د. عصام عبد الشافي
تمهيد
في عددها الصادر في 9 فبراير 2011، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية ما نصه: “إن ما حدث في 25 يناير 2011 سوف يظل ثورة بارزة في تاريخ العالم، لأن ممثليها أثبتوا مراراً وتكراراً قدرة خارقة على تحدي حدود الإمكانية السياسية، والقيام بالثورة انطلاقاً من حماسهم والتزامهم، وقد نجحوا في تنظيم احتجاجات ضخمة في ظل غياب أي تنظيم رسمي، والحفاظ على هذه الاحتجاجات في مواجهة عمليات الترهيب والقتل، ونجحوا في وقت قصير في التغلب على شرطة مكافحة الشغب التابعة للرئيس مبارك وأخذوا أماكنهم وقضوا أيضاً على القوات غير الرسمية (المخبرين السريين) والبلطجية الذين استعان بهم للقضاء على المظاهرات”.
وأضافت: “مثل هذه الحرية والابتهاج كان أمراً غير متخيل للمصريين قبل أسابيع قليلة من الثورة، أثناء النظام القديم الذي كان يحكم مصر، وخلال أيام الثورة أصبح الشعب هو من يُقرر ويحدد مصيره وليس النظام، لذلك فإن ما كان مستحيلا أصبح ممكنا الآن. لذلك وبغض النظر عما سيحدث على المدى القريب أو المتوسط، فإن نتائج الثورة المصرية في 25 يناير 2011 على المدى الطويل سوف تتجاوز أحداث 11 سبتمبر 2001”[1].
إن ثورة يناير كانت نتاج حراك سياسي واجتماعي في مجتمع مدني متحضر وعريق، حافظ على هذه السمة بشكل مستقر، رغم عمليات التجريف المتتالية طوال قرون وعقود ممتدة، لكنها شهدت تحولات جوهرية، قادت إلى انقلاب عسكري، بعد عامين من الثورة الشعبية، تبنى مجموعة من السياسات والممارسات القمعية لترسيخ منظومة الاستبداد والسلطوية، ليس فقط في مواجهة المواطنين، ولكن أيضاً ترسيخ الهيمنة على ثروات الدولة ومقدراتها.
وفي هذه السياقات، ومن منظور الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سعت الثورة إلى تحقيقها، والتي من أجلها خرج ملايين المصريين للشوارع مرددين هتاف “عيش حرية عدالة اجتماعية”، يكون السؤال الرئيس: إلى أي مدى نجحت الثورة في تحقيق هذه الأهداف؟ أم أن معايير التقييم ترتبط بما خلفته الثورة من آثار اجتماعية في نفوس المواطنين، وخاصة لدى أبناء الجيل الذي شارك فيها عند انطلاق شرارتها الأولى، وتابع كافة تفاصيلها وتحولاتها؟
وأمام هذه الاعتبارات تبرز ثنائية السلطوية والحراك، وما بينهما من تحولات وتطورات شهدتها مصر خلال السنوات العشر التي مرت بعد ثورة يناير 2011، وتكون الإشكالية الرئيسية التي تسعى الدراسة إلى تفكيكها هي الإجابة على السؤال الرئيس التالي: ما هي التحولات السياسية التي شهدتها مصر بين يناير 2011 ويناير 2021، وما تداعيات هذه التحولات على مسار ثورة يناير؟
أهمية الدراسة:
في إطار أهمية الدراسة، يتم التمييز بين مستويين أساسيين:
الأول: الأهمية العلمية: وترتبط بما يمكن أن تحققه هذه الدراسة من تراكم علمي معرفي، على المستويات التنظيرية والمفاهيمية والمنهاجية بالتطبيق على ثورة 25 يناير 2011.
الثاني: الأهمية العملية: وترتبط بما يمكن أن تنتهي إليه هذه الدراسة من أفكار ومقترحات وتوصيات، تدعم صانعي القرار في الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية بالثورة المصرية، وخاصة أمام المكانة الاستراتيجية التي تتمتع بها الدولة المصرية، ليس فقط في الإقليم، ولكن في العالم، وما يمكن أن يترتب على التحولات الاستراتيجية التي يمكن أن تشهدها، من تداعيات على الإقليم والعالم.
أهداف الدراسة:
تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
1ـ بيان المفاهيم المركزية التي تتمحور حولها التحولات السياسية بعد الثورة المصرية، ومن ذلك: التحول السياسي، التغيير السياسي، التغير السياسي، وموقع مفهوم الثورة بين هذه المفاهيم.
2ـ تحليل أبعاد الثنائيات المركزية التي شهدتها السنوات العشر الماضية في مسار الثورة المصرية، ومن بينها ثنائية “الثورة والانقلاب” وثنائية “العسكر والإخوان”، وبيان تداعيات هذه الثنائيات على تحولات الثورة وتداعياتها.
3ـ تقديم رؤية تقييمية لما يمكن تسميته تعثر المسار الثوري، والأسباب التي أدت إلى هذا التعثر، وما هي الأولويات الواجب عليها لتجاوزه.
حدود الدراسة:
يتم التمييز في إطار حدود الدراسة بين ثلاثة مستويات أساسية:
المستوى الأول: الحدود الزمنية، وفيها سيتم التركيز على الفترة من 25 يناير 2011، باعتباره البداية الفعلية للثورة، و25 يناير 2021، باعتباره المتمم للعشر سنوات الأولى بعد الثورة.
المستوى الثاني: الحدود المكانية: وفيها سيتم التركيز على دراسة الحالة المصرية، وثورة 25 يناير التي شهدتها مصر، في سياقاتها الداخلية وتفاعلاتها الخارجية.
المستوى الثالث: الحدود الموضوعية: وفيها سيتم التركيز على التحولات السياسية التي شهدتها مصر خلال عشر سنوات بعد ثورة يناير 2011، وخاصة ما يرتبط منها بالفواعل الأساسية في المشهد السياسي (قوى الثورة الشعبية وقوى الثورة المضادة)، والقضايا المركزية في هذا المشهد (السلطوية، الحراك، الفاعلية).
