١١ أيلول.. دروس للولايات المتّحدة

ترجمة: ابراهيم قنبر

افتتاحيّة “لوموند”:

بعد عشرين سنة، تنسحب الولايات المتّحدة متأثرةً بصدمتها من أخطائِها، والهدف تحقيقُ انتشارٍ أفضل بعد تصحيحِ ما مضى. وهذا يقتضي قبلَ كلّ شيء مداواة جروح مجتمعٍ منقسمٍ بشدّة.

عندما اصطدمتْ طائرتا ركابٍ في ١١ أيلول /سبتمبر بالبُرجين التوأمين لمَركز التّجارة العالميّ، كانت الولايات المتّحدة وقتَها في ذروة أحاديّة القطب، حتّى إنّها كانتْ تبدو مثبّتةً بقوّةٍ على قمّة العالم، ذلك في ظلّ انتصاراتِها في الحرب الباردة، وازدهارِها الاقتصاديّ، وتفوّقها التكنولوجيّ بعد إطلاقِ الثّورة الرقميّة.

هذه الهجمات شبه المتزامنة التي شنّتها “القاعدة” في ذلكَ الصّباح في نيويورك والبنتاغون، والتي أودَت بحياة ٣٠٠٠ شخص، بما فيها الطّائرة التي تحطّمت في بنسلفانيا، غيّرت الولاياتِ المتّحدة، كذلك غيّرت الطّريقة التي تصرّفت بها واشنطن العالمَ كلّه.

الغَطرسة والجَهل:

اهتزّ الأمريكيّون جرّاء هذا العدوان غيرِ المسبوقِ على أراضِيهم منذ بيرل هاربر[1]،  فتوحدّوا بحماسةٍ وطنيّةٍ هائلة، واستسْلم الأمريكيّون بشكلٍ شبهِ أعمى لقادتهم، فقد كانت الأصواتُ المتنافرة غير مسموعة. أطلقَ الرئيس جورج دبليو بوش، تحتَ تأثيرٍ أيديولوجيّ من محافظين جدُد ذَوي قناعاتٍ مسيانيّة[2]، “حربًّا على الإرهاب”، كان من المفترض أن تأخذَ بلادَه، عسكريًّا واقتصاديًّا، إلى ما هو أبعد من مجرّد القضاءِ على المنظّمة المسؤولة عن الهجمات.

تمّ في هذه الحربِ تحقيق هدفين: لم تشنّ القاعدة هجماتٍ أخرى على الأراضي الأمريكيّة، وقُتِل زعيمها أسامة بن لادن في باكستان على يدِ القوّات الخاصّة الأمريكيّة بعد مطاردةٍ استمرّت عشرَ سنوات. أمّا باقي ما تحقّق فهو تراكمُ أخطاءٍ في الحكم، وأكاذيب الدّولة، وعمليّات سيئة التخطيط اجتمعت فيها أحيانًا الغطْرسة مع الجهل. لقد نجحت الهجماتُ العسكرية، كالضّربات ضدّ طالبان عام ٢٠٠١، والزّحف نحو بغداد عام ٢٠٠٣، في احتلالٍ تحوّل إلى إخفاقٍ تامٍّ وقتْلِ عشراتِ الآلاف.

منذ فترةٍ قصيرة، انتهى الأمرُ في أفغانستان بشكلٍ يُثير الشفقة بعودةِ طالبان، أمّا قرار العراق الذي جاءَ بذريعةٍ كاذبةٍ عن وجودِ أسلحة دمارٍ شامل، فقد أدخل الشرق الأوسط في حالةِ فوضى لا يزال العالمُ يعاني عواقبَها. ويتحمّل جورج دبليو بوش وفريقُه مسؤوليةً كبيرةً في هذه القرارات، ومع ذلك أُعيد انتخابهم عام ٢٠٠٤.

مُلاكمٌ مترنّح:

وعلى نفسِ القدر من الخطورة، هناك إنكارٌ لقِيم حكمِ القانون التي تقدّمها أسسُ “الديمقراطيّة الأمريكيّة”؛ فإنشاءُ نظامٍ خارجَ نطاق القضاء لمحاربة الإرهاب، واستخدامُ مناطق خارجةٍ عن القانون، مثل السجونِ السرّيةِ لوكالة الاستخبارات الأمريكيّة ومعسكر غوانتانامو – حيث لا يزال ٤٠ معتقلًا رهن الاحتجاز -، ستبقى كلها مع تطبيعِ التعذيب الذي أُعيدت تسميته “الاستجواب المعزّز” علامةً سوداء على صورةِ الولايات المتّحدة. في الداخل تصدّعت هذه الدولة الديمقراطيّة التي أَنجبت دونالد ترامب. كان المجتمع الأمريكيّ متّحدًا بشكلٍ مذهلٍ في أيلول /سبتمبر ٢٠٠١، أمّا الآن فهو منقسمٌ بشدّة.

أرادت أمريكا بوش إعادةَ تشكيلِ العالم بالقوّة، أما أمريكا جو بايدن اليوم فتريدُ العودة إلى دارها. بعد عشرين سنة، بدأت القوّات الأمريكيّة التي أضْعفتها أخطاؤُها، وبدأ لاعبون جُدد مجابَهتها؛ بدأت بالانسحاب من أجلِ انتشارٍ أفضل. لقد مضتْ أيامُ الولايات المتّحدة أحاديّة القطب، لكنّها لا تزالُ تحتفظُ بالتفوّق العسكريّ والتكنولوجيّ والماليّ، تمامًا كالملاكم المترنّح الذي تلقّى الكثيرَ من اللكمات، لكنّه يرفضُ التخلّي عن المنافسة، فهو يخرجُ من الحلبةِ ليستعيدَ قوّته. مِن هنا يأمل الأمريكيّون أنْ تتضمّن هذه المرحلة أيضًا تحليلَ أخطاءِ السنواتِ العشرين الماضِية.

افتتاحيّة “لوموند” ١٠ أيلول /سبتمبر 2021


[1] بيرل هاربر: هجومٌ بغارةٍ جويّة مباغتة نفّذتها قوات اليابان في أيلول /سبتمبر ١٩٤١ على الأسطول الأمريكيّ في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي.

[2] اليهودية المسيانيّة هي حركة إنجيليّة بروتستانتيّة تؤكّد على العنصر “اليهوديّ” في الإيمان المسيحيّ، ويتكوّن أتباعها من اليهود المؤمنين بالمسيح، ويُعتبر اليهود المسيانيّون حركة يهوديّة عرقيًّا مسيحيّة دينيًّا.

 

.

رابط المصدر:

https://barq-rs.com/%d9%a1%d9%a1-%d8%a3%d9%8a%d9%84%d9%88%d9%84-%d8%af%d8%b1%d9%88%d8%b3-%d9%84%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%91%d8%ad%d8%af%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M