كيف تتعامل القوى الآسيوية الكبرى مع الأزمة في أوكرانيا؟

محمد صلاح الدين

 

مر عام على الحرب في أوكرانيا التي انعكست على المشهد الدولي وخيمت بظلالها على الأقاليم الدولية المختلفة خاصة في المجالين الأمني والعسكري إضافة إلى المجال الاقتصادي، ولعل شرق وجنوب آسيا بين الأكثر تأثرًا نتيجة تركز عدد من القوى الكبرى المؤثرة في المجتمع الدولي وعلى رأسها الصين واليابان والهند ودول الآسيان، أو ما يعرف في الأوساط السياسية المعنية بالشؤون الدولية في الغرب باسم منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الإندوباسيفيك”.

وإذا ما أردنا المرور على التبعات الاقتصادية، فقد أسهمت الحرب في أوكرانيا على الأقل في خفض الطلب الخارجي بالنسبة لدول آسيا، خاصة مع تأثر دول أوروبا التي تتمتع بعلاقات تجارية قوية مع هذه المنطقة بالتبعات الاقتصادية بحسب ما يشير كريشنا سرينيفاسان مدير إدارة آسيا والمحيط الهادئ في صندوق النقد الدولي. وعلى مستوى الطاقة، فقد اضطرت دول آسيوية عدة إلى مصادر بديلة للغاز الطبيعي المسال الذي أعيد توجيهه إلى الدول الأوروبية الغنية في أعقاب انقطاع الغاز الروسي، ولجأت دول بينها الهند وإندونيسيا إلى حرق المزيد من الفحم، فيما عانت دول مثل بنجلاديش وباكستان من انقطاع التيار الكهربائي بسبب النقص المفاجئ في الوقود بحسب بوليتيكو.

وتأتي دول جنوب آسيا في مقدمة دول القارة تأثرًا بالحرب في أوكرانيا، فقد عانت دول مثل باكستان وسريلانكا ونيبال وجزر المالديف وأفغانستان بشكل خاص من الأزمة خاصة وأنها تعتمد على واردات الغذاء والوقود والأسمدة، أما الهند -التي كانت أفضل على مستوى الأداء الاقتصادي- فقد تأثرت مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية والوقود وانخفاض العائدات السياحية إضافة إلى زيادة صعوبة الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، بما أسهم في رفع معدل التضخم في البلاد للحد الأقصى المستهدف لدى البنك المركزي في نيودلهي، أما العملة “الروبية” فقد انخفضت قيمتها أيضًا مع اختيار المستثمرين للولايات المتحدة كملاذ آمن لاستثماراتهم بحسب ما أشارت إليه مؤسسة فريدريش ناومان.

أما على مستوى النواحي الاستراتيجية والأمنية -وهو ما سنتناوله بالتفصيل في هذه الورقة- فقد أسفرت هذه الأزمة إلى تشكل أو تأكيد تشكل روابط على مستوى المنطقة، إضافة إلى إعادة ترتيب بعض القوى الكبرى لأولوياتها الاستراتيجية.

الصين بين مساعدة روسيا وحماية المصالح

يظل الموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا محل الاهتمام الأكبر من العالم؛ نظرًا إلى كونها القوى الكبرى القريبة من روسيا، إضافة إلى الترقب الدولي من موقفها في قضية ضم جزيرة تايوان التي تعدّها جزءًا لا يتجزأ منها في إطار مبدأ “الصين الواحدة”. وصحيح أن بكين ربما تظهر في صورة المساند لروسيا خلال الأزمة الأوكرانية، لكن ذلك ليس هو المشهد بالكامل؛ ففي مطلع مارس العام الماضي، امتنعت الصين -بين 35 دولة أخرى- عن التصويت لصالح مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بالوقف الفوري للتدخل الروسي في أوكرانيا وبانسحاب القوات الروسية فورًا، وهو نفس الموقف الذي اتخذته إيران والهند اللتان تتمتعان بعلاقات قوية مع روسيا.

هذا الموقف لم يمنع بكين من استمرار علاقاتها القوية مع موسكو، بل كانت سوقًا بديلة بالنسبة للنفط الروسي الذي واجه العقوبات الغربية؛ فقد زادت واردات الصين من الخام الروسي بنسبة 8% من حيث الحجم، ولكن 44% من حيث القيمة بالدولار الأمريكي مع ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا بحسب ما تشير صحيفة South China Morning post.

هذا الموقف يمكن تفسيره من خلال ما تقدمه مراكز الأبحاث الصينية نفسها حول السياسة الصينية بالتطبيق على هذه الأزمة، وهو ما يعرفه البروفيسور هوانغ يون سونغ، نائب عميد كلية الدراسات الدولية بجامعة سيتشوان بأن لدى الصين تقليدًا سياسيًا وثقافيًا يشجع الصداقة بدلاً من العداء وعلى الشراكة بدلًا من التحالف؛ لأن الأخيرة يتطلب بقاؤها إيجاد عدو مشترك، ولذلك طورت بكين عقيدة الشراكة بدون تحالف وجعلتها معيارًا إرشاديًا لسياستها الخارجية لتظل متوافقة مع حركة عدم الانحياز.

رغم ذلك، عملت الصين على الجانب الآخر لتقديم رؤيتها من أجل السلام في أوكرانيا عبر مبادرة من 12 نقطة تتضمن: احترام سيادة جميع الدول، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف الأعمال العدائية، واستئناف محادثات السلام، وحل الأزمة الإنسانية، وحماية المدنيين وأسرى الحرب، والحفاظ على سلامة محطات الطاقة النووية، والحد من المخاطر الاستراتيجية، وتسهيل صادرات الحبوب، ووقف العقوبات الأحادية، والحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والإمداد، وتعزيز إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، وذلك بحسب وكالة شينخوا الصينية.

هنا تنبغي الإشارة أيضًا إلى أن الحرب في أوكرانيا قد شجعت الصين على وضع رؤيتها الخاصة بالأمن العالمي أمام المجتمع الدولي، ما يشير إلى بداية تحرك من جانبها كقوة كبرى تغير الرؤية الحالية للأمن العالمي والمرتبطة بهيكل نظام دولي أحادي القطبية. يظهر هذا جليًا في الورقة المفاهيمية بشأن مبادرة الأمن العالمي والتي تتضمن التزام الصين بعدد من المبادئ، منها: رؤية الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، مع أخذ المخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، والالتزام بالحل السلمي للخلافات بين الدول من خلال الحوار والتشاور بحسب وزارة الخارجية الصينية.

اليابان.. تغيير استراتيجي كبير

تعد اليابان المثال الأبرز لتغيير الأولويات الاستراتيجية والأمنية لدولة آسيوية، وهو ما ظهر من خلال استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي صدرت في ديسمبر من عام 2022؛ فإلى جانب وضع الصين كتحدٍ استراتيجي أول لها، أشارت اليابان إلى روسيا كأحد أهم التحديات الاستراتيجية بالنسبة لها، ووفقًا للاستراتيجية فإن ما حدث من جانب روسيا يظهر أن موسكو لا تتردد في اللجوء إلى القوة العسكرية لتحقيق أهدافها الأمنية، وأنها تعمل على تسريع أنشطتها العسكرية في محيط اليابان، إضافة إلى تعزيز تسليحها في الأقاليم الشمالية.

ومن خلال هذه الوثائق، كسرت اليابان قيودًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث وضعتها على طريق اكتساب قدرات جديدة، مثل: القدرة على إجراء الهجوم المضاد، وإعادة تأهيل صناعة الدفاع المحلية، ومضاعفة إنفاقها الدفاعي بشكل أساسي في السنوات الخمس المقبلة.

وعلى مستوى العلاقات مع موسكو تحديدًا، فقد ضربت الحرب في أوكرانيا العلاقات –المتوترة بالأساس- بين روسيا واليابان في مقتل، فلو تتبعنا مسار هذه العلاقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا الحالي سنجد أن البلدين لم يصلا إلى اتفاق سلام يحل أزمة الأراضي الواقعة شمال اليابان والمعروفة باسم جزر الكوريل، وهو ما كان يسعى إليه رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي الذي اتخذ في عهده نهجًا تصالحيًا مع روسيا، ولكن ما حدث بعد الأزمة الأخيرة كان مختلفًا؛ فقد كان فرصة سانحة لرئيس الوزراء الحالي فوميو كيشيدا للعدول عن نهج سلفه تجاه روسيا، والاصطفاف بصورة أكبر إلى جانب الغرب لكن مع الإبقاء على سياسة دبلوماسية عند نقطة معينة.

وهنا تجب العودة مرة أخرى إلى الوثائق الثلاث المرتبطة بالأمن القومي الياباني، حيث أشارت في سياستها للتعامل مع روسيا أنها ستتضمن منع موسكو من اتخاذ إجراءات تقوض سلام واستقرار وازدهار المجتمع الدولي، بينما تتعاون مع حليفتها والدول ذات التفكير المماثل، أما بالنسبة لقضية الأقاليم الشمالية “الأراضي المتنازع عليها مع روسيا” فإنها ستبقي على سياستها الرئيسة المتمثلة في إبرام معاهدة سلام من خلال حل القضية الإقليمية.

الهند.. التوازن الاستراتيجي والوساطة

تمثل الهند في هذه الأزمة اللاعب الأكثر توازنًا في التعامل مع كل الأطراف؛ فمن ناحية كانت نيودلهي واحدة من بين الدول التي تلتزم الامتناع عن التصويت في الأمم المتحدة حيال أي قرارات تخص روسيا في هذه الأزمة، إضافة إلى استمرار الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدولتين، ومن بينها زيارة وزير خارجية الهند إلى موسكو في نوفمبر الماضي حيث وصف العلاقات بين الجانبين بأنها ثابتة ومختبرة بالوقت.

لكن إذا نظرنا إلى دوافع ثبات هذه العلاقة فقد نعود إلى 3 عوامل رئيسة، هي: النفط، والسلاح والصين؛ فبالنسبة للنفط أصبحت روسيا ثالث أكبر مورد للنفط للهند عام 2022 بإجمالي حوالي 15% من مبيعاتها، حيث استغلت نيودلهي تجنب الغرب للشركات الروسية في الحصول على سعر نفط مخفض.

أما السلاح، فتاريخيًا كانت الهند –التي كانت جزءًا من حركة عدم الانحياز- قريبة من الاتحاد السوفيتي في فترة الثنائية القطبية حيث كانت وارداتها من الأسلحة قادمة من الاتحاد السوفيتي لتصبح روسيا فيما بعد أهم مورد للسلاح لدى الهند، ورغم مساعي الهند لتنويع مصادر السلاح مؤخرًا فقد ظلت روسيا متربعة على عرش موردي السلاح للهند، حيث قدمت ما تقرب قيمته من 13 مليار دولار من السلاح لنيودلهي خلال السنوات الخمس الأخيرة بحسب إفادة رويترز.

أما عامل الصين فيظل مهمًا في ظل التنافس الإقليمي بين نيودلهي وبكين؛ إذ لا ترغب الهند -مع العزلة التي تواجهها موسكو من الغرب واتجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شرقًا- في توجيه بوصلته إلى الصين التي تتشارك معها آلاف الكيلومترات المتنازع عليها وذلك بحسب إفادة الباحثين في الهند، علاوة على أن نيودلهي لا تريد أن تخسر روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن يمكن الاعتماد عليه في استخدام حق النقض “الفيتو” في قرارات تخص الهند في أوقات الأزمات، وهو ماحدث سابقًا بحسب الباحث الهندي اشلي جي تيليس.

ولإحداث التوازن، تعمل الهند على الجانب الآخر على تعزيز علاقاتها مع الغرب والدول الحليفة للغرب في شرق آسيا لا سيما اليابان حيث تتشاركان معًا إضافة إلى الولايات المتحدة وأستراليا في الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم “كواد”.

ربما هذا “التناقض الاستراتيجي” بحسب توصيف بعض الباحثين يمثل دافعًا على الجانب الآخر للهند للعب دور في الوصول إلى خطوة التفاوض بين روسيا وأوكرانيا والوصول إلى السلام، وهو ما تراه مراكز الأبحاث الهندية من خلال تولي نيودلهي رئاسة مجموعة العشرين. لكن رغم ذلك فإن هذا الأمر حتى الآن لا ينعكس على أرض الواقع، لاسيما وأن اجتماع وزراء خارجية العشرين الذي استضافته الهند مطلع مارس الجاري لم يسفر عن الوصول إلى أي موقف موحد حيال الأزمة.

الخلاصة، أثرت الحرب الأوكرانية على خارطة التحالفات السياسية والأمنية في آسيا؛ فقد عززت من التقارب بين الصين وروسيا، وأسهمت في تحرك الصين نحو وضع رؤية خاصة نحو الأمن العالمي، فيما تحركت اليابان لكسر قيود كانت قد فرضت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من أجل تعزيز أمنها القومي ووضع كل من الصين وروسيا كتحديين استراتيجيين، فيما تسير الهند على خيط رفيع لإحداث التوازن في علاقاتها بين روسيا والغرب حماية لأمنها القومي ومصالحها الاقتصادية في مواجهة المنافس الاستراتيجي الأول “الصين”.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75970/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M