تساؤلات الدراسة:
في إطار التساؤل الرئيس الذي تسعى الدراسة للإجابة عليه، يسعى الباحث للإجابة على التساؤلات الفرعية التالية:
1ـ ما هي الأطر المفاهيمية الحاكمة للتحولات السياسية في مصر بعد ثورة يناير 2011؟
2ـ ما هي السياسات والممارسات الي تبناها النظام العسكري الحاكم في مصر لترسيخ الهيمنة والسلطوية في مواجهة القوى الثورية؟
3ـ ما هي السياسات والممارسات التي تبنتها القوى الثورية، حفاظاً على قيم الثورة وسعياً نحو تحقيق أهدافها؟
4ـ إلى أي مدى نجحت ثورة يناير في تحقيق أهدافها؟ وما هي المعايير التي يمكن الاستناد إليها في عملية التقييم؟
منهجية الدراسة:
ينطلق الباحث من مقولات الاقتراب البنائي الوظيفي عند جابريل ألموند، فالنظام السياسي يتكون من أجزاء تربطها علاقات متبادلة، وتتضمن هذه الأجزاء المؤسسات الحكومية وكل الأبنية في المجالات السياسية، والحدود تفصل بين النظام وبيئته، والمدخلات والمخرجات تؤثر في النظام، والتغذية الراجعة توجد بين النظام وبيئته. وحدد ألموند عدداً من المطالب وأمثلة أخرى لعدد من أنماط التأييد والتي تقدم كمدخلات للنظام، ووصف عدداً من أنماط التحويلات التي ترتبط بجانب المخرجات، ويربطها بمستويات ثلاث للوظائف:
المستوى الأول: ويتكون من ست وظائف للتحويل وتشمل بلورة المصالح وتجميع المصالح والاتصال السياسي وصنع القاعدة وتطبيق القاعدة والتقاضي بمقتضى القاعدة. وهذه الوظائف ترتبط بالمطالب والتأييد في جانب المدخلات وبالقرارات وحركة النظام أو أفعاله في جانب المخرجات، والتي تصبح من مكونات النظام الداخلية، والمطالب تصاغ من خلال “بلورة المصالح” وترتبط بمسارات بديلة للحركة عبر “تجميع المصالح”. أما القواعد فتتكون من خلال “صنع القاعدة” وتنفذ وتفرض من خلال “تطبيق القاعدة” وأحياناً يتم تطبيقها من خلال القضاء والاتصال يؤثر في كل هذه الأنشطة.
المستوى الثاني: ويتكون من الوظائف “القدرات” سواء كانت تنظيمية أو استخراجية، أو توزيعية أو رمزية أو استجابية. وهذه الوظائف ترتبط بأداء النظام وهو في بيئته. أي النظر إلى الوظيفة داخل النظام، وتناول وظيفة الوحدة وأدائها داخل عملية التحويل.
المستوى الثالث: وظائف التكيف والمحافظة على استمرارية النظام وتتضمن التجنيد السياسي والتنشئة السياسية، وهذه الوظائف لا تدخل مباشرة في عمليات التحويل، إنما تؤثر في الفاعلية، وفى العمليات الداخلية بالنظام، ومن ثم في أدائه.
ويعتبر ألموند تكييف النظام والتجنيد السياسي والتنشئة السياسية وظائف ترتبط بأدوار جديدة واتجاهات جديدة تمثل جوهر التغيير، الذي يشمل: القدرات الجديدة أو المستوى الجديد للقدرة والمؤسسات السياسية الجديدة والعمليات الجديدة، وكذلك الدعوة إلى نخبة جديدة والتغيرات في تدريب النخبة، والأفكار والتغير في التوقعات، وفى المشاركة، وفى القيم والمعتقدات بين صفوف وشرائح المجتمع العديدة.
ووفقاً لألموند، فإن الاقتراب البنائي الوظيفي يقوم على أساس فهم العلاقات بين المستويات الثلاث وعلاقات الوظائف على كل مستوى[2].
الإطار المفاهيمي
يبرز في إطار الظاهرة محل الدراسة جدل مفاهيمي متعدد المستويات، يرتبط أولها بالخلط بين مصطلح “المتغيرات”، ومصطلح “التغيرات” ومصطلح “التحولات”، ويرتبط ثانيها بالخلط بين مصطلح “التغير”، ومصطلح “التغيير”، وفي إطار تفكيك هذا الجدل يمكن القول إن “التغير”، يُفيد تحول الشيء من حال إلى حال بشكل مفاجئ وقاطع، وتترتب نتائجه على مدى ما سوف يحالفه من ظروف محيطه به، أما “التغيير”، فيُفيد التحول القائم على فكر وتدبُّر مُسبق، ونتائج تكون محسوبة بقدر المستطاع، والخلل في هذا التحول يكون في مساحة ضيقة، يَسهُل السيطرة عليها[3].
أما مصطلح المتغيرات، فيشير إلى أي كمية تتغير أو أي خاصية مميزة يمكن قياسها، فالمتغير يدل على صفة محددة تتناول عدداً من الحالات أو القيم أو الخصائص، وتشير البيانات الإحصائية إلى مقدار الشيء أو الصفة أو الخاصية، أو العنصر أو المفردة، أو الفرد على أنها “متغيرات”، وقد يشير “المتغير” إلى مفهوم معين يجري تعريفه إجرائيّاً في ضوء إجراءات البحث، ويتم قياسه كميّاً أو وصفه كيفيّاً.
ويتم التمييز في إطار المتغيرات الإحصائية أو البحثية بين ثلاثة أنواع، المتغير المستقل (الذي يؤثر ولا يتأثر بالمتغير التابع) والمتغير التابع (الذي يتم التأثير عليه من قبل المتغير أو المتغيرات المستقلة) والمتغير الوسيط (الذي قد يكون له دور في التأثير على المتغير التابع، ولولا وجوده لما استطاع المتغير المستقل التأثير في المتغير التابع)[4].
وفي إطار الظاهرة محل الدراسة سيتم التأسيس النظري لمفهوم التغيير السياسي (باعتباره عملاً مخططاً ممنهجاً يرتبط بالعديد من التوجهات والسياسات ويسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف عبر أدوات واضحة ومتفق عليها سلفاً)، وموقع الثورة في سياقاته المختلفة، مع التطبيق على الحالة المصرية في مصر بين 2011 و2021.
