في إفريقيا في غرب إفريقيا. فمن ليبيا في الشمال إلى نيجيريا ومالي والنيجر في الغرب، إلى إثيوبيا وإفريقيا الوسطى في شرق ووسط إفريقيا، تعمدت روسيا بناء تحالفات عسكرية استراتيجية رئيسية بشكل متزايد عبر بعض الدول الإفريقية في السنوات الماضية.

5. تنامي علاقة حكومات غرب إفريقيا بشركات الحماية الخاصة: تحصل مجموعة فاغنر شهريًا على 10.8 ملايين دولار حصيلة خدماتها في منطقة الساحل، كمرتزقة تقوم بتدريب الجيش المالي، وحماية كبار المسئولين في البلاد. كما تعمل فاغنر على رعاية شركات التعدين للحصول على الأموال من الحكومات والشركات في دول غرب إفريقيا. وكثير من شعوب دول غرب إفريقيا تؤيد التدخل العسكري الروسي بدلًا من فرنسا.

6. فراغ أمني في غرب إفريقيا: لا شكّ أن قرار انسحاب “برخان وتاكوبا”، وهي مجموعة من القوات الخاصة الفرنسية والأوروبية، يسبب فراغًا أمنيًا باعتبار هذه القوات تمثل العمود الفقري للقوات المتواجدة في دول الساحل بغرض مكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا بصفة عامة، وفي منطقة الساحل بصفة خاصة.

والخلاصة، لا شك أن عدم فعالية قرارات بعض المنظمات الإفريقية والاتحاد الإفريقي في إدارة الصراعات والخلافات الداخلية بين الدول الأعضاء، وعدم حل الأزمات داخل القارة الإفريقية؛ أفسح المجال للتدخلات الخارجية، وهو الأمر الذي جعل القارة الإفريقية مسرحًا لتسابق النفوذ الدولي للقوى العالمية. وبالتالي قد تستخدم روسيا بصمتها المتنامية في مالي كورقة مساومة عند التفاوض بشأن العلاقة مع فرنسا. وأيضًا في مقدرة موسكو مساعدة المجلس العسكري الحاكم في مالي على مكافحة الإرهاب بشكل فعال، بغرض اكتساب روسيا مكانة دولية أكبر تعزز بها مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، فجمهورية مالي غنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك الذهب والحجر الجيري واليورانيوم، وهو أحد مطامع مجموعة فاغنر وأجندتها في إفريقيا.

 

.

https://ecss.com.eg/19017/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M