د. توفيق أكليمندوس
أسفرت نتائج الانتخابات التشريعية في فرنسا عن وضع هو قطعًا غير مسبوق في عصر الجمهورية الخامسة، بل يمكن القول إنه تمت صياغة أحكام دستور ٥٨ لمنع ظهوره، وهو وضع يكون فيه النظام شبه برلماني، ولا توجد أغلبية برلمانية فيه، وتكون فيه الفوضى أو الشلل من السيناريوهات المحتملة.
استهدف دستور ديغول وجود سلطة تنفيذية قوية ترتكن إلى أغلبية برلمانية مريحة. المشرع أقر نظامًا للانتخابات التشريعية قائمًا على الانتخاب الفردي في جولتين. وفي بلد مثل فرنسا فإن هذا النظام يقلل من فرص القوى السياسية العاجزة عن عقد تحالفات مع غيرها، وهي غالبًا قوى متطرفة، لأن هذا العجز معناه أنها لن تكون قادرة على الحصول في الجولة الثانية بأي انتخابات على أصوات مرشح منافس خرج منذ الجولة الأولى، وفي المقابل يسهل هذا النظام تشكيل أغلبية برلمانية مريحة دون التمتع بأغلبية في الشارع. فمثلًا يستطيع مرشح أن يحصل على ثلث الأصوات في الجولة الأولى ويصعد إلى الجولة الثانية، ثم ينجح لأن ناخبي الأحزاب التي لم تتأهل للجولة الثانية يصوتون له. وعيب المنظومة الدستورية والانتخابية أن تشكيل البرلمان لا يعكس موازين القوة في الشارع، وهذا أحد أسباب الاضطرابات والاحتجاجات شبه الدائمة. نجد مثلًا أن حزبًا مثل حزب لوبن يتمتع باستمرار بتأييد خمس الناخبين على الأقل، ولا يحصل إلا على ستة مقاعد في البرلمان من ٥٧٧، وأحيانًا يفشل هذا الحزب في الحصول على مقعد واحد. فالحزب مهما كانت نتائجه في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية يواجه حائطًا أو سقفًا لا يستطيع تجاوزه، لا يحصل في الجولة الثانية على أصوات ناخبي الأحزاب الأخرى إلا فيما ندر.
قارن مثلًا بين نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية سنة ٢٠١٧ وتشكيل مجلس الأمة بعد الانتخابات التشريعية التي تلت فوز الرئيس ماكرون بولايته الأولى، فقد حصل ماكرون على أكثر قليلًا من ٢٤٪ في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وحزبه حصل على ٣٥١ مقعدًا من ٥٧٧، مارين لوبن حققت ٢١٪ ثم حصل حزبها على ٦ مقاعد فقط، اليمين الجمهوري حقق ٢٠٪ ثم حصل على ١٣٦ مقعدًا، نكتفي بهذا القدر فالمقصود واضح. نضيف أن الناخبين تكيفوا والقواعد، ولذلك تراهم لا يعطون صوتهم لمرشح لا يملك فرصة معقولة للفوز بالمقعد إثر الجولة الثانية، ويميلون إلى منح الرئيس ما يسمح له بالحكم فيصوتون لمرشح حزبه إلا لو كانوا من المعارضين له معارضة تامة (بمعنى مثلًا أن ناخب حزب يساري سينتخب في التشريعية مرشح الرئيس اليساري الآتي من صفوف حزب يساري آخر ليمكن هذا الرئيس).
هذه المقدمة الطويلة ضرورية لفهم عنف الزلزال الذي أصاب الحياة السياسية الفرنسية مع إعلان نتائج الجولة الثانية للانتخابات التشريعية. فمن ناحية، فشل الرئيس في الحصول على الأغلبية المطلقة أو حتى الاقتراب منها، فلم تحصل الأحزاب المؤيدة له إلا على ٢٤٥ مقعدًا، في حين أن الأغلبية تقتضي الحصول على ٢٨٩ مقعدًا، ومن الصعب تخيل كيفية بناء تحالف ثابت يضمن أغلبية ثابتة للرئيس، فالحزب الأقرب فكريًا له وهو الجمهوريون (اليمين المعتدل) له ضغائن مبررة (فقد حاول ماكرون تدمير الحزب بكل الأساليب) ولا مصلحة له في تسهيل مهمة الرئيس دون مقابل، ومقابل ذلك يجبر الرئيس على التراجع في بعض الملفات الهامة. ومن ناحية أخرى، يفترض التفاوض وجود قيادة تستطيع أن تتكلم باسم الكل والحزب الجمهوري دون قيادة حاليًا. ووفقًا لما يقوله المراقبون فإن الدعوة للعمل مع الرئيس لا تتمتع بأي شعبية في صفوف الحزب. على المدى المتوسط أو الطويل نستطيع تخيل صيغ تسمح بإقامة التحالف، ولكن الوضع أصعب بكثير في المدى القصير.
ومن ناحية أخرى، حقق حزب مارين لوبن نجاحًا كبيرًا هائلًا، ففاز بـ٨٩ مقعدًا. في المجلس السابق لم يكن للحزب سوى ٦ مقاعد، والإنجاز ليس فقط هائلًا لأسباب “كمية”، ولكنه بالغ الأهمية لسبب هو انهيار الحائط الذي يحول دون الحصول على أصوات ناخبي أحزاب أخرى. صحيح أن عدد المقاعد التي حصل عليها ما زال أقل من وزنه في الشارع، ولكن الطفرة هائلة، ولم يتوقعها أحد رغم رصد الجميع ازدياد أعداد ناخبيه منذ الجولة الأولى. وشاهد اليوم الذي تلا الانتخابات تراشقًا بين أقطاب كتلة الرئيس والتحالف اليساري، حول مسئوليتهم عن “انهيار الحائط”، ويقول المراقبون إن ناخبي ميلانشون مدفوعون برفضهم للرئيس، انتخبوا بكثافة مرشحي لوبن في الجولة الثانية. ويقول المراقبون إن نواب الحزب من الشباب والنساء قليلي الخبرة، ولكنهم حريصون على مظهر الحزب وسمعته فهم مؤدبون متواضعون بارعون في إخفاء تطرفهم، واختلاف مهنهم وأصولهم الاجتماعية مرآة جيدة للمجتمع (ما عدا المكون المهاجر طبعًا)، وتتساءل التكهنات عن مستقبلهم ومسارهم المستقبلي بين النضج والتطرف.
ورغم براعة زعيم التحالف اليساري ميلانشون فإن النتيجة جاءت مخيبة لآمال ناخبي اليسار، فنصيب التحالف من الأصوات لم يتحسن، ولم يحصل إلا على ١٣١ مقعدًا، ٧٢ لحزب فرنسا التي لا تخضع (حزب ميلانشون)، ٢٤ للحزب الاشتراكي، ٢٣ للخضر، و١٢ للشيوعيين، وهناك بعض الغموض يكتنف مستقبل التحالف، فالاتفاق المؤسس للتحالف نص على أن يحتفظ كل حزب بمجموعة برلمانية خاصة به. والسؤال: هل توجد مجموعة واحدة تحتوي ٤ مجموعات أم توجد ٤ مجموعات؟ السؤال ليس سفسطة، فلقب زعيم المعارضة وبعض المناصب على المحك، هل التحالف المعارض الأول أم حزب لوبن؟ التحالف يسبق حزب لوبن في عدد المقاعد، ولكن حزب لوبن يسبق كل المكونات. على العموم عرض ميلانشون في اليوم التالي للانتخابات صهر كل المكونات لتصبح مجموعة واحدة ورفض الكل اقتراحه هذا.
ويلاحظ أن اليمين الجمهوري رغم انهيار مرشحته في الانتخابات الرئاسية استغل وجوده القوي في بعض الأقاليم وحصل على ٦١ مقعدًا، وهو عدد معقول يتيح لهم وزنًا أكبر من وزن كتلة ناخبيه، شأنه شأن حاجة حزب الرئيس إلى تأييدهم ولو كان جزئيًا.
يتعين هنا التشديد على كون فرنسا ليست ألمانيا وليست الولايات المتحدة. في ألمانيا السلطة موزعة بين عدة جهات، وهناك ثقافة وآليات تثمن التحالف والتوافق والحلول الوسطى. وفي فرنسا، السلطات مركزة، والدولة مركزية وقوية، وللسلطة التنفيذية موارد وقدرات وهالة، أي أن من يتولى الرئاسة يتمتع بمزايا لا يتمتع بها غيره، وتفرض على من يتحالف معه وضع الخادم مهما كانت أفضاله على الرئيس، ولا توجد أي ثقافة حلول وسطى، حتى في أوساط الأحزاب التقليدية، أو في الأوقات عادية، ونحن نعيش مرحلة غير عادية، رئيس مرفوض ومكروه جماهيريًا ولم يُنتخب إلا لكونه أخف الأضرار، وجود حزبين شديدي التطرف حتى بالمقاييس الفرنسية، ووضع مالي واقتصادي واجتماعي بالغ الحرج. وفي الولايات المتحدة لا يوجد إلا حزبان يحسب لهما حساب، والدستور وضع آليات الضوابط والتوازنات، ورغم الاستقطاب الحاد فإن هناك توافقًا معقولًا حول بعض القضايا.
القصد هو أن هذا الوضع الناتج عن الانتخابات الفرنسية ليس وضعًا كوضع ألمانيا. في ألمانيا يعلم كل الفرقاء أن عليهم التحالف مع الغير، ولهم خبرة في التفاوض. في فرنسا ثلاث قوى يكره كل منها الاثنتين الأخريين، ولا يمكن تقسيم الكعكة بطريقة عادلة نظرًا لوزن الرئاسة. وفي حالة الرئيس ماكرون فإن طباع الرئيس وعناده وتصوراته عن قدراته وميوله السلطوية والاحتكارية جزء هام من المشكلة.
لا يعني هذا أن الوضع يائس، يتصور أعضاء حزب الرئيس ماكرون أنهم يستطيعون تكملة المشوار وتمرير القوانين والتشريعات بالتفاوض في كل حالة على حدة إما مع اليمين أو مع عقلاء اليسار، وهذا ممكن ولكنه سيرهق الفرقاء ويعطل العمل الحكومي. وهناك من يرى أن التحالف مع اليمين ممكن، ومن يرى أن الأحزاب اليمينية التي انخرطت في الكتلة المؤيدة للرئيس قد تنجح في بناء كتلة يمينية كبيرة بالتحالف مع الجمهوريين ليزداد وزن اليمين زيادة تحسن موقفه التفاوضي، ولكنني أظن أن هذا مستبعد حاليًا، أو قل سابق لأوانه.
ولا ننسى طبعًا أن الرئيس له -دستوريًا- الحق في حل المجلس، ولكنه نفسيًا لا يستطيع أن يفعلها الآن، لأن عقاب الناخبين قد يكون قاسيًا. وسياسيًا لا يستطيع أن يفعلها قبل أن يثبت أن سلوك البرلمانيين مدمر ومخرب ومعطل، وهذا التهديد (حل المجلس) قد يدفع اليمين المتطرف واليمين الجمهوري والاشتراكيين والخضر إلى التحلي بروح المسئولية، وقد لا يكفي لكبح جماحهم ورغبتهم في إفشال وإذلال رئيس مكروه، وقد لا يكفي لتقريب المواقف بين الفاعلين فلكل منهم رؤية لمستقبل فرنسا وللعولمة والمشروع الأوروبي.
يلاحظ أننا لم نتعرض لأسباب فشل الرئيس وحزبه، ولا يتسع المجال للخوض التفصيلي العميق في هذا نظرًا لفداحة وكثرة أخطائه وأخطاء حكومته. نكتفي هنا بعينة، ونقول أولًا إن الفرنسيين كانوا مستائين من انفراده بكل القرارات، ومن احتكاره للمشهد، ومن تعاليه، ومن ميوله السلطوية، ومنذ اليوم التالي لفوزه بولاية ثانية أفادت كل استطلاعات الرأي بأن الفرنسيين يريدون ألا يتمتع الرئيس بأغلبية مطلقة في البرلمان تتيح له حرية حركة لأنه يسيء استخدامها، ولم ينتبه الرئيس إلى هذه الإشارات التحذيرية. وثانيًا أضاع الرئيس ثلاثة أسابيع في التفكير الصامت وفي تحديد أسماء مرشحي كتلته مع حرص على تحجيم وقص ريش بعض حلفائه مما ترك أثرًا سيئًا في نفوسهم وفي نفوس الرأي العام، ثم اختار رئيسة وزارة من التكنوقراط الأكفاء ولكنها لا تتمتع بخبرة سياسية، مما كرس انطباعًا مفاده أن الرئيس يريد مواصلة احتكار القرار والمشهد، وأن رئيسة الحكومة ليست إلا معاونة له، وأوحى تشكيل الحكومة أنه يغازل اليسار الراديكالي بطريقة استفزت اليمين، فعين وزيرًا للتربية والتعليم كفؤا وشريفًا لكنه ينتمي إلى تيارات فكرية يكرهها اليمين، وأوضحت الأحداث أن تبني خيار مغازلة اليسار خطأ جسيم، أفقده كمًا مهولًا من الأصوات، وتسببت إدارة حكومته لفضيحة نهائي كأس أوروبا للأندية وإصرارها على الكذب في روايتها للأحداث في دعم فرص لوبن، ولم يهتم بالإشراف على الحملة الانتخابية وهذا قد يكون محمودًا لو سدت رئيسة الحكومة الفراغ، وهذا لم يحدث. ورغم أن ميعاد إجراء الانتخابات معروف سلفًا فإنه اختار الأيام السابقة على الجولة الثانية للقيام بجولة خارجية، وهذا قوّى الانطباع بأنه يتجاهل شعبه.
وساهمت أخطاء ميلانشون في تصعيد لوبن، حيث انتقد الشرطة بقسوة، غير منتبه إلى أنها تتمتع بسمعة جيدة في فرنسا، وأن الفرنسيين يرون فيها الحصن الأخير ضد الجريمة، ثم دعا من أسماهم “الناخبين الفاشيين” إلى التصويت له، وطبعًا هذه زلة لسان غير مقصودة، ولكنها اعتبرت كاشفة لرأيه في ناخبي لوبن.
هل هذه الانتخابات حادث عرضي سببه سوء إدارة الفريق الحاكم؟ أم علامة فارقة ونقطة انطلاق لصعود المتطرفين وانحسار المعتدلين لعجزهم عن مخاطبة الفصائل المتضررة من العولمة؟ لا نعلم، هل الوضع الجديد سيعلم الفرقاء فنون التفاوض والتوصل إلى حلول وسطى أم سيكون مدخلًا إلى مزيد من الاستقطاب والفوضى؟ لا نعلم.
هل سيتمكن الرئيس ماكرون من إدارة هذا الوضع الجديد أم لا؟
الإجابة إلى الآن لا تزال غير معلومة.
.
رابط المصدر: