يوتوبيا الدولة العادلة في الذاكرة العراقية

حكمت البخاتي

ذكر المؤرخ المسعودي عن رجل من قريش أنه بلغ بلاد الصين وألتقى بإمبراطورها، وفي حوار سياسي وتاريخي دار بينهما أخبره امبراطور الصين أن منازل ملوك العالم تبدأ عندهم بأوسع الملوك ملكا وهو ملك العراق لأنه أوسط الدنيا والملوك محدقة به وأن اسمه عندهم هو ملك الملوك – مروج الذهب، ج 2 ص 161-

وروى هذا المؤرخ الكبير عن مراسلة جرت بين عمر بن الخطاب واحد حكماء ذلك العصر كما وصفه المسعودي وفيها يسأله عمر عن البلاد التي حول العرب فأجابه عن العراق بأنه منار الشرق وسُرة الأرض وقلبها…. وهو المجتبى من قديم الزمان وهو مفتاح الشرق ومسلك النور – م ن ج1 ص36 –

وهو وصف يفصح عن موقع العراق في الجغرافيا السياسية في التاريخ القديم وعن موقعه المؤثر والبالغ الأهمية في المنطقة في التاريخ الحديث، وهو ما يفسر تلك الحروب التي تعرض لها العراق ومحاولات الغزو المستمرة له على مدى التاريخ القديم وصولا الى التاريخ الوسيط.

فقد ذكر لونكريك أن دار السلام – بغداد – بقيت جذابة غنية مهيبة الجانب لكنها كانت خائرة القوى واقرب الى الخيال من الحقيقة بعد ان عصفت بها ريح الخراب فدهمها سنة 1258م هولاكو… فاستحالت في يوم واحد من مركز الخلافة الاسلامية الذي لاند له الى مركز هامشي من مراكز الامبراطورية الايلخانية – أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ستيفن لونكريك، ترجمة جعفر الخياط، ص 26-

ويستمر لونكريك في عرض أحداث الحروب والسياسة المروعة التي مرت على العراق في أربعة قرون إنتهاء الى بدايات القرن العشرين، مما يعكس الأهمية البالغة والاستراتيجية للعراق وصولا الى التاريخ الحديث.

وكان لونكريك يكتب أوراقه وهو يحل في بغداد متأثرا باللوحة التاريخية المرسومة عنها في الذهن الأوربي، وتكشف كلماته ومن قبله كلمات المؤرخ المسعودي عن الثراء المعنوي الذي يمتلكه العراق في ذاكرة العالم، وهو ما كرره في الحديث عن بغداد الرحالة جيمس بلي فريزر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ويقول “وتغص البلاد المحيطة بنا كلها بالأشياء المهمة التي تلفت النظر وتستدعي الاستكشاف” – رحلة فريزر الى بغداد في 1838م، جيمس بلي فريزر، ص74- ويتحدث عن جمال بغداد وبناءها ودجلتها بشغف كبير.

لكن الرحالة الأب بارثيملي كاريه الذي زار العراق في القرن السابع عشر الميلادي يقول في بغداد ” زرت كل شيء فيها فلم أشاهد سوى بعض أثارها القديمة الجميلة… و… لم أشاهد فيها ما يدل على عظمتها كونها المدينة الثالثة التي شيدت على أطلال بابل القديمة ” – رحلات الأب بارثيلمي كاريه، الأب بارثيلمي كاريه، ترجمة د.أنيس عبد الخالق محمود، خالد عبد اللطيف حسين، ص 98 -.

وهكذا تظل بغداد أو العراق عامة رهينة انبثاقات بابل الأولى، تلك الانبثاقات الساحرة في المخيلة الغربية الأوربية ورهينة انبثاقات الإمبراطورية الاسلامية في المخيلة الشرقية الاسيوية. ولغرض التدليل على جغرافيا العراق الكونية يذهب الباحثون من العراقيين وغيرهم الى استعادة ذاكرة التاريخ الابراهيمي وبدايته الفاصلة في مدينة أور العراقية.

لقد بدأ النبي ابراهيم رحلته الدينية من ضفاف الفرات الى العالم ليعيد ربط العالم بالعراق – راجع أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ، عبد الأمير الركابي – وجعلت هذه الحقبة الكونية في ذاكرة العراق ومنه جغرافيا دائمة الحضور في الحدث السياسي في المنطقة وأحيانا في العالم، وصار بهذا المبدأ التاريخي محكوما بتحولات التاريخ وأنماطه الفاصلة في طبيعة التحولات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يفسر هذا اللااستقرار السياسي والاجتماعي الذي يشهده العراق باستمرار، لأنه يقف بجغرافيته دائما على أعتاب ممرات التاريخ اللامستقر والقلق والكثير الاضطراب، وهو تصوير ينطبق تماما على تاريخ العراق وعلى مجتمع العراق الذي تشكل ليس وفق جغرافيته وانما دائما وفق تاريخه الحامل لتناقضات الدول والمجموعات الغازية والمستقرة لاحقا فيه.

وقد ترسبت تلك التناقضات والرغبة المستبطنة في الشخصية العراقية بالصراعات في قاع اللاوعي لدى المجتمع العراقي بفعل التاريخ المستمر لها، وهي ما شكلت أخطر أسباب أزمة الدولة العراقية التي اصطدمت بالبنية العراقية المركبة بفعل وتأثير هذه التناقضات التي ترسخت في جينولوجيا التشكيل الاجتماعي في العراق، وهو وصف أجده أكثر قربا من الناحية البحثية في توصيف بنية هذا التشكيل الاجتماعي في العراق المتشكل من مكونات غير متجانسة كليا وهو شرط المجتمع في تكونه وتطوره، بينما التشكل الاجتماعي العراقي لازال في طور التحول نحو المجتمع ولم يحرز دائما المرحلة الأخيرة في هذا التطور، وهو ما يعبر عن أزمة التأسيس في الدولة العراقية التي لا زالت هي الأخرى في طور ما قبل التأسيس ولم تدخل مرحلة التأسيس الى هذه اللحظة.

فالدولة كائن عضوي ينمو في الوسط الاجتماعي القابل للنماء السياسي والاجتماعي لكن الواقع الاجتماعي العراقي غير قابل للنماء وسط الدولة فالعصيان على نماء الدولة حالة عراقية متكررة تنبه لها الجاحظ تـ 255هـ في عصره لكنه لم يتقن اختبار أسباب عدم النماء أو المعبر عنه بالعصيان في نصه فهو يقول “ان العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء… أن أهل العراق أهل نظر وذو فطن ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح… والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء واظهار عيوب الأمراء”.

وهي تحليلات قابلة للنفاذ والتطبيق على الثورات والحركات التي قام ويقوم بها أهل العراق دائما لكنها لا تتسع الى مجال تحليل العلاقة بالدولة، فالدولة محكومة في ذاكرة كل عراقي بتلك الطوباوية المسرفة في الخيال السياسي والاجتماعي، وهي الدولة التي تستحضر في اللاوعي العراقي نموذجها التوراتي ذي الجذور العراقية في أرض شنعار التي تفيض لبنا وتدر عسلا، أو انها تلك المدينة السعيدة الطوباوية التي تحتفظ برويها الذاكرة السومرية وهي تحن الى ماض سعيد – راجع، في تاريخ السعادة، حكمت البخاتي، موقع مؤسسة السجناء السياسيين –.

جذور اليوتوبيا العراقية

تشير البحوث التاريخية الى انعكاسات تلك الرؤية عن حلم دلمون السعيد، وهي الأرض السعيدة أو عالم الخيال السعيد في الدولة في الذاكرة السومرية، وباستعدادها الثقافي القديم هذا تبنت الرؤية العراقية فكرة العصمة في الحاكم الذي وجدت فيه هذه الرؤية المحلية الأقرب الى تصوراتها الثقافية والسياسية في الدولة المنشودة منذ الحلم البابلي القديم الذي أرساه حمورابي في مسلته الشهيرة والهادفة الى إرساء دولة العدل والسعادة كما نصت عليه الديباجة الخاصة بهذه المسلة الأقدم في تاريخ البشر.

ان حمورابي يقول:

“حمورابي الأمير التقي الذي يخشى الآلهة

لأوطد العدل في البلاد

لأقضي على الخبيث والشر

لكي لا يستعبد القوي الضعيف

ولكي يعلو العدل كالشمس فوق ذوي الرؤوس السود

ولكي ينير البلاد من أجل خير البشر”

-الشرائع العراقية القديمة، فوزي رشيد، ص 133-.

وهكذا تضخمت يوتوبيا الدولة العادلة في الذاكرة العراقية وصارت معيارا منفردا في نظام الحكم الذي تطمح اليه الشخصية العراقية، وجرى تطبيقه على كل أنظمة الحكم في العراق التي لم تستجب الى هذا النموذج في كل مراحل التاريخ العراقي تقريبا، وهي ما شكلت مفارقة تاريخية صادمة. ونجد في كتاب الحكمة البابلية سبعة عشر نصا تذكر التهديدات الموجهة من الآلهة والحكماء الى ملوك العراق القديم اذا لم يلتزموا العدالة في نظامهم السياسي والقانوني ويقول النص الأول فيها “اذا الملك لم يكترث للعدالة فإن شعبه يضطرب وبلاده تدمر” –الحكمة في وادي الرافدين، سهيل قاشا، ص 122- مما يؤكد الرغبة المستديمة في الذات العراقية نحو الدولة المثالية وفوق التاريخية، وان هذا الحلم السياسي يقف خلف حركات واضطرابات العراق السياسية والاجتماعية وليس كما يذهب الجاحظ الى الفطنة العراقية.

وفي البحث الجينولوجي –الذي يتناول الجذور الأكثر قدما في التأسيسات الثقافية الكبرى– عن تمركز يوتوبيا الدولة العادلة أو مفهوم الملك العادل بالمطلق في الذاكرة العراقية نجد ان الملك العراقي القديم وفي احتفالات الدولة العراقية القديمة في بابل يقوم في طقس ديني–سياسي بالدوران في أرجاء المعبد ويلقي شارات الحكم امام الآلهة ويقدم تقريرا عن أعماله وخدماته في السنة التي انقضت ويشكل اعترافه بالذنوب وبراءته من الاحداث السيئة طقسا مهما في هذا الاحتفال وأخيرا يقوم رئيس الكهنة بصفعه على وجهه مع جر الأذنين مشددا عليه تأديته كل واجباته الدينية ثم يأذن له بحمل شارات الحكم من جديد –أرضوتوبيا العراق، عبد الأمير الركابي، ص 43، –

ويبدو أن هذا الطقس كان يمارس في نهاية كل سنة مما يمكن أن نعده من تقاليد الحكم العادل افتراضا في تاريخ العراق القديم، وبهذا المعنى تكتمل صورة الملك العادل في الذهن العراقي. إنه الملك الذي يستجيب الى كل رغبات الشعب بل الى كل رغبات الأفراد، وان رئيس الكهنة في المشهد الاحتفالي أو في هذا الطقس الديني–السياسي يتقمص روح الشعب العراقي في فرض رغباته على الملك فيكتمل شرط العدالة فيه.

ونجد تجليات هذا المشهد مرة أخرى في انطباق تصورات العدالة هذه وفق الذهن العراقي على شخص الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لازال يحتل موقعا في الذاكرة العراقية الحديثة والشعبية منها تحديدا لأنه مارس دور الملك العراقي العادل القديم في استجابته الى رغبات الأفراد في صفوف الشعب وتحقيقه مطالب بعض الفئات الشعبية في العراق، وهي الصورة الوحيدة التي ظلت الذاكرة الشعبية العراقية محتفظة بها لهذا الرئيس العسكري رغم فشله في البناء السياسي للدولة العراقية بل لعله هو من وضع هذه الدولة على حدود الهاوية لدى بعض العراقيين.

ويبدو أن واقعة التأسيس الأول للدولة على مستوى الحضور في التاريخ البشري الذي مارسه العراق القديم ظل يضغط على أوفي صميم الضمير العراقي بمفهوم الدولة العادلة أو مفهوم الملك العادل، ويترجم هذ الاحساس في اللحظة التأسيسية الأولى هو الحضور البهي لدلمون في الذاكرة العراقية والتي عرفها بأرض الفردوس والخلود وتقدم صورتها مثلا أعلى للأرض – الدولة التي تتوفر على السعادة الكاملة جاء في وصفها السومري:-

– في دلمون لا ينعق الغراب الاسود

– ولا يصيح طير ألـ “اتدّو” ولا يصرخ

– ولا يفترس الأسد

– والذئب لا يفترس الحمل

– ولم يعرف الكلب المتوحش الذي يفترس الجدي

– ولم يعرفوا…… الذي يفترس الغلة

– ولم توجد الأرملة

– والحمامة لا تحني رأسها

– وما من ارمد يشتكي ويقول عيني مريضة

– وعجوز دلمون لا تقول أنا عجوز

– ولا يقول الشيخ أني شيخ طاعن في السن

– والمنشد لا يعول بالرثاء

– وفي طرف المدينة لا ينوح أو يندب

(من ألواح سومر، صموئيل كريمر، ترجمة طه باقر، ص258).

وتستمر اسطورة مدينة الخلود والحياة “دلمون” في وصف الحياة السعيدة والمثالية التي يعيشها القاطنون في هذه الأرض، دولة يوتوبيا العدالة المطلقة أو الدولة المثالية في الذاكرة البشرية.

ولعل هذه الأسطورة هي مصدر الحلم التوراتي بالأرض الموعودة في سنوات الأسر اليهودي في العراق وفيه تكونت فكرة أرض الميعاد حيث نجد وصفا مماثلا لما ورد في الأسطورة العراقية حول دلمون في سفر أشعيا: 11 6، 9 حول مملكة السلام. وهكذا ظل ينوء الحلم العراقي بأثقال ذاكرته وفي الوقت نفسه ظل يؤسس لأفكار فوق المستوى التاريخي للدولة.

والمفارقة التاريخية الصادمة أن كل الأنظمة السياسية التي توارثت حكم العراق كانت على الضد من الحلم العراقي في الدولة العادلة ما عدا فترات من الحكم العادل قصير الأجل ومحدود العمل، مما أورث عدم الرضا الكامن في البنية العراقية تجاه الدولة وأورث هذا التمرد الدائم على أنظمة الحكم في العراق، وما أكثر حديث المؤرخين المسلمين عن الحروب الداخلية وحركات التمرد والثورة في العراق. ففي كل موسم تتجدد الانقسامات والاشتباكات بين أهل العراق والخليفة والسلطان حتى صار من يريد حربا على السلطان من الشيعة والخوارج يلجأ الى العراق ليتخذ منه عونا وجندا ضد الدولة والسلطان – راجع مقاتل الطالبيين، ابي الفرج الأصفهاني، وراجع تجارب الأمم، أبو علي مسكويه الرازي ج 2،3،4،-

ويورد الكاتب باقر ياسين جردا بأسماء ملوك العراق الذين قضوا قتلا بفعل هذه الاضطرابات والحركات السياسية بدءا من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وتبدأ بالملك السومري ريموش بن شاروكي 2275 ق م وتنتهي بصدام حسين في العام 2006 عام اعدامه – شخصية الفرد العراقي، باقر ياسين، ص 52 –

ونتلمس في التاريخ الأسطوري لمدينة بغداد بعضا من علل هذا التمرد بوجه الطغيان السياسي في العراق، قال أبي سهل بن نوبخت: أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع ففعلت… فخبرته بما تدل عليه النجوم من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس الى ما فيها – معجم البلدان، ياقوت الحموي، 4 ص 460- فالفقر الضارب بأطنابه بين الشعب في بغداد هو أزل تاريخي فيها وجذر راسخ في سياسات الدول تجاه شعوبها فيها وتأكيد للمفارقة التاريخية فيها بنفي حلم الدولة العادلة. وتكشف تلك النبوءة الفلكية في دلالتها الاسطورية عن واقع متأزم يسكن بغداد منذ بدايتها نتيجة الحرمان الذي نصت عليه نبوءة أبي سهل النوبختي رغم أنها كانت مدينة الغنى والثروة لكنها ظلت حصرا بأولي الأمر فيها وأصحاب السلطة والصولجان فهي في نظرهم “جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الاسلام ومجمع الرافدين وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات” وفي ذلك يقول بعض الصالحين كما ينقل ياقوت الحموي:

إن بغداد للملوك محل

ومناخ للقاريء الصياد

ويقول أخر

بغداد أرض لأهل المال طيبة

وللمفاليس دار الضنك والضيق

– المصدر نفسه ج 4، ص 464 –.