تقسيم الدراسة:
في إطار الاعتبارات السابقة، قام الباحث بتقسيم الدراسة على النحو التالي:
المبحث الأول: جدل المفاهيم: الثورة وأبعاد التغيير السياسي
المبحث الثاني: المؤسسة العسكرية وسياسات ترسيخ الهيمنة
أولاً: السلطوية والاستبداد
ثانياً: بنية القوانين والتشريعات
ثالثاً: الانتهاك الممنهج للحقوق والحريات
رابعاً: عسكرة الاقتصاد وامتلاك الدولة
المبحث الثالث: القوى الثورية في مواجهة القمع
أولاً: الحراك الميداني: أنماط ومؤشرات
ثانياً: الحراك السياسي: خرائط المبادرات
ثالثاً: الإسلاميون: صمود رغم القمع
المبحث الرابع: المسار الثوري بعد 10 سنوات: رؤية تقييمية
أولاً: مؤشرات الإخفاق
ثانياً: نحو تصويب المسار
خاتمة الدراسة
المبحث الأول: جدل المفاهيم: الثورة بين التحول والتغيير السياسي
شكل القرن العشرين قرن الصراع بين الديمقراطية ونظم الحكم الاستبدادية؛ كما أن التطورات السياسية الكبيرة التي شهدتها الخريطة العالمية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين جاءت نتيجةً لهذا الصراع الذي حققت فيه الديمقراطية انتصاراً كبيراً جعل البعض يطلق عليه “قرن الثورة الديمقراطية العالمية”[5]، وأنه إذا كان هناك ثورة سياسية في ذلك القرن فإنه يمكن أن نطلق عليها “قنبلة المشاركة”، أي مشاركة المواطنين في التأثير على صناعة القرار السياسي[6].
وقد شهد القرن العشرين ثلاث موجات كبرى للتحول الديمقراطي، اجتاحت العالم على فترات زمنية متقاربة:
الأولى: تمتد جذورها إلى الثورتين الفرنسية والأمريكية، وصولاً لبداية عشرينيات القرن العشرين حيث أجريت انتخابات عامة وحرة في حوالي 30 دولة[7]، وهو ما اعتبره “روبرت دال” تحولاً إلى النظام السياسي الديمقراطي، على الأقل من الناحية الإجرائية والشكلية[8]. إلا أن تلك الموجة تحطمت في عام 1922 مع ظهور موجة معادية ومضادة بدأت بظهور موسوليني في إيطاليا، والتي واكبها ظهور العديد من الأنظمة السياسية الفاشية أو الديكتاتورية أو الشمولية أو العسكرية في العديد من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية.
الثانية: بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث بدأت موجة جديدة من التحول إلى الديمقراطية شملت بلدان ألمانيا الغربية (سابقاً) والنمسا وإيطاليا واليابان، كما شملت ستة من دول أمريكا اللاتينية[9]، والتي لم تنعم بهذا التحول طويلاً، إذ واتت العالم موجة أخرى مضادة في منتصف الخمسينيات وامتدت لتشمل ستينيات القرن العشرين لتتحول دول أمريكا اللاتينية والكثير من دول أفريقيا وآسيا مرة ثانية إلى الأنظمة السياسية العسكرية والشمولية.
الثالثة: بدأت بوادرها مع الانقلاب العسكري في البرتغال[10] في عام 1974، ثم شملت كلاً من اليونان وإسبانيا في أوروبا، وامتدت لتشمل أمريكا اللاتينية التي حققت في ثمانينيات القرن العشرين مزيداً من التحول إلى الديمقراطية[11].
كما طالت الموجة بعضاً من بلدان آسيا وأفريقيا، إذ شهد منتصف الثمانينيات نهاية حكم فرديناند ماركوس في الفلبين، وفي عام 1988 تم القضاء على الحكم العسكري في باكستان، كما قادت النخبة الحاكمة في كل من تايوان وكوريا الجنوبية بلادهما نحو التحرر والديمقراطية.
ومع نهاية الثمانينيات، بدأت “قطع الدومينو” في التساقط واحدة تلو الأخرى، إذ أخذت الأنظمة الشمولية تتهاوى، وبدأت الديمقراطية تزحف وتتقدم بسرعة على وجه الخريطة العالمية، وبعد مرور 15 عاماً على ثورة القرنفل (البرتغال) استطاعت ثلاثون دولة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تحويل البنية السياسية السلطوية الشمولية إلى بنية ديمقراطية[12].
وقد صاحب تلك الموجة الثالثة كم هائل من النظريات والمناهج والمفاهيم والتحليلات المقارنة المتعلقة بفكرة تغيير النظم السياسية. وهو ما أتاح المناخ لإعادة البناء المنهجي للجوانب النظرية في بحوث التحول والتغيير، والمفاضلة والتمييز الدقيق بين عمليات ومراحل التحول.
أولاً: بين الثورة والتغيير السياسي:
يرى Berch Berberoglu أن التغيير هو “التحول الملحوظ في المظهر أو المضمون إلى الأفضل”[13]. والتغير الاجتماعي كذلك هو “كل تحول يطرأ على البناء الاجتماعي خلال فترة من الزمن فيحدث تغير في الوظائف والأدوار والقيم والأعراف وأنماط العلاقات السائدة في المجتمع”، وهو كذلك “انتقال المجتمع بإرادته من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى أكثر تطوراً[14]. وهذا التعريف يتضمن عدداً من العناصر الأساسية:
- الانتقال: انتقال المجتمع، أو أي تجمع بشري كالدول أو المؤسسات أو الحركات أو الأحزاب من حال إلى حال، من الحاضر إلى المستقبل، لتصبح طرفاً فاعلاً في الأحداث، وتحقق التنمية والنهضة المستهدفة، وهكذا يتسع نطاق التعريف ليشمل الفعل على مستوى الدول والمؤسسات والحركات والأحزاب، بل ومجموعات العمل الصغيرة.
- الإرادة: أي يحدث التغيير بشكل نابع من عموم الرغبة والإرادة الجماعية للمجتمع بمؤسساته وهيئاته وأفراده.
- من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى: وتشمل كلمة الحالة الاجتماعية أنماط العلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية المختلفة كنظم الأسرة والاقتصاد والسياسة والنظم التشريعية والقضائية والدينية[15].
وبناء على ما سبق يمكن القول إن مصطلح التغيير يعني الانتقال بأي تجمع بشري إلى الأمام، وبناء قدرته على الفعل. وبالتالي فإن انتقال المجتمع إلى وضع أكثر تخلفاً أو ارتداده خطوة إلى الوراء، لا يدخل في نطاق التعريف، لأنه لا يمكن أن تتلاقي إرادة المجتمع بعمومه على الانتقال لوضع متخلف. وهكذا فإن استخدام مصطلح التغيير يقصد به حالات التحول الاجتماعية التي يخوضها المجتمع بعمومه للانتقال إلى أوضاع أفضل تمكنه من الانطلاق إلى المستقبل. وهي حالات التحول التي يخرج منها المجتمع – بأفراده ومؤسساته وهيئاته – أكثر إيجابية وفاعلية وقوة وقدرة على إدارة شئونه، وعلى محاسبة قيادته ومكافئتها ومعاقبتها، وعلى التصدي لمحاولات كبته أو قهره.
وبالتخصيص، يشير مفهوم التغيير السياسي في أحد تعريفاته إلى “مجمل التحولات التي قد تتعرض لها البنى السياسية في المجتمع أو طبيعة العمليات السياسية والتفاعلات بين القوى السياسية وتغيير الأهداف، وما يترتب على ذلك من تأثيرات على مراكز القوة بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو بين عدة دول[16].
ووفقاً لهذا التعريف، يأتي التغيير السياسي استجابة لعدة عوامل أهمها:
1ـ الرأي العام، أو مطالب الأفراد من النظام السياسي، لكن هذه المطالب لن تتحول في كثير من الأحيان إلى مخرجات إذا لم يتم تبنيها من قبل الأحزاب وجماعات المصالح والضغط.
2ـ تغير في نفوذ وقوة بعض الحركات والأحزاب وجماعات المصالح، بما يعنيه تحول الأهداف الحزبية أو الخاصة من إطار الحزب إلى إطار الدولة.
3ـ تداول السلطات، في الحالات الديمقراطية، أو إعادة توزيع الأدوار في حالات أخرى كالانقلابات، يعني تلقائيا أن حياة سياسية جديدة بدأت تتشكل، وفق منطق القيادة الجديدة.
4ـ ضغوط ومطالب خارجية، من قبل دول أو منظمات، وتكون هذه الضغوط بعدة أشكال، سياسية واقتصادية وعسكرية.
5ـ تحولات خارجية في المحيط الإقليمي أو في طبيعة التوازنات الدولية، قد تؤثر في إعادة صياغة السياسات الداخلية والخارجية في إطار التعامل مع المدخلات الجديدة في السياسة الدولية[17].
ويرتبط التغيير السياسي بمفهوم التحديث السياسي، والتحديث السياسي مفهوم مركب من مفهومين: الأول، مفهوم التحديث والثاني، مفهوم “سياسي”، ويقصد بالتحديث الانتقال من وضع إلى آخر أعلى وفق معيار معين، وبوصفه “السياسي” يعني أنه التغيير الذي يشمل كل ما له صلة بالعملية السياسية، سواء من ناحية التنظيم أو العلاقات والأهداف التي يسعى إليها كل نظام[18].
وقد حاول “كارل دويتش” دراسة التحديث السياسي داخل المجتمعات من حيث مصدر التغيير الذي قد يكون داخلياً نتيجة الصراع، أو خارجياً نتيجة تحديات خارجية، أو نتيجة لاحتكاك ثقافي بثقافات مختلفة، وكذلك من زاوية دينامية انتشار التجديدات كأن تبدأ من الحضر إلى الريف أو من العاصمة إلى الأقاليم، أو من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا، هذا إلى جانب دراسة نوعية التغير وهل هو تغير ثوري مفاجئ أم تدريجي بطيء؟ وما هي العلاقات بين المتغيرات السياسية وبين التغيرات في القيم والاتجاهات والسلوك السياسي داخل هذه المجتمعات؟[19].
وحاول “ليدز” توضيح الأسباب التي تؤدي إلى التحديث السياسي، وذكر منها: الأسباب التكنولوجية والعلم والتصنيع، ومراحل الاضطراب السياسي والاجتماعي (مثل: الحروب الأهلية والدولية والأزمات) ووجود الأفراد الحركيين (وهم الأشخاص الذين يملكون نفوذاً أساسياً وقوة سياسية، ويرغبون في التحديث) وطبيعة الاتجاهات السائدة (فالمجتمعات التي تؤكد على الإنجاز يكون أفرادها أكثر تقبلاً للتحديث مقارنة بالمجتمعات التي لا تؤكد على الإنجاز، ومن ثم يسعى أفرادها للحفاظ على الوضع الراهن) وكذلك طبيعة المثل العليا والأهداف التي تطرحها الأيديولوجيات السائدة في مجتمع ما، والتي قد تكون ذات أساس ديني أو وضعي[20].
وتناول “ديفيد ابتر” التحديث السياسي من منظور: لماذا تتغير النظم السياسية؟[21]
وتناوله “ديفيد آيستون” من منظور فكرة النظام وتحليل النظم، ورأى أن النظام السياسي هو مجموعة من التفاعلات التي تتم من خلالها عملية التخصيص السلطوي للقيم، وتشير هذه العملية إلى خمسة عناصر أساسية: المدخلات، وعملية التحويل، والمخرجات، والتغذية الاسترجاعية، وبيئة النظام السياسي.
ووفقاً لاقتراب النظم، تميل المجتمعات والجماعات إلى أن تكون كيانات مستمرة نسبياً تعمل في اطار بيئة أشمل. هذه الكيانات يمكن نعتها بصفة النظام نظراً لأنها تمثل مجموعة من العناصر أو المتغيرات المتداخلة وذات الاعتماد المتبادل فيما بينها، والتي يمكن تحديدها وقياسها. هذه الكيانات لها أيضاً حدود مميزة تفصلها عن بيئاتها، فضلاً عن أن كل منها يميل إلى الحفاظ على ذاته من خلال مجموعة من العمليات المختلفة، خاصة عندما يتعرض للاضطراب سواء من داخل أو خارج حدوده مع بيئته الأوسع.
يؤكد ايستون أن فكرة النظم كإطار تحليل بما تتضمنه من علاقات ومفاهيم نظرية لها دلالات تطبيقية، ومن ثم فهي تمثل نقطة بداية حقيقية في تطوير الدراسات السياسية. هذا الإطار التحليلي للنظام السياسي في أبسط صوره كما يراه ايستون لا يعدو أن يكون دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي من التفاعلات السياسية الموجهة بصفة أساسية نحو التخصيص السلطوي للقيم في المجتمع. تبدأ هذه الدائرة الديناميكية بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات، وتقوم عملية التغذية الاسترجاعية بالربط بين نقطتي البداية والنهاية، أي بين المدخلات والمخرجات.
وفي تعريفه لعملية التحويل، يرى إيستون، إنها مجموعة الأنشطة والتفاعلات التي يقوم بها النظام ويحول عن طريقها مدخلاته من موارد ومطالب وتأييد إلى مخرجات، أي قرارات وسياسات تصدر عن أبنية النظام السياسي. التحويل هو بمثابة غربلة للمدخلات. وعلى عكس مفهومي المدخلات والمخرجات اللذان يمثلان عمليات تبادلية بين النظام السياسي من جهة وبيئتيه المحيطة من جهة أخرى، فإن عملية التحويل لا تعدو أن تكون عملية داخلية تتم في إطار النظام ذاته[22].
أنماط التغيير السياسي:
تحدث “ويلش وبنكر” عن وجود نمطين للتغيير السياسي، أحدهما ثوري راديكالي، والآخر تدريجي إصلاحي، وكلا النمطين يتفق مع الآخر في الهدف، وهو التحديث نحو الأفضل، ويؤكد كل من النمطين على أهمية وجود أدوات وقوى معينه كالأحزاب السياسية والنخب السياسية والبيروقراطية والجيش وتقوم بمهمة التحديث وتحقيق التحول السياسي[23].
(1) التغيير الثوري:
تقوم أبعاد عملية التغيير الثوري على تغير البنية الاجتماعية، وتغير القيم ومعتقدات المجتمع، وتغير المؤسسات، وتغير في تكوين القيادة وأساسها الطبقي، وتغير النظام القانوني، واستخدام العنف في الأحداث التي تؤدي إلى تغير النظام، ويكشف هذا التحديد عن هذه الأبعاد عن أن التغيير الثوري لا يقتصر على التغيير السياسي، وإنما هو صيغة تبدأ سياسية وتنتهي بأن تكون اجتماعيه فتحدث تغيرات كمية ونوعية في النظام الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أن العنصر المميز للتغير الثوري هو الاعتماد على العنف.
فالثورة في أحد تعريفاتها هي “نشاط إنساني يقترن بمشروع جماعي واجتماعي يستهدف تغيير الأوضاع الاجتماعية القائمة تغييراً نوعياً ممتداً نحو المستقبل”[24]، ومع غياب هذا المشروع تفتقد الثورات للرؤية الكلية الجامعة التي تساعد في بلورة الأهداف وتحديد السياسات وامتلاك الأدوات اللازمة لتحقيق التغيير المنشود.
وعامل الزمن، أحد العوامل الحاكمة في التمييز بين الأسلوب الثوري الجذري والأسلوب الإصلاحي التدريجي، فبينما يسعى الأول إلى اختصار عامل الوقت والإسراع بعملية التغيير، فإن الأسلوب الثاني يترك للوقت فرصته الكاملة، والعلاقة بين الثورة والتطور هي علاقة جدلية، فالتطور هو سُنّة الحياة نراها في الطبيعة وفي الكون وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولكن عندما تنشأ أوضاع مؤسسات تتعارض مصالحها مع استمرار التطور تصبح الثورة ضرورة اجتماعية، وعندما تضيق قنوات الاتصال السياسي، وتعجز عن نقل مطالب قوى جديدة في المجتمع أو عندما تفشل المؤسسات السياسية (الأحزاب، البرلمانات، جماعات الضغط، منظمات المجتمع المدني) عن التعبير عن مصالح قوى اجتماعية صاعدة، يصبح التغيير خارج أطر المؤسسات والقوانين، فتكون الثورة[25].
وتثير عملية التغيير السياسي/ الاجتماعي، العديد من الإشكاليات، التي تمثل في جانب كبير منها أطر حاكمة للتفكير لدى القوى والفواعل والأطراف ذات الصلة بعملية التغيير، ومن ذلك:
1ـ الهدف من التغيير: الاختلاف فيه أمر طبيعي منسجم مع التنوع والاختلاف في وجهات النظر بين القوى المشكلة لأي مجتمع. فالتغيير كمنهج تتبعه القوى الفاعلة في المجتمع للوصول بأفكارها ومبادئها إلى حيز التنفيذ. واختلاف الأهداف انطلاقا من تنوع الرؤى في المجتمع سينعكس على الجهود التغييرية فيه.
2ـ أساس التغيير: ويقصد به المجال الذي ستنطلق منه قوى التغيير في مشروعها، وتتمثل أهم الأسس، في: الأساس الاقتصادي، والأساس السياسي، والأساس الأخلاقي والتربوي والتعليمي، والأساس القانوني، والأساس الفكري.
3ـ مناهج التغيير: التغيير من الأسفل إلى الأعلى أو العكس، والتغيير الثوري أو اللاثوري، والتغيير السلمي أو العنف، والتغيير بقوى داخلية أو خارجية، والتغيير التدريجي أو الانقلابي. إضافة للعديد من الطرق والمناهج التي تأتي في الغالب كنتاج طبيعي لفكر ومبادئ القوى الساعية للتغيير، وطبيعة ظروف المرحلة.
ومن هنا فإن الخلاف بين مدارس التغيير، يتطلب معالجة الموضوع في إطار القواسم المشتركة بين وجهات النظر المتباينة، وعلى هذا الأساس فإن التغيير يعبر عن حراك المجتمع الرافض لواقعه أو لبعض جزئياته، ويسعى إلى الانتقال به نحو مرحلة جديدة تمثل هدف عملية التغيير.
وقد اهتم المفكر الأميركي صامويل هنتنجتون، في إطار دراساته حول التغيير السياسي والتحديث السياسي، بالعلاقة بين المشاركة السياسية والمؤسسية السياسية، ومشكلة التوازن بين المشاركة والمؤسسية هي مشكلة تشهدها المجتمعات عند كل مستويات التنمية[26].
وهذا المقترب النظري عند هنتنجتون، يرى “ميتشل” أنه يمكن توسيعه ليتضمن متغيرات أكثر عدداً وتنوعاً. فالخطوة الأولى فى تحليل التغير السياسي، وكما حددها وليم متشل هي تحديد “الأغراض” أو “المكونات” التي يتناولها التغير، وتحديد ماذا تكون مكونات النظام السياسي، ثم بعد ذلك ما هي العلاقات التي تحملها التغيرات (إن وجدت أصلاً). أي أن التركيز على التغير فى المكونات، والنظام السياسي يكون تناوله باعتباره تجميعاً لمكونات عديدة كلها آخذة فى التغير، بعضها بمعدلات سريعة، والبعض الآخر بمعدلات أبطأ[27].
وهنا يمكن القول بأن دراسة التغير السياسي تتضمن: التركيز على ما يبدو أنه مكونات رئيسية للنظام السياسي، وتحديد معدل ونطاق واتجاه التغير فى هذه المكونات، وتحليل العلاقات بين التغيرات فى أحد المكونات والتغيرات في المكونات الأخرى، فالنظام يتضمن مكونات عديدة، من بينها: الثقافة، والأبنية، والجماعات، والقيادة، والسياسات. ودراسة التغير السياسي يمكن أن تبدأ بتحليل التغيرات فى هذه المكونات، والعلاقة بين التغير فى أحد هذه المكونات، والتغير في المكونات الأخرى[28].
(2) نمط التغيير بالأزمة:
يفترض ألموند وروستو نموذج التغيير بالأزمة كإطار عام لتحليل أنماط ومستويات وطبيعة التفاعلات السياسية، وينطلق “روستو” من أن التغيير السياسي هو نتاج عدم الرضا بالموقف القائم، وعدم الرضا يؤدى إلى حركة سياسية، وهذه الحركة قد تفشل وقد تنجح، فإذا ما نجحت فإن التنظيم، والحركة، أو الجماعات الأخرى المسئولة عن النجاح تقوم بتطوير مشروعات سياسية جديدة، وأهداف جديدة وسياسات جديدة وأدوات جديدة، أو قد تتلاشى أما إذا فشلت جهودها من أجل التغيير، وإما تتفكك وتحل، أو تستمر فى متابعة هدفها القديم، مع توقع آخذ فى التناقص باحتمالات تحقيقه.
ويعتقد روستو أن القوى التي شاركت في إدارة عملية تغيير النظام أو الحكومة، أو في الاستحواذ على السلطة من خلال جماعة أو فرد، تختلف تماما عن تلك القوى التي تحافظ على إبقاء الحكومة قائمة على قيد الحياة، أو تحفظ وضع فرد أو جماعة فى السلطة خلال فترة زمنية ممتدة، حتى يتغير الاتجاه مرة أخرى، وتبدأ عملية تغيير سياسي جديدة[29].
ثانياً: مفهوم التحولات السياسية:
يدل مفهوم التحول من الناحية الاجتماعية على التغيرات اللازمة لانتقال بنية اجتماعية إلى أخرى، ومن نظام قائم لهذه البنى إلى نظام آخر. وحتى يتحقق هذا التحول لابد من توفر مجموعة من الشروط لكي تتحقق التحولات الاجتماعية، أولها الجذرية بحيث ينبغي أن تكون لا رجعة فيها، وثانيها، التحقق والتأكد من الانتقال من بنية إلى بنية أخرى مغايرة، وثالثها، إدراك أن طبيعة المجتمع الشامل هي المسؤولة عن صعوبة معاينة أو فهم التحولات الموجودة داخل المجتمع. لأنه كنظام غير قادر على تسوية البنيات وترسيخها كبنيات مستحدثة ومتوافقة فيما بينها، في حين يحتوي بناءه على عناصر موروثة من الماضي (الاستمرارية) وعناصر حديثة (الحاضر المؤثر) والعناصر المحتملة كجزء من تصور المستقبل (مسارات الاحتجاج والتغير). والتوافق الوحيد الذي يحرص على استمراره هو الوقوف في وجه المخاطر المهددة للنظام الاجتماعي، ولا يسمح بإنجاز التغيرات إلا تلك التي تضمن الحفاظ على النظام الذي يحرسه هو نفسه[30].
وتُعرف التحولات الاجتماعية بأنها: “كل تحول يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو وظائفه خلال فترة زمنية.. وهو كل تغيير في التركيبة السكانية للمجتمع، أو البناء الطبقي، أو النظم الاجتماعية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية، أو في مختلف المؤسسات الاجتماعية[31].
وتُمثل التحولات الاجتماعية خاصية أساسية تتميز بها الحياة الاجتماعية؛ ويعزي ذلك إلى كونها هي سبيل بقاءها ونموها، كما أن بها يتهيأ لها التوافق مع الواقع ويتحقق التوازن والاستقرار الاجتماعي، وعن طريقها تواجه الجماعات متطلبات أفرادها وحاجاتهم المتجددة[32].
وتؤدي التغيرات السياسية والاقتصادية إلى نتائج مباشرة على البنية والتنظيم الاجتماعي؛ كونها تفرز واقعاً اجتماعياً مغايراً من شأنه التأثير بطريقة نوعية على البناء الاجتماعي وعناصر التماسك والاستقرار في إطاره، لذلك يقصد بمفهوم التحولات الاجتماعية كذلك تلك التغيرات في البنى الاجتماعية للمجتمع، أو في أنماط العلاقات أو النظم الاجتماعية، أو في القيم والمعايير التي تؤثر على سلوك الأفراد وتُحدد بشكل أو بآخر مكانتهم وأدوارهم في مختلف المؤسسات التي ينتمون إليها [33].
وبالتخصيص على التحول السياسي، يرى جين شارب أن هذه العملية تمر بخمسة مراحل أساسية [34]:
الأولى: التوقع والتحليل الابتدائي: وفيها يتم فحص القضايا الموضوعة على المحك من وجهة نظر طرفي الصراع، وإعداد تحليل للأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية الموجودة في المجتمع بالإضافة إلى التوزيع السكاني، ثم إعداد تقدير استراتيجي[35].
