افرزت الحرب في غزة منذ تشرين الاول الماضي تداعيات كبيرة على المنطقة، وهذه التداعيات لازالت غير واضحة المديات وغير واضحة النهايات في منطقة الشرق الاوسط. فالمنطقة تتسم بنمط من الصراع قوامه الاساس وجود فواعل من غير الدول لها ارتباطات اقليمية ودولية على اساس الدين او العرق. وهذه الفواعل أصبح تأثيرها يتزايد على الاستقرار الامني الهش في المنطقة والذي قد ينزلق الى مرحلة الانهيار وحينها ينهار نظام الدولة في المنطقة، الامر الذي تخشاه الاطراف الاقليمية والدولية ولاسيما المتناحرة والمتصارعة في المنطقة.
اعلنت الولايات المتحدة الاميركية منذ الايام الاولى للحرب في غزة على ان دورها يتمحور حول مساندة اسرائيل في حربها على غزة، ومنع توسع دائرة الحرب الى مديات اوسع من الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، وأنها لن تتدخل مباشرة في الحرب. ومن جانبها اعلنت إيران انها مع عدم توسع الحرب وأنها لن تتدخل في الحرب بشكل مباشر. وعليه كل من واشنطن وطهران على اتفاق ضمني بشأن عدم توسع الحرب.
دور جماعة الحوثيين في اليمن وتوجيههم ضربات وهجمات ضد المصالح الاميركية وعرقلة عملية النقل الدولي والملاحة الدولية في البحر الاحمر من خلال استهداف السفن بذريعة ارتباطها بمصالح اسرائيل والولايات المتحدة ردا على الحرب الاسرائيلية على غزة، دفعت الولايات المتحدة الى معاجلة هذا الهجمات عبر التحشيد الدولي من خلال التعاون مع بريطانيا واسرائيل واستراليا والبحرين. وهذا ما قرأ ايرانيا على انه تطور خطير من قبل واشنطن في توسيع دائرة الصراع في المنطقة التي تنظر اليها إيران على انها جزء من الامن القومي الايراني.
ولهذا تأتي الضربات الايرانية الاخيرة على اربيل على انها رد ايراني على سلوك القوة الغربية في اليمن وهي رسالة الى واشنطن وحلفائها في المنطقة وخارج المنطقة انها قادرة ايضا على توسيع دائرة الصراع وان لا ينحصر على اسرائيل وغزة. كما ان اعلان إيران ان الصواريخ انطلقت من كرمنشاه الى اربيل اي ما يقارب 700 كم فيه رسالة اخرى وهي ان إيران بإمكانها ان تتدخل في الحرب الاسرائيلية في حماس عبر صواريخ ممكن ان تطلقها من سوريا او غرب العراق لتصل الى تل ابيب. وهذا ما يميز هذه الهجمات عن الهجمات السابقة التي كانت تقوم بها فصائل موالية لإيران.
كما ان اعلان وزير الدفاع الايراني ان الهجمات على اربيل دفاعا عن الامن القومي الايراني فهذا يعني ان إيران ستواصل هجماتها ضد المصالح الغربية في المنطقة ولاسيما في الدول القريبة الهشة وهي العراق وسوريا. اذ وفقا لفلسفة الامن القومي الايراني فان الامن الاقليمي جزء من الامن القومي الايراني. وفقا للرد الايراني ربما تعمل واشنطن الى تغيير تكتيكها العسكري بضرب اهداف ومصالح ايرانية أكبر في العراق وسوريا باستهداف قيادة مؤثرة وهو ما قامت به في الضربات عبر المسيرات في بغداد في الايام القليلة القادمة.
اما الحديث عن اتفاق أمنى بين إيران والعراق بمواجهة التهديدات التي تواجه البلدين كما أكد ذلك وزير الخارجية الايراني عبر استهداف مقرات للموساد الاسرائيلي في اربيل، فهذا خطاب موجه للداخل الايراني الغاضب نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، وتبرير للرأي العام الايراني الرافض لسلوك إيران الخارجي اقليميا ودوليا. فضلا عن انه موجه الى حلفائها من دول وجماعات في المنطقة.
موقف الحكومة العراقية يؤشر تطور ايجابي في الموقف الرسمي والحكومي المعلن وهو خطاب سياسي صنف الهجمات الايرانية على انها اعتداء وان العراق سيرد على انتهاك سيادته، فهذا تطور لم يشهده الرأي العام العراقي طوال العقدين الاخيرين. وهذا الموقف كان واضحا مثلا تجاه الهجمات التركية في شنكال العراق.
فالحكومة العراقية عليها ان تدرك جيدا ان واشنطن وطهران تريد من العراق ان يكون ساحة للصراع –الذي ما زال محدودا وبعيدا عن المواجهة المباشرة بينهما– وان كلتاهما لها تبريراتها تجاه الرأي العام العالمي وتجاه الرأي العام في كل من إيران والولايات المتحدة. بمعنى انه طهران تنظر للعراق على انه يرعى وجود اميركي عسكري قتالي وتعمل على تسويقه على انه احتلال وانه يزعزع الامن الاقليمي في المنطقة. وبنفس الوقت تنظر واشنطن للعراق على انه يرعى جماعات مسلحة مدعومة من إيران. وهذه الاتهامات تعقد موقف الحكومة العراقية وتزيد من احراجها داخليا وخارجيا.
كما ان موقف الحكومة العراقية يتسق مع ما هو معلن رسميا تجاه الصراع الايراني الاميركي في المنطقة وهو ان العراق لا يسمح بان يكون ساحة لهذا الصراع. وهذا يضيف مسؤولية أكبر على الحكومة العراقية ان تستمر في موقفها وان توظف علاقاتها الاقليمية والدولية والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة في مواجهة الاعتداءات الايرانية على الارض العراقية.
كما ان هذه الهجمات المتبادلة تعني بشكل آخر ان الردع لم يعد هدف التواجد الاميركي في المنطقة والدعم الاميركي لإسرائيل في حربها على غزة كما أعلن سابقا. بل تعداه الى الضربات المحدودة دون المواجهة المباشرة.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37716