وبهذا كانت تتهيأ الاسباب للتمرد والثورة على أنظمة الحكم السياسي في العراق لأنها لا تستجيب دائما الى الحلم القديم الجديد دائما في العدالة والسعادة وليس كما يذهب الجاحظ الى الفطنة العراقية وحسب، وهذا الحلم العراقي بامتياز هو ما يفسر نشوء اليوتوبيات المهدوية بتواصل مستمر في العراق رغم إدانة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام لها ومنعهم من الامتثال لقادتها. وحركات الغلو في هذه اليوتوبيات من الكيسانية الى المغيرية الى البيانية وصولا الى الواقفية، وشمل رفض فرقة الامامية لهذه اليوتوبيات المهدوية ما جاءت به الدعوات الفاطمية والقرمطية التي كانت تتخذ من أرض العراق منطلقا ومبعثا لحركاتها ودعواتها وهي تعبر عن ترجمة حلم الدولة العادلة في الموروث الثقافي العراقي الذي كرس الولاء للإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام لأنه جسد الحلم العراقي القديم في الملك العادل وكان سببا مهما في انتشار التشيع في العراق لأن التشيع يقوم على عقيدة النص على الامام العادل-المعصوم.

وتكشف متابعة جذور الحلم العراقي وتاريخه عن اشتباك دائم مع الواقع العراقي والذي لازال مستمرا وأن فرص تحققه غير ممكنة في ظل التشرذم الجماعوي-السياسي والمتكيء على الرؤية الخارجة على المألوف التاريخي والهائمة بزيف اليوتوبيا غير القابلة للإنجاز التاريخي في صيغ الدولة القومية – البعثية والاشتراكية – اليسارية وأخيرا الليبرالية – الاميركية، وإشكالية هذه الدولة المتخيلة ايديولوجيا أنها نابذة للواقع السياسي العراقي الذي تحدد أبعاده وتشترك في رسم خطوطه وأحيانا تفاصيله المصالح الدولية والاقليمية والمحلية وهي المعادلة الصائبة في بناء الدولة العراقية وبترجيح للمصلحة الوطنية بين تكافؤ هذه المحاور الثلاث والتي اذا لم تتكافا أو تتعادل فأن الدولة في العراق تظل تعاني إشكالا تاريخيا على مستوى التأسيس الحديث لها، لا سيما وأن نموذج الدولة الحديثة المتأخر صار محكوما باشتراطات خارجية دولية وإقليمية وان الدولة لم تعد كائنا سياسيا مستقلا بشكل مطلق أو ذات سيادة مطلقة.

فأعظم دول العالم في التاريخ المعاصر أو الدول الكبرى لم تعد قادرة على اتخاذ قراراتها بشكل منفرد او يكون قرارها سياديا مستقلا بلا مراعاة الشرط الدولي والإقليمي، ولعل عجز أميركا عن تحقيق سياساتها في المنطقة وبعض أجزاء العالم لا سيما في حربها الاقتصادية مع الصين وكذلك عجز دول الاتحاد الأوربي عن فرض سياساته الخارجية مثال الاتفاق النووي – الايراني بسبب الجموح الأميركي، وكذلك عجز بريطانيا عن تنفيذ سياسة البركسيت إنما له دلالة واضحة على ارتهان القرار السياسي والاقتصادي للدولة الحديثة في التاريخ المعاصر بالمتغيرات السياسية الخارجية الدولية والاقليمية مما يؤثر قطعا في السيادة واستقلال القرار لها.

وبالقدر الذي تحتاجه الدولة العراقية الى الاستجابة الى حلم العدالة الماكث في الذهنية العراقية وترويض هذه اليوتوبيا بشكل واقعي فإنها بحاجة الى الاستجابة الى المتغير السياسي المحلي والدولي والاقليمي وبناء علاقة متكافئة مع الشرط الدولي والاقليمي في استجابة واضحة الى الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه العراق وتجاوز ظاهر لليوتوبيا العراقية الجامحة نحو المستوى فوق التاريخي للدولة العراقية.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/21871

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M