الثانية: تطوير الاستراتيجية: حيث يعاد تطوير الاستراتيجية العليا للصراع ككل، ويشمل هذا التطوير تحديد الهدف من الكفاح بشكل واضح ودقيق، وإجراء الحسابات العامة المتعلقة بكيفية إدارة الكفاح اللاعنيف لتحقيق هذا الهدف، وتنسيق وتوجيه جميع المصادر المتاحة والملائمة التي تمتلكها حركة المقاومة، والتأكد من التناغم والتناسق بين مكونات الخطة الاستراتيجية: الأهداف وأنواع الضغوط المفروضة على الخصم والتكتيكات المختارة والوسائل.
الثالثة: بناء القدرة: وفيها يتم التأكد من ملاءمة الاستراتيجية لقدرة المجتمع، حيث تبذل الجهود من أجل بناء قدرة الجماهير أو من أجل تعديل الاستراتيجيات. كما تشمل هذه المرحلة تقوية وتعزيز المنظمات والمؤسسات التي تقع خارج نطاق سيطرة الخصم، خاصةً إذا ما كانت الاستراتيجية العليا ترمي إلى استخدام هذه الكيانات المستقلة خلال مراحل الكفاح لتفعيل عدم التعاون والتمرد.
الرابعة: الكفاح المفتوح: وفيها يتم تركيز قوة المقاومين على نقاط ضعف الخصم لتحقيق الأهداف المختارة وفق الاستراتيجية العليا والوسائل المنتقاة؛ خاصةً المتعلقة بقطع مصادر القوة عن الخصم، والتأكد من تغلغل المقاومين إلى المصادر الحساسة والحرجة والحاسمة، مع محاولة خلق حالة من عدم التوازن لدى الخصم مع المحافظة على استمرار هذه الحالة، واللجوء إلى الفعل بدلاً من ردود الأفعال. ومن ثم فإدارة المقاومة لابد أن تكون وفق شروط حركة المجتمع وليس وفق شروط الخصم.
الخامسة: نهاية الصراع: وفيها يتم تقييم ما بعد الصراع (النجاح أو الفشل أو خليط منهما) والتخطيط للمستقبل.
وقد اعتمد جين شارب هذا التقسيم في إطار التخطيط الاستراتيجي، لتمكين المجتمع من التحكم في السلطة التنفيذية[36].
وفي إطار هذه الجدالات المفاهيمية، يمكن القول إن الثورة فعل شعبي عفوي تلقائي غير منظم يهدف إلى إحداث تغيير جذري شامل في بنية النظام السائد في المجتمع، وتختلف الثورة عن الانقلاب الذي يمكن تعريفه بأنه فعل منظم تنفذه مجموعة منظمة هدفه السيطرة على السلطة من خلال إزاحة القائمين عليها والهيمنة على مقدراتها، اعتماداً على عامل القوة الذي يتحكمون فيه.
وإذا كانت الثورة فعل شعبي عفوي غير منظم، فإن هذا الوصف، يعني أن فئات الثورة ومكوناتها الأساسية، ليس شرطاً أن تتفق كلياً في آرائها وتوجهاتها، لكن يوحدها هدف عام تتفق على ضرورة تحقيقه لمصلحة المجموع، فجوهر الثورة هو ذلك الاختلاف في التفاصيل وهو ذلك التصارع السلمي للأفكار، وهو ذلك الاحترام المتبادل بين الفئات على اختلافها لخصوصيات بعضها، مع الاتفاق على تجاوز تلك الخصوصيات، فالثورة لا تنشأ إلا لتحمي قيمة أو قيماً سامية تعرضت للانتهاك والانتقاص، بغض النظر عن التضحيات التي سيتم الوفاء بها تحقيقاً لأهدافها وغاياتها النبيلة.
الهامش
[1] Peter Hallward, Egypt’s popular revolution will change the world, Guardian, Wed 9 Feb 2011. Visiting website 28-11-2020, Link: https://bit.ly/2K0QTjq
[2] See:
– Gabriel A. Almond. “Comparative Political Systems”. The Journal of Politics Vol. 18. No. 3 (August 1956) PP. 391 – 409.
– Gabriel A. Almond. “A Developmental Approach to Political Systems”. In: J. L. Finkle & R. W. Gable (eds.) Political Development and Social Change (New York: John Wiley & Sons, Inc., 1968) P. 100
– Gabriel A. Almond. & James S. Coleman (eds.) The Politics of the Developing Areas (Princeton: Princeton Univ. Press, 1960).
[3] د. أحمد إبراهيم خضر، الفرق بين مصطلحي التغيرات والمتغيرات، تاريخ النشر، 2 مارس 2013، تاريخ الزيارة 22/11/2020، رابط الموضوع
[4] د. محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989، ص 506.
[5]Kriele, Martin (1987): Die demokratische Weltrevolution. Warum sich die Freiheit durchsetzen wird, München/Zürich, Piper, S.147.
[6]Almond, Gabriel/ Verba, Sidney (1963): „An Approach to political culture“, in Almond, Gabriel/ Verba, Sidney, the civic culture, Princeton University Press, New Jersey, S.4.
[7] هذا العدد وفقاً للإحصائية التي ذكرها صمويل هنتينجتون في كتابه “الموجة الثالثة.. التحول إلى الديمقراطية في القرن العشرين”
Huntington, Samuel P. (1991): The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth Century, Oklahoma, P.17.
[8]Dahl, Robert (1971): Polyarchy, New Haven, P. 2
[9] الأرجنتين: 1946-1951، البرازيل: 1945-1964، إيكوادور: 1948-1961، بيرو: 1939-1948، أروجواي: 1942-1973، فنزويلا: 1945-1948.
Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 160.
[10] انطلقت ثورة القرنفل في البرتغال، حيث قام رتل من عشر مدرعات خفيفة و12 شاحنة وبضع مئات من جنود المشاة باحتلال ساحة الوزارات في لشبونة في فجر يوم 25 إبريل 1974. وبعدها بساعات انضمت القوات التي أُرسلت لوأد الانقلاب إلى الثوار دون إطلاق نار، وقد استقبلهم السكان بالمواكب رغم النداءات الداعية إلى المكوث في المنازل. وفي النهاية استسلم مارسيلو كايتانو رئيس الحكومة المحاصر في هيئة أركان الدرك، ونقل سلطاته إلى الجنرال سبينولا الذي ترك الحشود تفرج عن مئات السجناء السياسيين بالليل، وهكذا انهار النظام الديكتاتوري في البرتغال. أنظر:
Barker, Collin (2002): Revolutionary Rehearsals, First Edition, USA, Haymarket Books.
[11] إيكوادور: 1978، بوليفيا: 1980، الأرجنتين: 1983، أوروجواي: 1984، البرازيل: 1985، شيلي: 1980.
Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 162.
[12] Huntington, Samuel P., The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, (Oklahoma, 1991). P. 21.
[13] Berch Berberoglu, Class Structure and Social Transformation, Prager Publishers, Westport, CT. 1994, P. xi
[14] عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، (القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية عشر، 1998)، ص 10-12
[15] د. مصطفى الخشاب، المدخل إلى علم الاجتماع، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1992، ص 76.
[16] إسماعيل صبري مقلد ومحمد محمود ربيع: موسوعة العلوم السياسية. الكويت: جامعة الكويت، 1994، ص 47.
[17] نظام بركات، (وآخرون): مبادئ علم السياسة، الطبعة الثانية، (عمان: دار الكرمل للنشر والتوزيع، 1987)، ص 264-270.
[18] جابر سعيد عوض، التغيير السياسي في الأرجنتين في الفترة البيرونية الأولى، من1945 –1955، رسالة ماجستير غير منشورة في العلوم السياسية، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 1981) ص 7
[19] د. نبيل السمالوطي، بناء القوة والتنمية السياسية: دراسة في علم الاجتماع السياسي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978) ص184- 185
[20] Leeds, C. A., Political studies (London: Macdonald & Evan Ltd.,1975) p.211
[21] Apter david E., Political change: collected Essays (London: Frank &cass co., 1974) p.110-111
[22] لمزيد من القراءات حول كتابات وتصورات إيستون حول النظام السياسي وما يشهده من عمليات تغيير وتحول:
– Easton , David, The Political System(New York: Alfred A. Knopf, 1953).
– Easton , David, “An Approach to the Analysis of Political Systems”, World Politics, Vol. 9, April 1957.
– Easton , David, A System Analysis of Political Life(New York: John Wiley & Sons, Inc., 1965).
– Easton , David, A Framework for Political Analysis(New Jersey: Prentice-Hall, Inc., 1965).
– Easton , David, Varieties of Political Theory(N.J.: Prentice – Hall, Inc., 1966).
[23] Welch, Ciande E., and Bunker, Maris, Revolution and political change (California: Duxbury press ,1972) p.34
[24] د. عبد الرضا الطعان، ” مساهمه في دراسة مفهوم الثورة”، مجلة العلوم القانونية والسياسية، بغداد، المجلد الأول، العدد (3)، 1977، ص82-83
[25] د. فاروق يوسف، الثورة والتغيير السياسي مع التطبيق على مصر، (القاهرة: مكتبة عين الشمس، 1979) ص10
[26] Samuel P. Huntington, The Change to Change: Modernization, Development, and Politics Comparative Politics, Programs in Political Science, City University of New York, Comparative Politics, Vol. 3, No. 3 (April, 1971), pp. 283-285
[27] William C. Mitchell, THE AMERICAN POLITY: A SOCIAL AND CULTURAL INTERPRETATION, (New York: The Free Press of Glencoe, 1962), Book Reviews, Henry M. Holland, Jr. Social Forces, Volume 42, Issue 1, October 1963, Pages 119–121
[28] د. عبد الغفار رشـاد محمد، نظريات التنمية السياسية، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999/2000)، ص 48-50.
[29] د. عصام عبد الشافي، التغيير السياسي، قراءة نظرية في الأبعاد والأنماط، موقع الجزيرة مباشر، مقالات الرأي، تاريخ النشر 7 سبتمبر 2015، تاريخ التصفح 28 نوفمبر 2020، الرابط: https://bit.ly/39LTKYd
[30] د. محمد المرجان، التحولات المجتمعية ومفهوم “الاستعصاء المتجدد”، المجلة المغربية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 6، 2019، ص: 75 – 84.
[31] عبد اللطيف كداي، التحولات الاجتماعية القيمية للشباب المغربي: محاولة للرصد والفهم، مجلة كلية علوم التربية، العدد (7)، 2015، ص 79
[32] محمد سعيد عبد المجيد وممدوح عبد الواحد الحيطي، التحولات الاجتماعية والسياسية وسمات الشخصية المصرية: دراسة ميدانية، حوليات آداب عين شمس مصر، المجلد (43)، 2015، ص 370.
[33] د. إبراهيم إسماعيل عبده محمد، التحولات الاجتماعية ما بعد الربيع العربي وانعكاساتها على الشباب من منظور علم الاجتماع السياسي: دراسة حالة مصر خلال الفترة من 2011م-2018م مجلة جيل الدراسات، السياسية والعلاقات الدولية، بيروت، العدد 14، يناير 2018، ص 115 ـ 120.
[34] Gene Sharp, There Are Realistic Alternatives, (The Albert Einstein Institution, Electronic version, P. 26.
[35] يقصد بالتقدير الاستراتيجي تحديد نقاط القوة والضعف لكل من طرفي الصراع، وتحديد مصادر قوة الخصم التي يمكن استهدافها لإضعافها أو تدميرها، وتحديد واختبار الأدوار والمواقف الممكنة التي قد تتبناها الأطراف الثالثة في الصراع، ويتسع هذا المفهوم ليشمل السكان الذين لا يلزمون أنفسهم بأدوار محددة في الكفاح، ثم تحديد العوامل الخارجية التي قد تؤثر على مسارات الفعل مثل العوامل الجغرافية والجوية والمناخية والبنية التحتية، وغيرها، وتحديد أنواع الضغط الأخرى التي قد تؤدي إلى تحقيق أهداف المقاومة.
[36] Gene Sharp, Waging Nonviolent Struggle: Twentieth Century Practice and Twenty-First Century Potential. Forthcoming.
رابط المصدر: