في خطاب ألقاه أمام الجمعية الفيدرالية الروسية عشية الذكرى السنوية الأولى للحرب في أوكرانيا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا ستعلق عضويتها في معاهدة نيو ستارت. قائلًا: “اليوم أجد نفسي مضطرًا للإعلان عن تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية”. جاء هذا الإعلان – الذي يهدف إلى صدمة الغرب وإثارة المخاوف من نشوب حرب نووية – في أعقاب الزيارة المفاجئة وغير المسبوقة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى كييف في اليوم السابق، ليضع بذلك بوتين المسمار الأخير في نعش نزع السلاح النووي.
معاهدة ستارت – 3
وقع الرئيسان باراك أوباما ونظيره الروسي دميتري ميدفيديف عام 2010 معاهدة نيو ستارت، والتي حلت محل معاهدة “ستارت” القديمة التي تم توقيعها عام 1991، ودخلت حيز التنفيذ في الخامس من فبراير عام 2011، بعد المصادقة عليها في ميونيخ، وأطلق عليها معاهدة “ستارت -3″، وحددت مدتها بـ 10 سنوات، قابلة للتمديد 5 سنوات إضافية. وفي أوائل عام 2021، اتفقت موسكو وواشنطن على تمديد المعاهدة حتى عام 2026.
تنص معاهدة “ستارت -3″، على خفض كمية الرؤوس الحربية الهجومية “النووية” العابرة للقارات، التي تمتلكها كل من روسيا والولايات المتحدة بنسبة 30%، وكذلك خفض الحدود القصوى لآليات الإطلاق الاستراتيجية بنسبة 50%، وتمت صياغتها على أساس التساوي في عدد الرؤوس النووية، وضمان أمن كلا البلدين بشكل متكافئ.
حددت الاتفاقية نوعية وكمية الأسلحة التي يمكن للبلدين امتلاكها بعد 7 سنوات من توقيعها، بحيث لا يتجاوز عدد الرؤوس النووية في كلا البلدين الـ 700 رأس نووي في القواعد الأرضية، و1550 رأسًا نوويًا في القواعد البحرية والجوية البحرية، كذلك تنص على ألا يتجاوز عدد المنصات الأرضية الثابتة والمتنقلة لإطلاق الصواريخ النووية عن الـ 800 منصة.
ويمتلك الطرفان بموجب المعاهدة، حرية تحديد الهيكل الثلاثي النووي “مزيج من ناقلات جوية وبحرية وبرية”، ونشر أنواع جديدة أخرى من الصواريخ والناقلات، شريطة أن يخطر كل منهما الآخر. وتحظر المعاهدة على كلا من روسيا والولايات المتحدة، نشر أسلحة استراتيجية هجومية، خارج نطاق الحدود الجغرافية لكلا البلدين.
تتكون معاهدة “ستارت -3” من ثلاثة أجزاء منفصلة، وهي نص المعاهدة، وبروتوكول المعاهدة، والملاحق الفنية، وجميع هذه المستويات ملزمة قانونًا لكلا الطرفين، حيث يتضمن نص المعاهدة والبروتوكول، حقوق الطرفين وواجباتهما الأساسية، بحيث يتم تبادل البيانات بينهما، للتحقق من الامتثال لبنود المعاهدة. وتجتمع لجنة استشارية روسية أمريكية مرتين كل عام في مدينة جنيف، لبحث القضايا المستجدة المتعلقة بالاتفاقية، والتنسيق فيما بينهما.
وبموجب المعاهدة، تجري واشنطن وموسكو عمليات تفتيش على مواقع أسلحة بعضهما البعض، ويُسمح لكل جانب بإجراء 10 عمليات تفتيش، يطلق عليها “النوع الأول”، وتتعلق بالمواقع التي توجد فيها الأسلحة والأنظمة الاستراتيجية، و8 عمليات تفتيش يطلق عليها “النوع الثاني”، وتركز على المواقع التي لا تنشر سوى الأنظمة الاستراتيجية.
ومع ذلك، فقد توقفت عمليات التفتيش منذ عام 2020 بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، وظهور تعقيدات عندما حاولت الولايات المتحدة استئناف عمليات التفتيش في أغسطس 2022. حيث علقت روسيا مؤقتًا عمليات التفتيش الأمريكية الميدانية لأسلحتها النووية الاستراتيجية، مشيرة إلى أسباب مفادها أن العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا قد غيرت الظروف بين البلدين. واتهم بوتين الغرب بالتورط المباشر في محاولات استهداف القواعد الجوية الاستراتيجية الروسية.
وكان من المفترض أن تعقد محادثات بين موسكو وواشنطن بشأن استئناف عمليات التفتيش في نوفمبر الماضي في مصر، لكن روسيا أجلت المحادثات بسبب اتهامها لواشنطن “بالسمية والعداء”. وفي أواخر يناير 2023، انتقد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية روسيا لرفضها السماح بعمليات التفتيش، وحذر من أن الإجراءات الروسية تهدد “جدوى الحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا”.
مغزى قرار التعليق
تسمح المادة 37 من القانون الفيدرالي الروسي بشأن المعاهدات الدولية، للرئيس بإنهاء أو تعليق مشاركة روسيا في المعاهدات الدولية “إذا لزم الأمر”. ومع ذلك فقد حمل قرار بوتين تعليق العمل بمعاهدة نيو ستارت رسائل مختلطة، فأوضح أن التعليق لا يعني الانسحاب من المعاهدة. وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن قرار بوتين “قابل للتراجع”. وذكرت أن الجانب الروسي سيواصل المشاركة في تبادل البلاغات مع الجانب الأمريكي حول إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBM) وإطلاق الصواريخ الباليستية من الغواصات، بناء على الاتفاقية ذات الشأن الموقعة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة عام 1988.
ومن اللافت للانتباه، أن معاهدة نيو ستارت لا تتضمن نصًا بشأن تعليق أحد الأطراف عضويته في المعاهدة. ومع ذلك، فإن المادة الرابعة عشرة من معاهدة فيينا تعترف بحق الأطراف في الانسـحاب مـن الاتفاقية إذا ما قررت أن أحداثًا استثنائية تتصل بموضوع الاتفاقية قد عرضت مصالح بلدها العليا للخطر. وعليها أن تخطر بذلك الانسحاب جميع الدول الأطـراف الأخـرى. ويجـب أن يتضمن هذا الإخطار بيانًا بالأحداث الاستثنائية التي تعتبر الدولـة الطـرف أنهـا عرضـت مصالحها العليا للخطر. ولا يؤثر انسحاب أي من الدول الأطراف من هذه الاتفاقية بأي حال على واجب الدول في مواصلة الوفاء بالالتزامات المتعهد بها بموجب أي قواعد للقانون الدولي ذات صلة، ولا سيما بروتوكول جنيف لعام ١٩٢٥.
وعلى الرغم من الخطاب الطويل الذي سرد فيه بوتين الظروف التي أجبرت روسيا على اتخاذ قرار التعليق، إلا أن بوتين لم يدل بتصريحات استفزازية، يمكن أن تعرقل إعادة تفعيل المعاهدة فيما بعد. وإن روسيا لم تتخل عن المعاهدة قبل تاريخ انتهاء صلاحيتها في عام 2026 أو تاريخ التمديد التالي. وتشير التقديرات أن الحاكم في ذلك اتفاقية فيينا التي توجه الفكر الروسي، حيث تنص المادة 72 من الاتفاقية على أنه “تمتنع الأطراف، خلال فترة التعليق، عن القيام بأعمال من شأنها عرقلة استئناف نفاذ المعاهدة”.
وبذلك فإن قرار تعليق المشاركة بدلًا من الانسحاب من المعاهدة، يعني أن روسيا تحتفظ بخيار العودة في وقت لاحق. ولكن، لم يتضح بعد ما هي الشروط التي ستختار روسيا بموجبها الامتثال للمعاهدة، أو ما إذا كان هذا يعني أن الولايات المتحدة ستعلق بدورها التزاماتها.
وعلى هذا، فقد أرسى تعليق معاهدة نيو ستارت حقيقتين مريرتين:
الأولى، بينما كان من المتوقع أن يتضمن اتفاق متابعة معاهدة نيو ستارت أنواع جديدة من الأسلحة الاستراتيجية، فإن تعليق المعاهدة أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. وإذا لم تتمكن الأطراف من تنفيذ المعاهدة الحالية، فمن الصعب على العالم أن يتوقع معاهدة أوسع نطاق من الولايات المتحدة وروسيا اللتين تمتلكان أكثر من 90% من المخزون النووي.
الثانية، لا يمكن فصل المعاهدة عن الحقائق الجيوسياسية الراهنة. حيث أدى الصراع في أوكرانيا إلى تآكل الثقة بين طرفي المعاهدة، وهو الأمر الذي أثر سلبًا على الأزمة الحالية. وتعتبر معاهدة نيو ستارت آخر معاهدة باقية للحد من الأسلحة النووية. وأدى إعلان بوتين الأخير، إلى تعقد الجهود الدبلوماسية لإحياء مفاوضات الحد من التسلح، عندما تساهم الرؤوس الحربية النووية الصينية الناشئة في سباق التسلح النووي الجديد.
دوافع الانسحاب الروسي من الاتفاقية
كان لنهاية الحرب الباردة تأثير كبير على جهود منع الانتشار النووي بين الولايات المتحدة وروسيا. ومع تراجع التوترات بين القوتين إلى أدنى مستوياتها التاريخية، انفصل الرئيسان جورج بوش الابن ودونالد ترامب عن أسلافهما وألغيا المعاهدات التي قيدت الترسانات النووية للبلدين، والتي لا تزال أكبر ترسانتين نوويتين في العالم حتى الآن. ولكن، لا يزال هناك اتفاق نووي واحد فقط بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي معاهدة نيو ستارت، التي تضع سقفًا متواضعًا لقدرة واشنطن وموسكو على نشر أسلحة نووية استراتيجية.
وبشأن سبب تعليق المعاهدة ذكرت الخارجية الروسية، أن معاهدة 2010 تم التوقيع عليها في بيئة مختلفة وتستند إلى فكرة أن الولايات المتحدة وروسيا شريكان متساويان يسعيان لبناء الثقة وتحسين الأمن العالمي من خلال نزع السلاح، كما ينعكس في نصها. ولكن الآن بعد أن أعلنت واشنطن أن “الهزيمة الاستراتيجية” لروسيا هدف لها صعدت التوترات في جميع جوانب العلاقات الثنائية، ولا يمكن أن يكون هناك “عمل كالمعتاد” مع الولايات المتحدة.
كذلك ربط بوتين ومختلف أعضاء حكومته بين مستقبل معاهدة نيو ستارت والحرب في أوكرانيا، مهددًا منذ عدة أشهر بأن روسيا قد لا تكون على استعداد للتفاوض بشأن تمديد المعاهدة عندما تنتهي في فبراير 2026 بسبب الدعم الأمريكي لأوكرانيا، بالإضافة إلى عدد من الأسباب الأخرى نبرزها فيما يلي:
1- إخلال واشنطن بالمعاهدة: خلال خطابه عن حالة الأمة، ذكر بوتين أن واشنطن رفضت المطالب المتكررة من قبل روسيا لتفقد المنشآت الأمريكية. وأن “الغرب متورط بشكل مباشر في محاولات أوكرانيا لضرب قواعد الطيران الاستراتيجية الروسية، وأن الطائرات دون طيار المستخدمة في الهجمات كانت مجهزة ومحدثة من قبل الناتو”. وقد وقعت هجمات في ديسمبر 2022 على قاعدة إنجلز الجوية التي تضم قاذفات استراتيجية روسية بعيدة المدى. وبسبب إخلال واشنطن بتعهدتها والامتثال لالتزاماتها ورفض مقترحات روسيا بشأن قضايا الأمن العالمي، فإن الولايات المتحدة “دمرت بنية الاستقرار الدولي” وأغرقت العالم أيضًا في “حالة من الصراعات والتحديات”.
فيما أوفت روسيا بجميع التزاماتها بحلول الخامس من فبراير 2018، وخفضت عدد أسلحتها الهجومية الاستراتيجية، إلى 527 رأسا، أي بما يقل عن العدد المنصوص عليه في الاتفاقية بـ 130 رأسًا، إضافة إلى التزامها بجميع تفاصيل الاتفاقية، كمًا ونوعًا وموعدًا، وذلك باعتراف الولايات المتحدة ذاتها. أما الولايات المتحدة فاستبعدت بشكل غير قانوني، ومن جانب واحد دون التشاور مع روسيا، جزءًا من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية الأمريكية معلنة “إعادة تجهيزها”، منها 56 قاذفة من طراز Trident-II SLBM و41 قاذفة ثقيلة من طراز B-52H. كذلك رفضت الولايات المتحدة تضمين 4 قاذفات صواريخ باليستية عابرة للقارات، تحت ذريعة تخصيصها للتدريب.
2- الضغط على واشنطن: قرار روسيا بشأن معاهدة نيو ستارت يخرج الولايات المتحدة من منطقة الراحة الخاصة بها، على الأقل في مجال الاستقرار الاستراتيجي، فالولايات المتحدة كانت تصر عمدًا على عمليات التفتيش، وتنفيذ جميع الإجراءات الروتينية المتعلقة بمعاهدة “ستارت 3″، لضمان مواصلة الحرب الهجينة ضد روسيا دون قلق وتبقى آمنة. وكانت تسعى واشنطن من خلال هذه المعاهدة لحماية وإقناع نفسها بأنه لا يوجد تهديد نووي، وأن الاستقرار الاستراتيجي مضمون. لكن الولايات المتحدة ذهبت بعيدًا في أوكرانيا، ساعية لتحقيق هدفها الذي أعلنته وهو محاولة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا.
3- ضم أطراف أخرى للمعاهدة: أكد بوتين على عدم تناسق قوات الأسلحة الاستراتيجية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وسلط الضوء على أن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية في الناتو، وأن فرنسا والمملكة المتحدة تملكان أيضًا أسلحة نووية. وفي حين أن معاهدة نيو ستارت معاهدة ثنائية، فإن روسيا واجهت تهديدًا من حلف شمال الأطلسي بأكمله والذي يمتلك أكثر من دولة نووية. وأشار بوتين في خطابه إلى أنه قبل إجراء روسيا محادثات بشأن استعادة عضويتها في نيو ستارت، يجب أن يكون لدى موسكو “فكرة واضحة” عن القدرات الإستراتيجية لبريطانيا وفرنسا.
4- حماية المنشآت الاستراتيجية الروسية: لعب الوضع في أوكرانيا دورًا في قرار روسيا بتعليق العمل بمعاهد نيو ستارت. حيث تعتبر موسكو المطالب الأمريكية بضمان وصول المفتشين إلى المنشآت النووية الروسية ذروة السخرية، بالنظر إلى مساعدتها الواضحة في الهجمات الأوكرانية ضد القوات النووية الاستراتيجية الروسية. ورفض بوتين فصل المسائل المتعلقة بأنظمة الأسلحة الاستراتيجية عن الحرب في أوكرانيا والموافقة الغربية على إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا. وزعمت وزارة الخارجية الروسية أن سياسات الولايات المتحدة تهدف إلى “تقويض الأمن القومي لروسيا”، الأمر الذي يناقض مبدأ “الأمن غير القابل للتجزئة” المنصوص عليه في ديباجة معاهدة نيو ستارت. وأن العداء الذي اشتد بسبب الحرب في أوكرانيا قد امتد أخيرًا إلى الحد من الأسلحة الاستراتيجية.
هل من سباق تسلح نووي جديد في طور التكوين؟
انسحاب روسيا من معاهدة نيو ستارت، يعرض التقدم المحرز في نزع السلاح النووي الثنائي الذي بدأته تجربة أزمة الصواريخ الكوبية قبل أكثر من 60 عامًا للخطر. حيث يثير غياب المعاهدات الدولية التي تنظم الترسانات النووية مخاوف من إمكانية إطلاق سباق تسلح نووي جديد. وعلى الرغم من أن سباق تسلح جديد بين روسيا والولايات المتحدة يبدو غير مرجح، فإن التوزيع متعدد الأقطاب للقوة في العالم يبقي خطر نشوب حرب نووية قائم. ففي مراجعة للوضع النووي لعام 2022 قالت الولايات المتحدة إن روسيا والصين تقومان بتوسيع وتحديث قواتهما النووية، وإن واشنطن ستتبع نهجًا قائمًا على الحد من التسلح لتجنب سباقات التسلح المكلفة.
وفي حال إلغاء تمديد معاهدة نيو ستارت لمدة خمس سنوات أخرى في عام 2026، ستكون هذه المرة الأولى منذ عام 1970 التي لا يوجد فيها قيود على الترسانات الاستراتيجية، والتبادل المنتظم للبيانات بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن أعداد الرؤوس الحربية والمعلومات الفنية عن أنظمة الأسلحة ومواقعها. وبالتالي، فإن عدم وجود معاهدة للحد من التسلح بين واشنطن وموسكو إلى جانب تقادم بعض الأنظمة الاستراتيجية الحالية وظهور أنظمة جديدة ذات تطبيقات استراتيجية، من المرجح أن يساهم في انكشاف سباق تسلح استراتيجي جديد أكثر كثافة.
خاصة أن معاهدة نيو ستارت لا علاقة لها بحقوق والتزامات الأطراف بإجراء تجارب نووية. ولا تتضمن المعاهدة حكمًا يحظر التجارب النووية ويعلقها. ولاستئناف التجارب النووية، قد تضطر روسيا والولايات المتحدة إلى الخروج من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) وغيرها من المعاهدات ذات الصلة. وفي خطابه أوضح بوتين أنه إذا قررت واشنطن إجراء تجارب نووية، فستضطر موسكو إلى الرد بشكل مناسب.
وبغض النظر عن التنافس النووي بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن مؤسسة الأمن القومي الأمريكي ترى أن تعليق المعاهدة في صالح واشنطن، حيث تعتبر المعاهدة وثيقة عفا عليها الزمن وتمنع اتخاذ رد فعل أمريكي مناسب على التهديد المتزايد من الصين. ووفقا للبنتاجون، فإنه بحلول عام 2035، تخطط بكين لمضاعفة عدد رؤوسها الحربية النووية ثلاثة مرات لتصل إلى 1500 رأس، وهو ما يقترب من السقف الذي حددته معاهدة نيو ستارت لروسيا والولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن موسكو وبكين بعيدتان عن الدخول في تحالف عسكري رسمي، إلا أن قادتهما متحدان في صراعهما ضد الهيمنة الأمريكية. وتعزيز التعاون العسكري بينهما والذي ظهر في التزام روسيا بمساعدة الصين في إنشاء نظام دفاع صاروخي للإنذار المبكر، والدعم الصيني لروسيا في الحرب في أوكرانيا. وظهور الصين كلاعب استراتيجي على الساحة الدولية أكثر انخراطًا في الشؤون الدولية مثل وثيقة السلام التي طرحتها لحل الأزمة الأوكرانية، والتهديدات الاستخباراتية للولايات المتحدة وآخرها أزمة منطاد التجسس، هذا بالإضافة إلى التوتر المتزايد حول وضع تايوان.
ونظرًا للأزمات الجيوسياسية والدبلوماسية الحالية، فإن التهديد بسباق تسلح ناشئ حديثًا محدودًا بسبب خطاب روسيا، فعلى الرغم من إعلان روسيا انسحابها، فقد تعهدت بالالتزام بالقيود التي تفرضها معاهدة نيو ستارت حتى تنتهي صلاحيتها. ويشير هذا الإعلان إلى أن الانسحاب إشارة سياسية لواشنطن والغرب أكثر من كونه بداية جديدة لسباق تسلح. وذلك بالنظر إلى التكاليف الباهظة المرتبطة ليس فقط بالحفاظ على ترسانة الأسلحة النووية القائمة بل أيضا بتوسيعها. فروسيا، المستهدفة بالعقوبات الاقتصادية الدولية بعد حربها ضد أوكرانيا، تكافح للحفاظ على مخزونها التقليدي. ونظرًا للوضع الاقتصادي الحالي في روسيا، فمن غير المرجح أن تتوافر الموارد اللازمة لذلك. وعلى نحو مماثل، وفي غياب أي تحرك روسي لزيادة مخزونها، فإن الاعتبارات الاقتصادية تجعل الحشد النووي الأمريكي غير مرجح بنفس القدر.
فضلاً عن وجود من يشكك في الفوائد الأمنية لمعاهدات الحد من الأسلحة النووية القائمة. ففي ظل أدوات الرقابة والتفتيش الحالية، تمتلك كلًا من روسيا والولايات المتحدة ما يقرب من 12000 رأس حربي نووي. وهي كافية لتدمير جميع المدن الكبرى وإغراق الأرض في شتاء نووي. ومن غير المرجح أن توافق الولايات المتحدة أو روسيا على الحد من التسلح ما لم يتم ضم خصومهم النوويين الآخرين إلى المعاهدة. وإذا كانت الصين ستنضم إلى محادثات الحد من التسلح – وهي لم تبد اهتمامًا بذلك – فمن غير المرجح أن تتغاضى بكين عن القدرات الاستراتيجية المتنامية للهند، والتي تتنافس على كسب ميزة استراتيجية على خصمها اللدود باكستان. وإذا وافقت جميع الدول التي تملك أسلحة نووية على المشاركة في محادثات الحد من التسلح، فإن مشاركة المزيد من الأطراف ستجعل من الصعب التوصل إلى توافق في الآراء. وعلى النقيض من ذلك، فغياب معاهدات الحد من التسلح، فإن سباق التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا سيؤدي إلى توجيه سلسلة نووية للتأثير على أوضاع القوة لجميع الدول الحائزة للأسلحة النووية.
ختامًا، على الرغم من تعليق روسيا معاهدة نيو ستارت، فمن غير المتوقع حدوث سباق تسلح نووي جديد بين روسيا والولايات المتحدة. وعلينا أن ننظر إلى إعلان بوتين بأنه إشارة سياسية، فالتحديات الاقتصادية التي تواجهها روسيا تحول دون توسيع ترسانتها النووية. ولكن نظرًا لتطلعات الصين لتحدي الولايات المتحدة كقوة عظمى، مدعومة بتراكم ترسانتها النووية، فإن معاهدة نيو ستارت وحدها كمعاهدة ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن واقع النظام النووي متعدد الأقطاب. وعلى الرغم من التزام القوى العظمى النووية بالمشاركة في مفاوضات نزع السلاح النووي، لا يمكن توقع إحياء معاهدات نزع السلاح النووي بين الولايات المتحدة وروسيا، أو مع الصين في المستقبل القريب. ومن غير المرجح أن يؤثر تعليق روسيا لمعاهدة نيو ستارت على استعداد الولايات المتحدة مواصلة دعم أوكرانيا، ولكن من المؤكد أن يكون لها تأثير سلبي طويل الأمد على أمن روسيا.
.
رابط المصدر: