2.3 الاستدامة والخلل الإنتاجي في دول مجلس التعاون من منظور القدرة على إعادة الإنتاج

عمر الشهابي

تحاول هذه الورقة الإجابة على السؤال التالي: ما هو شكل الإنتاج الاقتصادي في دول مجلس التعاون في عصر النفط الحالي، وما هي العلاقات الاجتماعية التي نمت حوله، وهل هو مستدام مستقبلاً؟[1]

وعلى مدى هذه الورقة، سأستعرض شكل الإنتاج الاقتصادي في دول مجلس التعاون، حيث سأبين ان هناك نمط نمو معين بإمكاننا أن نسميه “تصدير النفط – استيراد العمل”. وسأبين أهم خصائص نمط النمو هذا، مولياً اهتماماً خاصاً لمواضع الخلل فيه التي قد تؤثر على قدرته على الاستدامة. وسأتخذ من أزمة كورونا وتداعياتها على الاقتصاد العالمي وسوق النفط في عام 2020 منطلقاً لدراسة وتفحص قدرة اقتصاديات دول الخليج على الاستدامة.

 

الاستدامة والخلل الإنتاجي من منظور القدرة على إعادة الانتاج

وستكون الاستدامة في الإنتاج تحديداً هي محط تركيزنا في هذه الورقة.  لذلك لعل خير بداية هي أن نسأل: ماذا نعني بالاستدامة عند حديثنا عن الإنتاج؟

بودي في هذه الورقة مقاربة الاستدامة في الإنتاج من منظور جديد، بحيث يكون التركيز على مقدرة نمط نمو الإنتاج على الاستمرار بما يكفي لتجديد نفسه وإعادة خلق الشروط الأولية لتواجده وتواصله، وبهذا يديم ويكرس ويولد نمط الإنتاج نفسه بشكل مستقر لمدة متواصلة من الزمن، بل وقد يتمكن بفضل استمراريته من التكاثر والتوسع والتطور. ولهذه النقطة المتعلقة بتجديد أو إعادة إنتاج (reproduction) العوامل الأساسية لنمط النمو وضمان استمراريته أهمية بالغة ستستحوذ على نصيب كبير من اهتمامنا.

وهذا التعريف الذي سنعتمده للاستدامة مرتبط بتركيبة الإنتاج في الاقتصاد المعني، والتي نسميها بنمط نمو الإنتاج (mode of growth)، وهو ما يتجسد في عمليات الاستملاك والإنتاج والتوزيع والاستهلاك التي يقوم بها قبل مجموعة من البشر تعيش في نظام سوق رأسمالي في منطقة ما وزمن معين، بحيث ينمو الناتج ورأس المال بشكل مستمر، بالتزامن مع العلاقات والمؤسسات الاجتماعية التي تنظم تلك العمليات، بشكل يسمح لها مجتمعة بالاستمرارية والتجدد لمدة ممتدة من الزمن.

ففي أي اقتصاد رأسمالي في العصر الحالي، يبقى المعيار النهائي والشرط الضروري لاستدامة النظام الاقتصادي هو تراكم رأس المال والنمو في الإنتاج عبر التفاعل فيما بين العوامل سابقة الذكر. أما التوليفات والأنماط التي يمكن أن تتجلى فيها هذه العوامل في سبيل تحقيق النمو المطلوب فهي بالغة التعدد. فنمط النمو لا يختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى فحسب، بل من زمن إلى آخر. فقد يعتمد نمط النمو في دولة معينة على تكنولوجيا متقدمة، وقوة عمل متدنية نسبياً ولكن مدربة تدريباً عالياً، لتصنيع منتجات عالية المهارة، وباستعمال كمية محدودة من الموارد الطبيعة، كما هو الحال في تطوير تطبيقات الحاسوب كمثال. في المقابل، قد يكون نمط نمو آخر يعتمد على استخراج موارد طبيعية بكميات عالية، وبتقنية غير متطورة نسبياً، وقوة عمل متدنية المهارات، كما هو الحال في استخراج الفحم.

وإذا ما نظرنا إلى نمط نمو معين من منظور الاستدامة، فإن عدم الاستدامة يمثل خللاً إنتاجياً. والخلل في اللغة هو اضطراب الشيء وعدم انتظامه، أو العجز والنقص، والضعف والفساد والعطل.[2] فإن كان نمط نمو إنتاج معين غير مستدام وغير قادر على إعادة إنتاج نفسه بشكل متواصل، فبالإمكان القول بأن هناك خللاً إنتاجياً في هذا النمط من النمو. وإذا طبقنا هذا المنظور على الخلل الإنتاجي من ناحية الاستدامة على دول الخليج، اتضح لنا من الوهلة الأولى وجود عدة دواع للقلق:

1. الإنتاج يعتمد بشكل كبير على إنتاج سلع محصورة وقليلة نسبياً، تتركز أساساً في النفط، وبهذا يفتقر الاقتصاد للتنوع. على ذلك، يكون النمط الإنتاجي عرضة لمخاطر الاعتمادية المفرطة على النفط. وفي حال تعرض سوق هذه السلعة لهزة من أي نوع كان، سواء من ناحية تدهور أسعار السلعة، أو انخفاض الطلب العام عليها نظراً لاكتشاف بدائل لها، فسينعكس ذلك بشكل جلي على استدامة نمط نمو الإنتاج.

2. ويتفاقم هذا التهديد إذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذه السلعة ناضبة، وهذه الظاهرة تضيف بعداً آخر إلى واقع عدم الاستدامة. فالنفط، وعلى عكس الشمس والمياه الجارية، يعتبر مورداً ناضباً غير متجدد (على الأقل من منظور زمن الإنسان)،[3] ومتى ما نضب النفط، أو وصل العالم إلى مرحلة لا تفرض الاعتماد عليه، سيشكل ذلك خطراً مضاعفاً على استدامة نمط الإنتاج والاقتصاديات المبنية حوله في دول الخليج.

الشكل 2.3.1: العمر الافتراضي لمخزونات النفط بناء على كميات الإنتاج السنوية عام 2016

 

معروف أن دول الخليج تعتمد اعتماداً شبه كلي على النفط في صادراتها، وأن النفط مورد ناضب، لكن ذلك لا يكفي للوصول إلى المراد مما نعنيه بعدم الاستدامة.  فعلى الرغم من كون النفط مادة ناضبة، إلا أن استثمار عائداته بشكل يجعل قيمتها تتجدد بل وحتى تتكاثر يبقى احتمالاً وارداً جداً، بحيث توزع هذه الاستثمارات على قطاعات متعددة، وبذلك يتم تفادي خطر نضوب النفط وعدم تنوع أنشطة الإنتاج في الدول المعنية. فما يهمنا هنا هو تداعيات عدم تنويع الاقتصاد وعدم استدامة النفط على نمط نمو الإنتاج والاقتصاد ككل في دول مجلس التعاون. ولذلك، يصبح فهم وبيان العلاقة ما بين النفط ونمط نمو الإنتاج في اقتصاديات دول مجلس التعاون هو السؤال الملح والضروري، بدلاً من طرح تصريح مبهم بأن نضوب النفط وعدم التنويع من الاعتمادية عليه يعني عدم استدامة اقتصاديات دول الخليج. فالسؤال ما زال يطرح نفسه: لماذا تتواصل الاعتمادية شبه الكاملة على النفط في اقتصاديات دول المجلس، حتى بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً على اكتشافه في أراضيها، وما هو نمط نمو الإنتاج والاقتصاد الذي تشكل حول هذه الاعتمادية على النفط، وهل هذا النمط الاقتصادي الذي تبلور يغذي ويفاقم بدوره من هذه الاعتمادية على النفط؟

ولكي نبين مدى استدامة نمط نمو الإنتاج والاقتصاد المرتبط به في دول مجلس التعاون، سنصب تركيزنا على تحليل: كيف يقوم نمط نمو الإنتاج في دول الخليج بتوفير العوامل الأساسية من قوى الإنتاج الضرورية لإعادة إنتاج نفسه وضمان استمراريته؟ فإن كان نمط الإنتاج غير قادر على توفير هذه العناصر الأولية بشكل دوري ومنظم، استنتجنا أن هناك خلل إنتاجي في المنطقة. فكل نظام اقتصادي يحتاج إلى عدة مقومات أساسية تضمن استمراريته، وهي تحديداً ما يسمى بـ قوى الإنتاج (forces of production).[4] ولا بد من ضمان تواصل توفير هذه المقومات الأساسية كي يضمن نمط الإنتاج بدوره استمرارية وجوده وعدم دخوله في أزمة قد تؤدي إلى انهياره.

فإن هناك عدة طرق تسمح لأي طرف في الاقتصاد الرأسمالي بالتأقلم مع شرط النمو هذا. ولذلك فإن اقتصاديات الدول والمدن والمناطق المختلفة تأخذ أشكالاً متعددة. كمثال، يعتمد النمو في اقتصاد ألمانيا أساساً على الصادرات ذات التقنية المتقدمة عبر استعمال التكنولوجيا والإنتاجية العالية في عملية الإنتاج. في المقابل، تعتمد تنزانيا أساساً على القطاع الزراعي لنمو اقتصادها. إذن، لا يوجد طريق واحد لتراكم رأس المال ونمو الإنتاج. ولكن توجد بالتأكيد عناصر أساسية معينة لا بد من تواجدها لضمان استمرارية أي نسخة من نمط انتاج رأسمالي، عناصر لا يمكن للنمط أن يعيش ويتواصل دونها. ويمكننا تلخيص هذه العناصر الأولية من قوى الإنتاج التي يلزم توافرها من أجل استمرارية أي نمط إنتاج رأسمالي تحت المسميات التالية: البيئة (ecology)، والعمل (labour)، والنقد (money)، ورأس المال (capital)، والتكنولوجيا والمعرفة (technology & knowledge). كما لنا أن نضيف مؤسستين اجتماعيتين رئيسيتين يحتاجهما أي اقتصاد لتنظيم العلاقات الاقتصادية فيه: الدولة (state)، والسوق (markets).

لكل من العناصر السابقة دور رئيسي في الاقتصاد الرأسمالي المهيمن في عصرنا الحالي، ولا يمكن لتراكم رأس المال ونمو الإنتاج التواصل إذا فقد أياً منها. وقد نختلف في تعريف كل من هذه التقسيمات، لكنني أزعم بأنه لن يختلف إثنان على أهمية كل منها في عملية الإنتاج.

بناء عليه، وجب علينا تبيان تلك العناصر الأساسية اللازمة لضمان تواصل وتجدد أي نظام إنتاجي-اقتصادي، والنظر إلى دورة التجديد (cycle of reproduction) لكل من تلك العناصر على حدة. لذلك، إذا أردنا التعمق في سؤال استدامة أي نمط نمو إنتاجي، وجب علينا النظر في استدامة العوامل الأساسية الضامنة لتواصل هذا النمط الإنتاجي بدلاً من انقراضه، ومدى تمكن هذا النمط الإنتاجي من إعادة إنتاج وتجديد تلك العوامل بنفسه حتى يضمن توفرها لنفسه، دون الاعتماد على جهات خارجية لتوفيرها، مؤمِّناً بذلك إمكانيته هو على الاستمرار وإعادة إنتاج نفسه بنفسه. وسيشكل هذا الطرح المحور الرئيسي لبقية الدراسة: تبيان خصائص وطبيعة وتاريخ نمط نمو الإنتاج السائد في الخليج، ومدى قدرة  نمط نمو الإنتاج هذا على إعادة إنتاج وتوليد نفسه، وبذلك تأمين استدامته على المدى البعيد.

إذن، في المحصلة، نعيد صياغة سؤال هذه الورقة الرئيسي كالتالي: ما هو نمط نمو الإنتاج في دول الخليج في عصر النفط من 1932-2017، وما هي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمحورت حوله؟ وهل هذا النمط الإنتاجي مستدام، أم أن هناك خللاً إنتاجياً يجعله غير مستدام؟ وكي نجيب على ذلك علينا أن نسأل: كيف يقوم النمط الإنتاجي والنظام الاقتصادي المرتبط به في الخليج بإعادة إنتاج وتجديد نفسه؟ وكيف يقوم بتوفير العوامل الأساسية التي يحتاجها بشكل متواصل حتى يضمن إمكانية إعادة تجديد نفسه بشكل متواصل ومنتظم؟ فإن كشف البحث أن هذا النمط الإنتاجي لا يستطيع، لأي سبب من الأسباب، ضمان توفر وتجدد كل من هذه العوامل الأولية لاستمراريته، ثبت وجود الخلل – أي ثبت أن النمط غير مستدام.

نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون: تصدير النفط واستيراد العمل

وحتى نفهم نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون، علينا أن نبدأ بفهم نمط استملاك واستخراج النفط الثاوي في البيئة، إذ تعتبر أراضي دول الخليج المستودع الأكبر والأقل تكلفه لاستخراجه عالمياً حسب التكنولوجيا المتوفرة في القرن العشرين.[5] وقد تم تحويل النفط الذي تواجد طبيعياً في باطن أراضي الخليج لملايين السنين إلى سلعة لها سوقها وسعرها وبائعيها ومشتريها،[6] وأصبحت دول الخليج المزود الرئيسي لهذه السلعة في العالم، مما عاد عليها بكميات هائلة من الريع النفطي. وهذه الكمية المستخرجة من حقول المنطقة بنيت بداية على حسابات شركات النفط العالمية وتوجهت أساساً لاحتياجات السوق العالمي بدلاً من معطيات الاقتصاد المحلي، وبنيت خصوصاً على احتياجات إعادة الإعمار في أوروبا من النفط بعد الحرب العالمية الثانية. وقلة تكلفة استخراج النفط وتواجده بكثرة في المنطقة، وهي عوامل ناجمة أساساً عن الخصائص الجيولوجية والبيئة الاستثنائية بدلاً من تطور قوى الإنتاج والتكنولوجيا في المجتمع، بالإضافة إلى تصدير النفط بناء على احتياجات السوق العالمي بدلاً من اعتبارات الاقتصاد المحلي، أدت إلى تدفق إيرادات هائلة على دول الخليج كانت غير مبنية على اعتبارات القاعدة الإنتاجية وقدرات قوة العمل المحلية.

ولكي نأخذ فكرة عن حجم تلك الإيرادات وتباينها مع قوى المجتمع الإنتاجية، يمكننا مقارنة حجم الاقتصاد قبل النفط وبعده. ولنا أن نأخذ اقتصاد ساحل الخليج قبل النفط للمقارنة، وقد اعتمد أساساً وبشكل شبه كلي على صناعة اللؤلؤ، التي كانت فعلياً الصناعة المسؤولة عن توظيف غالبية المجتمع، نظراً لكونها صناعة تعتمد على كثافة عالية من قوة العمل (labour intensive)، وتعتبر أساس ما ينتجه مجتمع الخليج ومصدر دخله من الخارج. وكانت الفترة الأكثر ازدهاراً لصناعة الغوص في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى، حين وصل متوسط الدخل السنوي من اللؤلؤ لساحل الخليج في الفترة 1911-1914 إلى حوالي 2 مليون جنيه سنوياً. وكانت هذه سنوات استثنائية، إذ ما لبثت الإيرادات وأن هبطت إلى ما دون الخمس مئة ألف جنية في نهاية عشرينات القرن الماضي، نظراً للكساد العالمي (Great Depression) وتطور زراعة اللؤلؤ الصناعي في اليابان. ولم تتعاف من بعدها صناعة اللؤلؤ في الخليج.

في المقابل، إذا نظرنا للكويت فقط، فقد بلغ دخلها من النفط حوالي 3.2 مليون جنيه في 1948، وما لبث أن ارتفع إلى 60 مليون جنيه في 1953، ثم إلى أكثر من 100 مليون جنيه في 1955. إذن، وفي غضون بضع سنين، بلغت قيمة إنتاج دولة الكويت فقط من النفط ما يعادل خمسين ضعفاً من أقصى قيمة لمجمل إنتاج اللؤلؤ في الخليج ككل في عصر ما قبل النفط. وما لبثت كل دول الخليج أن وصلت لمستويات مقاربة من الدخل النفطي، وإن بدرجات متفاوتة حسب كمية النفط المنتجة في كل منها. إلا أن خاصية واحدة ميزت كل هذه الدول، وهي تحصيلها لكميات هائلة من النقد من بيع النفط، تعدت عشرات المرات قيمة ما كان ينتجه المجتمع سابقاً.     

الخطوة التالية في نمط إنتاج النفط تمحورت حول طريقة التعاطي مع هذه الثروة في دول الخليج، حيث جنت دول المجلس مجتمعة أكثر من 9.60 تريليون دولار امريكي على أقل تقدير، منذ تصدير أول برميل عام 1932 حتى عام 2015 حسب الأسعار الثابتة (6.63 تريليون حسب الأسعار الجارية).

الشكل 2.3.2: الإيرادات النفطية في دول مجلس التعاون منذ عام 1932 – 2015 بالأسعار الثابتة

بالطبع، اختلف توزيع هذه الإيرادات من دولة إلى أخرى، فحصلت السعودية على حوالي 55% منها بقيمة 5.32 تريليون دولار (حسب الأسعار الثابتة لعام 2015)، والكويت على 17% بقيمة 1.67 تريليون دولار، والإمارات على 16% بقيمة 1.50 تريليون دولار، وقطر على 6% بقيمة 565 مليار دولار، وعمان على 5% بقيمة 436 مليار دولار، والبحرين على 1% بقيمة 122 مليار دولار.

وأدى تدفق هذه الإيرادات الهائلة من الخارج إلى ظهور ما عرف بمشكلة الامتصاص (absorption problem): كيف لهذه المجتمعات أن تتعامل مع قوة شرائية تتعدى قدرات قوى الإنتاج فيها في عصر ما قبل النفط أضعاف المرات؟ وكان نمط التعامل مع إيرادات النفط هو التالي: أن الدولة، وهي الجهة التي تستلم إيرادات النفط من العالم الخارجي، استعملت الغالبية الساحقة من إيرادات النفط لبناء إمارات الحكم المطلق المحدّث، حيث تم تركيب الإنفاقات للتأكد من هيمنة الحاكم وعائلته على أعلى الهرم الاجتماعي. وتم استعمال إيرادات النفط كتوزيعات وإنفاقات جارية ارتبطت مع قرب المكانة الاجتماعية من متخذي القرار لمن يستلمها، حيث وزعت لجهات خاصة وعامة عن طريق الرواتب والمخصصات والدعم والخدمات الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى إنفاقات على مشاريع إنشائية تتضخم في فترات الطفرات وتنحسر عند تراجع أسعار النفط. أما في المرتبة الأخيرة فقد جاء الاستثمار في المشاريع العامة المبنية على الإنتاج الربحي وتكاثر رأس المال، والتي أخذت نسبة صغيرة جداً من استعمالات إيرادات النفط.[7]

وهذه الإنفاقات قامت بتحريك باقي الاقتصاد، ما نتج عنه نمط نمو عام معين، يستند النمو غير النفطي فيه على رؤوس الأموال الخاصة، التي تجسدت في شكل شركات عائلية تعتمد أساساً على استيراد العمالة الوافدة متدنية الإنتاجية والحقوق والمهارة والتعليم، وينحصر إنتاجها في قطاعات اقتصادية منخفضة المخاطر وغير قابلة للتصدير، معتمدة على الاستيراد والاستهلاك المحلي العالي، وتركزت أساساً في قطاعات الإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية المصاحبة. وهذا النمط من النمو إجمالاً يعتمد على النمو العددي في صفوف قوة العمل ومدخلات الإنتاج (extensive growth)، ولا يستند على النمو في الإنتاجية والتطور في التكنولوجيا (intensive growth). وبالإضافة الى الواردات، فقد شكل استملاك واستهلاك البيئة أحد أهم مدخلات الإنتاج، بما فيها الأراضي والبحار والهواء، والتي تم تسخيرها بشكل موسع ومتزايد لمتطلبات النمو في عملية الإنتاج. ولم يستطع الموظفون المواطنون منافسة الوافدين من ناحية تكلفة العامل في هذا القطاع الخاص، إذ أن تكلفة إنتاج العامل الوافد تحدد في بلده الأم حيث تتواجد عائلته، وهذه كانت أقل بكثير من تلك المطلوبة للمواطنين. ولذلك انحصر دور المواطنين في المؤسسات الحكومية وبنسبة أقل في المشاريع الربحية ذات الملكية العامة، فيما اعتمد القطاع الخاص العائلي بشكل شبه كلي على الوافدين.

جدول 2.3.1: متوسط النمو المئوي السنوي في الناتج ومدخلات الإنتاج (%)

النمو السنوي في الناتج الإجمالي المحلي الحقيقي (1975-2010) النمو السنوي في حجم قوة العمل

(1975-2010)

النمو السنوي في الناتج المحلي الحقيقي لكل فرد من قوة العمل (1975-2010)
الإمارات 3.45 5.28 1.73-
البحرين 5.79 6.80 0.94-
السعودية 2.95 4.51 1.49-
قطر 5.84 9.02 2.50-
عمان 6.75 5.13 1.54
الكويت 3.96 5.77 1.70-

المصدر: حسابات المؤلف من أجهزة الإحصاء الرسمية.

الإمارات 1980-2009، السعودية 1975-2009، قطر 1980-2010

وتتجدد هذه الدورة عبر قيام أصحاب الشركات الخاصة بإعادة استثمار أموالهم في هذه النشاطات في الاقتصاد المحلي بشكل متواصل، بحيث يتم تجديد وإعادة إنتاج نفس نمط النمو واستمراريته بشكل موسع. ويتميز نمط النمو هذا باعتمادية كبيرة على المدفوعات التي تغادر الاقتصاد المحلي وتتجه إلى الاقتصاد العالمي، والتي تشمل نسبة عالية من الواردات، وتحويلات العمالة الوافدة، بالإضافة إلى تصدير نسبة معتبرة من رؤوس الأموال خارج دول الخليج لاستثمارها دولياً، مما جعل دول الخليج من أكبر مصدري رؤوس الأموال الخاصة والعامة في العالم.

إذن، فبالإمكان تلخيص دورة الدخل في الخليج كالتالي: 1. استملاك واستخراج النفط وتحصيل الإيرادات من بيعه على العالم الخارجي 2. توزيع الدولة ذات الحكم المطلق المحدث للغالبية الساحقة من ثروة النفط العامة في شكل مخصصات وخدمات اجتماعية لجهات خاصة وعامة بمعايير تعتمد على القرب من متخذ القرار. هذا بالإضافة إلى الإنفاق على المشاريع الإنشائية الضخمة، وبنسبة أقل على المشاريع العامة االربحية. 3. ومن ثم يتم خلط هذه الأموال المتدفقة في القطاع الخاص العائلي مع مدخلات الإنتاج من البيئة والسلع والعمالة الوافدة ذات الإنتاجية والمهارة والحقوق المتدنية، لإنتاج قطاعات اقتصادية ذات استهلاك واستيراد عالي في مقابل صادرات لا تذكر، والتي تعيد استثمار بعض من أرباحها في نفس الأنشطة الاقتصادية 4. بينما تخرج من الاقتصاد كميات عالية من الأموال في شكل رؤوس أموال خاصة وعامة للاستثمار في الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى التحويلات من العمالة الوافدة والمدفوعات للواردات.

وإذا ما ألقينا نظرة رأسية شاملة (bird’s eye view) على دورة الاقتصاد هذه، نجدها تعتمد على تواصل القدرة على تصدير النفط للعالم الخارجي بأسعار مجزية، حتى تتمكن من تغطية ما يخرج من الاقتصاد من مدفوعات للواردات وتحويلات العمالة الوافدة ورأس المال المغادر للبلاد. هذا بالإضافة الى أهمية تواجد كميات ومخزونات إضافية من “الطبيعة” بالإمكان استملاكها واستغلالها في عملية الإنتاج، أكانت نفطاً أم أراض أم مياه أم هواء. ويعتمد الطلب العام (aggregate demand) في الاقتصاد المحلي بشكل كبير على كثافة الاستهلاك العالية من قبل المواطنين والدولة، التي يتم تمويلها أساساً عبر إيرادات النفط المحصلة من الخارج، والتي توزعها الدولة بدورها على المواطنين. في المقابل، فإن العرض العام (aggregate supply) لقوة العمل والسلع التي يحتاجها الاقتصاد لتقديم الخدمات والأنشطة الاستهلاكية في الدولة، يتم تزويدها أساساً عبر استيراد العمالة والسلع من الخارج. وبهذا، يكون الطلب العام والعرض العام يعتمدان أساساً على معطيات ومعايير تحدد خارج حدود الدولة بشكل كبير وتمتد مساحات إعادة تجديدها على مدى العالم، حيث يعتمد تمويل الطلب العام على إيرادات النفط، ويعتمد العرض العام على استقطاب قوة عمل وسلع مستوردة. ولنا أن نبين ذلك عبر دورة الدخل/المال في اقتصاديات دول مجلس التعاون:

الشكل 2.3.3: دورة الدخل في اقتصاد من نمط  “تصدير النفط – استيراد العمل” OELI

نمط النمو هذا يعتبر فريداً من نوعه في العالم، وقد اختصرناه بمسمى “تصدير النفط – استيراد قوة العمل” ( Oil Exportism – Labour Importism (OELI)) للدلالة على أهم ميزتين يتسم بهما. وإذا أردنا أن نؤطر أهم الخصائص التي تميز نمط التراكم هذا، بحيث إن تواجدت هذه الخصائص في اقتصاد معين، فبإمكاننا إدراج هذا الاقتصاد ضمن فئة OELI، فبإمكاننا أن نلخص أهم هذه الخصائص في التالي:

1. الدولة هي الجهة التي تحصل على ريع النفط (بما فيه الغاز الطبيعي).

2. يتم جني ريع النفط من بيعه خارج الاقتصاد المحلي.

3. يشكل النفط جل صادرات الاقتصاد المحلي إلى الخارج.

4. تمول جل مصروفات الدولة المحلية (بما فيها الجارية والرأسمالية) من قبل إيرادات النفط.

5. تشكل مصروفات الدولة المحلية جل الإنفاقفي الاقتصاد المحلي غير النفطي.

النقاط السابقة مرتبطة بتصدير النفط وأوجه إنفاقه من قبل الدولة في الاقتصاد، وهذا كما ذكرنا سابقاً هو أحد أهم عاملين في تشكل نمط التراكم في الخليج. أما العامل الثاني المهم، فلنا أن نضيفه كمحدد رئيسي أيضاً في الخاصية السادسة:

6. قوة العمل مستوردة من خارج مساحة الاقتصاد المحلي.

إذا تواجدت هذه الخصائص في اقتصاد معين، فبإمكاننا أن نسمي الاقتصاد من نمط OELI.  ويجب أن نؤكد أن ما نبينه أعلاه إنما هو نوع معياري (ideal-type) لنمط نمو يعتمد بشكل كامل على النفط والعمالة الوافدة.[8] وبالطبع لا يوجد اقتصاد يمتثل كلياً لهذه المواصفات، إلا أن دول الخليج تقترب جداً من ذلك، إذ أن الخصائص 1. إلى 6. تنطبق عليها بنسب عالية جداً. إذن، كلما اقتربت خصائص أي اقتصاد من خصائص النمط المعياري المذكور أعلاه، كلما كان بإمكاننا تسمية نمط تراكمها بنمط OELI . وفيما عدى دول الخليج، قد تكون الدول الوحيدة التي ينطبق عليها هذا النمط في عصرنا هما ليبيا في عهد القذافي (على الرغم من اختلاف نظام السلطة) وسلطنة بروناي، وإن كانت بنسب أقل بكثير من دول الخليج (خصوصاً من ناحية نسبة العمالة الوافدة).

جدول 2.3.2: درجة امتثال اقتصاديات دول مجلس التعاون لخصائص نمط النمو OELI في بدايات القرن الواحد والعشرين

الدولة حصة الدولة من إيرادات النفط محلياً[9] نسبة الصادرات من إجمالي إيرادات النفط[10] نسبة النفط من إجمالي الصادرات[11] نسبة مصروفات الدولة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي[12] نسبة النفط من إجمالي إيرادات الدولة[13] نسبة الوافدين في إجمالي قوة العمل[14]
الإمارات 100% >90% 48% 82% 92%
البحرين 100% >80% 61% 38% 90%  79%
السعودية 100% >90% 80% 60% 93% 59%
عمان 100% >90% 61% 85% 87% 82%
قطر 100% >90% 86% 72% 70% 95%
الكويت 100% >90% 88% 91% 94% 83%

*صادرات الإمارات من النفط تتضمن الكثير من الواردات المعاد تصديرها عبر دبي (re-exports)، لذلك لم يجري إدخالها.

على أرض الواقع، فقد تبلور هذا النمط الاقتصادي بشكل ملموس في بناء المدن الحديثة والأنشطة الموازية لها، ولكن هذه المدن والأنشطة كانت من نوع خاص، نسميها بمدن الحداثة النفطية، وذلك لأنها اعتمدت على النفط ليس فقط من ناحية إيرادات بيعه للخارج، بل أيضاً على استخدام النفط والتكنولوجيا المصاحبة له لتوفير أبسط مقومات الحياة فيها، بما فيها تحلية المياه وإنتاج الطاقة. وبذلك، فإن النفط لعب دوراً أساسياً في اقتصاد دول مجلس التعاون من ناحية توفير القيمة التبادلية أو النقدية (exchangevalueللاقتصاد ليمول مدفوعاته إلى الخارج، ولكن لعب دوراً أساسياً أيضاً من ناحية القيمة الاستعمالية (use-value) عبر استخدامه لتزويد أسس الحياة في هذه المجتمعات.

وقد بنيت هذه المدن في دول الخليج على نمط الحداثة العالية، التي اتخذت السيارات وفلل الضواحي كالوحدات الرئيسية في تصميمها. وتتميز هذه المدن بنموها السكاني العالي وكثافة استهلاكها للسيارات والشوارع والمياه والغذاء والطاقة والمنشآت العمرانية الضخمة، على نمط مدن الضواحي التي تعتمد على السيارات (suburban car-based cities) المستوحاة مما يسمى بـ “المدن المشمسة” (sunbelt cities) في الولايات المتحدة، كلوس انجلوس وهيوستون، حيث أصبحت دول الخليج أعلى دول العالم استهلاكاً على المستوى الفردي بلا منازع. بل وحتى أن بعض دول الخليج وصلت إلى مرحلة بناء مدن من هذا النوع تتعدى احتياجات سكانها المحليين، وموجهة في الأساس إلى المشتري “الدولي”، بحيث سارعت في بناء “مدن دولية” في بدايات الألفية الثالثة، وذلك حتى يتم التواصل في هذا النمط الاقتصادي المبني على تدوير عوائد النفط في إنشاء مدن ذات كثافة في الاستهلاك والاستيراد.

ومن المهم أن نشدد على مركزية استملاك واستهلاك الطبيعة في نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون. فإن كنا قد ركزنا في السرد السابق على اعتمادية اقتصاديات دول الخليج بشكل مفرط على استملاك وتصدير النفط بالإضافة الى استيراد قوة العمل الوافدة كالمحورين الرئيسيين لنمط نمو الإنتاج، والذي لخصناه في مصطلح OELI، فإن تحليلنا لن يكون مكتملاً لو لم نضف استملاك واستهلاك البيئة كعمود ثالث. وهذا الاستملاك والاستهلاك للبيئة يشمل النفط الذي يتم حرقه واستغلاله في سبيل نمو النمط المعين من الإنتاج والاستهلاك الذي برز في دول المجلس، ولكن يتعدى ذلك ليشمل الأراضي والبحار والهواء الذي ما انفك يتم استغلالها بشكل توسعي في سبيل تفعيل النمو الاقتصادي. وبذلك، فإن النمو العددي في انتاج دول مجلس التعاون لا يعتمد على النمو العددي فقط في قوة العمل، بل يعتمد أيضاً على النمو العددي في مدخلات الإنتاج، وعلى رأسها استملاك مكونات الطبيعة وتسخيرها لهذا الأمر.

 

الخلل الإنتاجي: دورة التجديد والاستدامة

إذن ما هو الخلل الإنتاجي في نمط النمو هذا؟ حتى نبين هذا الخلل علينا أن نحلل دورة الإنتاج السابقة، وبناء عليها فبإمكاننا الحديث عن نوعين من الخلل. الأول يرتبط بعملية الإنتاج نفسها، ويمكن تعريفه بالتأخر النسبي في تقنيات نمط نمو الإنتاج مقارنة بأنماط نمو الإنتاج الأخرى. كمثال، فقد يعتبر نمط النمو متأخراً نسبياً من ناحية التكنولوجيا والإنتاجية، أو من ناحية طبيعة السلع المنتجة، بحيث أنه لا يستطيع إنتاج سلع وخدمات بتكنولوجيا متقدمة تنافس ما ينتجه نظرائه من مجتمعات.

أما النوع الآخر من الخلل فيرتبط بالقدرة على الاستدامة، وخصوصاً في القدرة على ضمان إعادة إنتاج وتجديد الشروط الأولية ليستمر نمو نمط الإنتاج في دورته بشكل متواصل. إذن علينا أن نسأل: كيف يقوم نمط النمو الإنتاجي والنظام الاقتصادي المرتبط به في الخليج بإعادة إنتاج وتجديد نفسه؟ وكيف يقوم بتوفير العوامل الأساسية التي يحتاجها بشكل متواصل حتى يضمن إمكانية إعادة تجديد نفسه بشكل متواصل ومنتظم؟ فإن لم يستطع هذا النمط الإنتاجي، لأي سبب من الأسباب، ضمان توفر وتجدد كل من هذه العوامل التي يحتاجها حتى يضمن استمراريته وتجدده، فهناك خلل – أي أنه غير مستدام. وهذا يعني أنه علينا تبيان ماهية هذه العناصر الأساسية التي يحتاجها أي نظام إنتاجي-اقتصادي ليضمن تواصله وتجدده، والنظر إلى دورة التجديد (cycle of reproduction) لكل منها التي تضمن استمرارية وتوفير هذا العنصر. ويعتبر هذا الهدف هو المرتكز الرئيسي للدراسة: تبيان خصائص وطبيعة وتاريخ نمط نمو الإنتاج السائد في الخليج، وما إذا كان نمط نمو الإنتاج هذا قادراً على إعادة إنتاج وتوليد نفسه اجتماعياً (social reproduction)، وبذلك يكون مستداماً على المدى البعيد.

وكي نحلل هذين النوعين من الخلل في دول مجلس التعاون، لزم النظر إلى قطاع النفط بشكل خاص لكونه المحرك الرئيسي للاقتصاد، بالإضافة إلى تحليل نمط النمو العام في بقية الاقتصاد غير النفطي. ومن ناحية قطاع النفط، يتمثل الخلل الإنتاجي في كون إنتاج القطاع مبنياً على قلة تكلفة استخراج النفط وتواجده بكثرة في المنطقة، وهي أساساً نتاج الخصائص الجيولوجية (أي البيئية) الاستثنائية للمنطقة بدلاً من تطور قوى الإنتاج والتكنولوجيا في المجتمع. وبداية، فقد تم تخطيط الإنتاج في هذا القطاع بناء على اعتبارات شركات النفط العالمية لمصالحها الربحية الخاصة، التي رسمت خطط إنتاجها بناء على احتياجات واعتبارات السوق العالمي بدلاً من معطيات قوى الإنتاج في الاقتصاد المحلي، وتواصل هذا التوجه نحو تلبية اعتبارات السوق العالمي حتى في عصر تأميم النفط. والريع العالي الناتج من قلة تكلفة استخراج النفط وتواجده بكثرة في المنطقة نظراً لخصائص جيولوجية بحتة، بالإضافة إلى تصديره بناء على احتياجات السوق العالمي بدلاً من اعتبارات قوى الإنتاج في الاقتصادي المحلي، أدى إلى تدفق إيرادات هائلة على دول الخليج بطريقة لا تعكس إنتاجية قوة العمل فيها. وقد سبب ذلك خللاً لأنه أصبح على دول الخليج التعامل مع إيرادات هائلة متقلبة ليست مبنية على مستوى تطور القاعدة الإنتاجية وقوة العمل فيها، وبذلك أصبحت هذه الإيرادات التي يتم تحديدها في السوق العالمي هي العامل الرئيسي الذي يسيّر ويهيمن على بقية قوى الإنتاج في المجتمع بدلاً من العكس.

أما الخلل الإنتاجي من ناحية عدم الاستدامة، فبالإضافة إلى كون النفط مورداً ناضباً، فإن أساس هذا الخلل يتمثل في القدرة على إعادة إنتاج صناعة النفط وكيفية استعمال إيرادات النفط. فمن ناحية صناعة النفط، فعلى الرغم من مرور أكثر من ثمانين سنة من إنتاج النفط، إلا أن دول الخليج ما زالت غير قادرة على إنتاج وتصنيع الآلات التي تحتاجها لاستمرارية وإعادة إنتاج هذه الصناعة ذاتياً، من معدات حفر الحقول ومصانع التقطير والتكرير إلخ، إذ إنها تعتمد بشكل شبه كلي على الشركات العالمية الأجنبية لتزويدها بهذه المعدات وبناء المصانع. وبذلك، فإنه حتى في أهم قطاع إنتاجي لدول الخليج، فهي غير قادرة على ضمان إعادة إنتاج هذا القطاع بشكل دائم ومستمر بشكل ذاتي. ولنا أن نقارن ذلك مع النرويج، التي أصبحت من الدول الرائدة في مجال تصنيع معدات وآلات قطاع النفط، حتى وصلت إلى مرحلة تصديرها.

أما من ناحية إيرادات النفط، فتمثل الخلل الإنتاجي في عدم استعمال غالبية هذه الإيرادات النفطية كرأسمال عام يستثمر كثروة عامة في أنشطة إنتاجية لتتكاثر قيمة هذه الثروة بناء على مبدأ تراكم رأس المال العام. بل استعملت الغالبية الساحقة من إيرادات النفط إما في مشاريع إنشائية متضخمة دون عائد للدولة، أو كتوزيعات ومخصصات جارية لم ترتبط بالإنتاج، تزداد مع قرب المكانة الاجتماعية لمن يستلمها من متخذي القرار في الدولة. حيث وزعت الإيرادات لجهات خاصة وعامة عن طريق الرواتب والمخصصات والدعم، وهذه استحوذت على الأغلبية الساحقة من إيرادات النفط. أما توجيه عائدات النفط للاستثمارات والمشاريع العامة، فلم يأخذ إلا حصة صغيرة من دخل النفط. وبهذا تحولت إيرادات النفط، التي من المفترض أن تكون ملكاً عاماً يتم استثماره بشكل إنتاجي مستدام حتى يتكاثر كثروة عامة لمختلف الأجيال المتعاقبة، إما إلى مشاريع إنشائية ضخمة لا تعود بالدخل على الدولة وتتطلب صيانة مستمرة، أو مخصصات جارية غير متجددة وغير مرتبطة بالإنتاج، للجهة الخاصة التي تحصل على حق التصرف بها كما تريد.

أما إذا حولنا ناظرينا إلى الإنتاج في بقية الاقتصاد، فيتمثل النوع الأول من الخلل الإنتاجي، والذي يرتبط بالإنتاجية والتكنولوجيا في هذا الاقتصاد، بأنه وفيما عدى قطاع النفط (وقطاع المشاريع العامة نسبياً)، فإن الإنتاج في الاقتصاد يعتمد على قوة عمل وتكنولوجيا ذات إنتاجية متدنية ومستمرة في التدني، بحيث لا يستطيع المنافسة على مستوى العالم من ناحية الصادرات. ويعتمد في إنتاجه أساساً على العمالة الوافدة متدنية الإنتاجية والحقوق والمهارة والتعليم، التي يتمحور إنتاجها في قطاعات اقتصادية منخفضة المخاطر وغير قابلة للتصدير. هذا بالإضافة الى استناد نمو الإنتاج على توسع مطرد في استملاك واستهلاك مواد الطبيعة في عملية الإنتاج، في قطاعات تعتمد أساساً على الاستيراد والاستهلاك المحلي العالي، ومتركزة أساساً في قطاعات الإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية المصاحبة. وهذا النمط من النمو يعتمد إجمالاً على النمو العددي في كميات مدخلات الإنتاج (extensive growth)، خصوصاً مواد الطبيعة وقوة العمل منها، ولا يستند على النمو في الإنتاجية والتطور في التكنولوجيا (intensive growth).

أما النوع الآخر من الخلل الإنتاجي، والذي يمثل برأينا البعد الأعمق، فهو الخطر الشديد من عدم استدامة نمط نمو الإنتاج هذا الذي برز في الخليج على مدى الستين سنة الماضية. وهذه الخطورة تبرز في أكثر من شكل من عدم قدرة نمط النمو على توفير الشروط الأساسية لإعادة إنتاج نفسه. أولاً، فإن الاقتصاد يعتمد على ضخه بصورة متواصلة بإيرادات تصدير النفط، وذلك حتى يمول المدفوعات التي تخرج من الاقتصاد من واردات وتحويلات عمالية ورؤوس أموال، والتي تهرب من الاقتصاد بلا عودة. والعوامل التي تحدد دورة الاقتصاد المحلي، وطلبها على الواردات وقوة العمل من السوق العالمي ورؤوس الأموال التي تخرج من الاقتصاد، تختلف كلياً عن العوامل التي تحدد طلب السوق العالمي للنفط، وبالتالي تختلف كلياً عن العوامل التي ستحدد الإيرادات التي تحصلها دول الخليج من النفط. فدورة الاقتصاد المحلي تدخل فيها عوامل الطلب على السلع والغذاء والمعدات المستوردة إلخ، بالإضافة إلى عوامل الطلب على العمالة الوافدة، وأخيراً حسابات أصحاب رؤوس الأموال الخاصة حول تصدير أموالهم إلى الخارج، التي تختلف عن عوامل الاقتصاد العالمي التي تحدد إيرادات النفط التي تحصلها دول الخليج. إذن، نحن بصدد مساحتين مختلفتين: السوق المحلية، والسوق العالمية، ولكل منهما عواملهما الخاصة، ولكن تربط هاتين المساحتين إيرادات النفط المحصلة من الخارج، والتي تستعملها دول الخليج لتدفع  كلفة وارداتها واستثماراتها في العالم. وبهذا فإن دول الخليج تعتمد بشكل جذري على السوق العالمي ليواصل ضخها بإيرادات النفط. ولكن عوامل الطلب على إيرادات النفط محلياً، تختلف عن العوامل التي تحدد ما تجنيه دول الخليج في سوق النفط العالمية. وإذا ما عجز الاقتصاد عن تحصيل إيرادات النفط الكافية من الخارج لتلبية متطلبات دورته المحلية لأي سبب من الأسباب، فإن دورته الاقتصادية ستنقطع وتكون غير مستدامة.

وعدم استدامة نمط النمو هذا يبرز في أكثر من مفصل من الاقتصاد، ولنا أن نتفحص دورة الدخل في اقتصاديات دول الخليج (راجع الرسم البياني) كي تتبين لنا نقاط التماس والتناقض الممكنة في هذه الدورة، والتي تتواجد تقريباً في كل خطوة منها. ففي أي من الخطوات السابقة بالإمكان أن تتطور أزمة ما كفيلة بوضع إمكانية تواصل الدورة ككل في خطر إن هي تبلورت على أرض الواقع. فإذا ما أخذنا الخطوة 1a، وهي أساس ما يدخل دول الخليج من إيرادات النفط، فقد تسبب هذه الخطوة أزمة إن تدنت إيرادات النفط بشكل كبير. وقد يكون ذلك نظراً لهبوط سعر النفط في العالم بسبب انخفاض الطلب عليه (كمثال نظراً لزيادة عدد السيارات الكهربائية) أو نظراً لهبوط تكلفة إنتاجه (كما يحصل منذ عام 2017 مع انخفاض تكلفة الإنتاج عبر عملية تكسير النفط الصخري (shale oil fracking))، أو لأن النفط بدأ ينضب وبذلك تنخفض الكمية التي يمكن تصديرها من الدولة. وقد تكون هذه أول وأهم نقطة تماس في دورة الدخل في الخليج، فبدون إيرادات النفط ما من شك أن دورة الاقتصاد الحالية ستنهار. وإذا ما نظرنا إلى كمية إيرادات النفط نسبة إلى عدد مواطني دول المجلس، فإن الإيرادات نسبة لكل مواطن تتقلب مع أسعار النفط، كما أن معدلها يهبط تدريجياً على مر الزمن نظراً لارتفاع أعداد المواطنين بشكل متواصل (ناهيك عن الارتفاع في أعداد الوافدين).

الشكل 2.3.4: إيرادات النفط بالأسعار الثابتة لعام 2015 مقسومة بأعداد المواطنين على مر الزمن

نقطة تماس أخرى هي في الخطوة 2a، بحيث قد تتزايد إنفاقات الدولة لدرجة تفوق إيراداتها. وعلى الرغم من أن المحللين كانوا يرون ذلك من سابع المستحيلات خلال طفرة السبعينات، إلا أن هذه أضحت حالة عانت منها كل دول الخليج في الثمانينات والتسعينات نظراً لتضخم المصروفات وقلة الإيرادات، كما دخلتها كل دول الخليج مرة أخرى مؤخراً وبلا استثناء منذ العام 2015. وهذه أيضاً ستسبب ضغطاً على إمكانية تواصل نمط نمو الإنتاج إن استمرت لفترة من الزمن، بما أن إنفاق الدولة يلعب دوراً محورياً في نمط النمو. وقد تتبلور هذه الأزمة عبر ارتفاع سعر الفائدة على القروض للدولة، أو حتى عدم تواجد مقرضين للدولة وبدء رؤوس الأموال بالخروج من الاقتصاد المحلي، كما حصل لليونان في نفس الفترة.

الخطوة 3 أيضاً ممكن أن تصبح مصدراً للأزمات، والتي قد تتشكل في عدة تجليات. أولها هو في العلاقة ما بين الدولة والمواطنين، إذ أن عدد المواطنين الذين يعانون من البطالة قد يزيد مع تضاؤل إمكانية الدولة لتوظيفهم في القطاع العام، وقد ينخفض مستوى المعيشة لدى المواطنين مع تقلص الريع النفطي الذي تحوله الدولة لهم. وقد بدأت بوادر هاتين الظاهرتين بالظهور بنسب متفاوتة في دول الخليج في القرن الحالي، إذ اتخذت كل دول الخليج خطوات تقشفية شملت رفع سعر الطاقة والمياه والمحروقات وحتى تخفيض علاوات الرواتب في خضم الأزمة النفطية منذ عام 2016. كما بدأت نسب البطالة بالارتفاع بين صفوف المواطنين منذ تسعينات القرن الماضي.

نقطة تماس محتملة أخرى هي في العلاقة ما بين رأس المال والعمل، إذ أنه في خضم الصعوبات الاقتصادية، فإن الدولة تدفع بالمواطنين للعمل في القطاع الخاص، على أن يقبل القطاع الخاص بتوظيفهم. وقد تتطور الأزمة إن واصلت الشركات الخاصة المحلية رفضها توظيف المواطنين أو التحايل على ذلك عبر التوظيف الوهمي، والاستمرار في الاعتمادية المطلقة على العمال الوافدين. وفي المقابل فقد يرفض المواطنون العمل في القطاع الخاص في ظل الحقوق والرواتب المتدنية في هذا القطاع، مما يفاقم من مشكلة البطالة. وقد تكون نقطة تماس أخرى محتملة هي في أن يطالب العمال الوافدين بحقوقهم بشكل أكثر تنظيماً، حيث برزت عدة مظاهرات واعتصامات وإضرابات في خصم الأزمة النفطية الأخيرة في صفوف العمال الوافدين المطالبين بحقوقهم، بالإضافة إلى تزايد المطالبات من المنظمات الحقوقية العالمية في هذا المجال. وعموماً، فإن الأزمة الكبرى التي تخاف منها أي دولة هي نشوب اضطرابات اجتماعية أو انتفاضات أو حتى ثورات فيما بين سكانها إن وصل الوضع الاقتصادي-السياسي إلى مستوى لم يعد الناس يقبلون به، وهذه بالتأكيد ستسبب أزمة لنمط النمو. وأظن أن أحداث ما سمي بالربيع العربي منذ عام 2011 هي أفضل علامة على ذلك.

وأخيراً وليس آخراً، فقد تنشب أزمة أيضاً في الخطوة 4، إذ قد تزيد الأموال التي تخرج من الاقتصاد على تلك التي تدخل إليه، إما عبر الزيادة المطردة للواردات، أو هروب النقد ورؤوس الأموال إلى الخارج، أو ارتفاع تحويلات العمالة الوافدة. وكل هذه قد تضغط على الحساب الجاري وعلى مخزون الدولة من العملة الصعبة في ظل انخفاض أسعار النفط. وقد دخلت السعودية والبحرين وعمان هذه المرحلة في عام 2015، وخصوصاً في حالة الدولتين الأخيرتين ذات الاحتياطي المتواضع من الدولارات، حيث انخفض مخزونهما من العملة بشكل قد يضعضع الثقة في قدرة الدولة على المحافظة على أسعار صرف عملتها وربطها بالدولار. وإن تواصل العجز في الحساب الجاري واستمر هروب رؤوس الأموال بأعداد كبيرة ولفترة ممتدة من الزمن، بحيث يزيد النقد الذي يخرج من الاقتصاد بشكل كبير على ما يدخل له، فعادة ما تتجسد الأزمة في شكل أزمة عملة وانهيار قدرة البنك المركزي على تثبيت سعر صرفها مع الدولار.

وإن كانت كل من هذه الأزمات محدقة، فأيها المرشح للانفجار أولاً؟ لا نعلم، وليس دورنا هنا أن نتكهن بالمستقبل، إذ كذب المنجمون ولو صدقوا، ولكنه في رأيي أن كل منها ممكنة، بل من الممكن أن تتبلور أكثر من واحدة منها في آن واحد. فمن الخطأ النظر إلى كلّ نقاط التماس والتناقض هذه على أنّها قضايا مستقلة، أو اعتبار هذه الخطوات على أنّها مجرّد مجموعة من المشاكل المشتتة وغير المترابطة جوهرياً. فمن المهم أن نحلل أوجه الترابط فيما بين هذه العناصر المتظافرة في ظل نمط نمو الإنتاج العام. ومن الخطأ معاملة نمط نمو الإنتاج وعوامل الإنتاج التي تدخل فيه وكأنّها ظواهر جامدة، يستحيل أن يطرأ عليها التغيير، فجدلية التاريخ لا تتحرك في خطوط مستقيمة مرسومة مسبقاً، بل إن التغيرات المستمرة في عوامل دورة الإنتاج، والتناقضات التي تولدها، تجعل من الصعب، بل من المستحيل، التنبؤ بدقة بكل ما قد يحصل من توابعها. وعلى نفس القدر من الأهمية كيفية تعامل الأطراف ذات المصلحة مع هذه التغيّرات. فعندما تخرج التبعات عن المألوف، تجد الأطراف المختلفة نفسها على المحك، وخارج نطاق ما اعتادت التعامل معه، أكانت الأنظمة المحلية، أم فئات الشعب المختلفة، أم القوى الدولية. وعلى الرغم من ذلك، بل بسبب ذلك، يصبح من المهم أن ننظر إلى نمط نمو الإنتاج ودورة إعادة إنتاجه وتجديده بشكل شمولي، كي نفهم أوجه الخلل الرئيسية في عدم استدامته، مع أهمية الأخذ في الحسبان أن علم الإنسان محدود بحيث لا يستطيع التكهن بكل التداعيات التي قد تنتج من هذا العدد اللامحدود من التعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المليارات من البشر.

تداعيات أزمتي كورونا وسوق النفط

كتِب ما سبق قبل أن يباغت فيروس كورونا COVID-19 العالم البشري خلال عام 2020، وأتت الجائحة بمثابة الأزمة التي طبقت الكثير مما تم تبيانه على مدى الصفحات السابقة على اقتصاديات دول الخليج العربية. وفي ما يلي سأقوم بقراءة تداعيات هذه الازمة في ضوء ما تم عرضه مسبقاً من الأزمات الممكنة في اقتصاد من نمط OELI. فمن المعلوم أنه منذ شهر فبراير 2020، عطلت غالبية دول الخليج المدارس والجامعات، وطلبت العمل من المنزل لمن يستطيع، وصولاً إلى مرحلة فرض حظر التجول. وإذا نظرنا إلى الاقتصاد المحلي ككل، فقد كان ما حصل بمثابة هزة تقلص الطلب الإجمالي (aggregate demand) والعرض الإجمالي (aggregate supply) معاً. فمن ناحية الطلب، انكمش الاستهلاك في الكثير من القطاعات التي تعتمد على اختلاط الناس وحركتهم، بما فيها المجمعات والمطاعم والمدارس والجامعات والفعاليات الرياضية إلخ، وقد تأذت بشكل خاص قطاعات الطيران والفنادق والسياحة. وفي المقابل، فإن العرض العام تدهور أيضاً عن طريق إيقاف الكثير من الناس عن مزاولة العمل، مما أدى إلى تضاؤل القوة العاملة. وهكذا، يكون الاقتصاد قد تعرض لضربة في العرض الإجمالي والطلب الإجمالي معاً، مما يعني انكماشاً حادّاً في الإنتاج الاقتصادي عموماً، وكان هذا هو الحال في أغلبية دول العالم.-

وقد يقارن البعض ما حصل بحالة اقتصاد الحرب (war economy)، خصوصاً تلك التي برزت في أوربا وأميركا خلال الحربين العالميتين، إلا أن هذا ليس دقيقاً أيضاً، ففي اقتصاد الحرب عادة ما تُعبَّأ وتُستنفَر كل الطاقات الاقتصادية وتُوجَّه نحو هدف البقاء في الحرب، بما فيها إنتاج الأسلحة وتواصل سلاسل الإمداد. وقد تنطبق هذه التعبئة حالياً على بعض القطاعات الحيوية، كالصحة والنفط والغذاء والماء والكهرباء، التي دخلت مرحلة الاستنفار العام نظراً لأهميتها في استمرار حياة البلد، إلا أن الحال هي العكس في بقية الاقتصاد الذي أُدخِل فعلياً في مرحلة ركود إجباري (stasis)، في حالة قد تكون أقرب إلى غيبوبة مستحثة (induced comma). والقطاع المحلي الأكثر تأثراً هو القطاع الخاص المكون من الشركات العائلية وأصحاب رؤوس الأموال والموظفين فيها، أما القطاع الحكومي والشركات العامة التي تملكها الدولة، فعموماً كان التأثير أقل وطأة على من يعمل فيها نظراً لاستحصالها على الدعم الحكومي. ولم تختلف باقي دول العالم عن الخليج في هذا الجانب[15] إلا أن ما قد يميز الخليج عن الدول الصناعية في هذا الجانب هو أن أكبر المتأثرين يعتبرون من العمالة الوافدة المشتغلة في القطاع الخاص وأولئك الذين يعتمدون على الأجر اليومي لتوفير قوتهم.

إلا أن في دول الخليج اعتباراً آخر يفاقم الوضع الاقتصادي الحرج، وعلى الرغم من أننا قد لا نحس بوطأته مباشرة، فإنه قد يكون أكثر خطورة على المدى المتوسط والبعيد، ألا وهو ما يحدث في سوق النفط. فأزمة كورونا قللت الطلب على النفط بشكل كبير عالمياً، خصوصاً مع الهبوط الحاد في تنقل البشر عبر السيارات والطائرات، وكما هو معروف فإن قطاع النقليات هو أكبر مستهلك للنفط في العالم. ونتيجة لهذا  الهبوط الحاد في الطلب، تهاوت أسعار النفط إلى ما يقارب 20 دولاراً، مع احتمالية انخفاضه لما دون ذلك.[16]

إذا عدنا لرسمنا البياني لدورة الدخل، فإن ما يعنيه ذلك أن إيرادات النفط من الدولارات التي تأتي إلى دول الخليج (1)، وهي كما بيّنا سابقاً تعتبر أهم خطوة وتمثل الرافعة و”الدينمو” لبقية الاقتصاد، قد انخفضت بشكل حاد خلال الأزمة بنسبة قد تصل إلى أكثر من النصف في بعض الدول. وفي المقابل، فإن التغير في الدولارات التي تخرج من الدولة (خطوة 4) صغير نسبياً، على الرغم من أنها قد تنخفض مع إنهاء عمل الكثير من العمالة الوافدة ونزول الطلب على الواردات نظراً للتباطؤ الاقتصادي في الاقتصاد غير النفطي (خطوة 3). والخلاصة أن الفرق بين كمية الدولارات التي تدخل الدولة في مقابل تلك التي تخرج منها ستصب في ميزان الثانية، وهذا أخطر مؤشر على عدم قدرة الاقتصاد على الاستدامة مالياً إذا استمر هذا الحال لفترة متواصلة وممتدة من الزمن.

أما إذا نظرنا إلى إنفاق الدولة (الخطوة 2)، فهذا الصرف عموماً لم يتراجع بنفس الحدة، بل قد يزيد في بعض الأحيان. فرواتب الدولة وخدماتها لم تتوقف، بل إن الكثير من مؤسساتها قد دخلت مرحلة الطوارئ والعمل المكثف في حالة مشابهة لاقتصاد الحرب، خصوصاً في الخدمات الصحية والنفط والطاقة كما بيّنا. بل إن بعضاً من دول الخليج عملت على تقديم “حزم تحفيزية” للاقتصاد عبر زيادة إنفاقها لتغطية رواتب المواطنين في القطاع الخاص، وزيادة دعم الكهرباء والماء،[17] وتأجيل الفوائد على القروض إلخ، في محاولة منها للتصدي لمضاعفات الأزمة والانكماش الذي ألم بخطوة 3، هذا على الرغم من أن إيراداتها الممولة أساساً من ريع النفط في هبوط مستمر. وتعتزم دول الخليج أن تغطي هذا العجز عن طريق ما لديها من احتياطيات، خصوصاً في الدول ذات الاحتياطيات الأكبر نسبياً كالكويت وقطر والإمارات (والسعودية إلى نسبة أقل)، أما في حالة البحرين وعمان (والسعودية)، فليس لها خيار سوى الاقتراض والاستدانة أو بيع الأصول لتغطية العجوزات التي يبدو أنها ستكون ضخمة.

إذن، إن كان لنا أن ننظر إلى الثالوث الذي تنظر إليه الكثير من الدول عند تقييم حالة اقتصادها، والمتمثل في حالة ميزان المدفوعات (balance of payments) وميزانية الحكومة والبطالة، فإن الأولَين سيترديان بشكل خطر جداً. ولأنه كان من المتوقع أن تسجل كل دولة من دول الخليج عجزاً في ميزانيتها حتى قبل انفجار أزمتي كورونا وتدهور أسعار النفط، فإن هذا العجز في ميزانيات الدول سيتفاقم خلال الأزمة بشكل كبير، وسينعكس ذلك تباعاً على ارتفاع الدين العام لدى الكثير من دول الخليج. أما من ناحية ميزان المدفوعات، فمن الممكن أن تدخل عدة دول (خصوصاً البحرين وعمان) في خطر استنزاف ما لديها من الدولارات وبقية العملات الصعبة، وإدخالها في مرحلة حرجة قد تعجز بعدها عن تثبيت سعر عملتها إذا امتد ذلك لفترة من الزمن. أما من ناحية الوظائف، فيبدو أن القطاع الخاص سيتلقى الضربة الكبرى في المدى القصير، خصوصاً الوافدين الذين قد يتوقف الكثير منهم عن العمل.

قد يقول البعض أن هذه حالة طارئة مؤقتة، وأنها ستختفي قريباً وتعود دول الخليج إلى سابق عهدها، إلا أن هاتين الأزمتين (كورونا وسوق النفط) قد أوضحتا بشكل جلي أن هناك خللاً مزمناً في العهد السابق الذي لم يعد مستداماً. فحتى قبل الأزمتين، ما انفكت مصروفات الدولة تزداد مع تضخم السكان والاستهلاك المحلي والمشاريع البراقة التي تتبناها الدول من مدن ضخمة ومسابقات رياضية عالمية إلخ، حتى أصبح الإنفاق العام أعلى من الإيرادات في دولة مثل الكويت التي من المفترض أن لديها نسبة عالية من ريع النفط لكل مواطن. وما انفك ما يخرج من البلد من الدولارات يزداد مع تصاعد الواردات وتحويلات العمالة الوافدة ورؤوس الأموال المغادرة، بينما ما زال ما نحصله من دولارات مرتبطاً بتقلبات وأهواء سوق سلعة واحدة ناضبة، ألا وهي النفط. إذن، دورة هذا النمط من الاقتصاد كانت قد دخلت مرحلة حرجة حتى قبل أزمتي كورونا وسوق النفط اللتين وضحتا بشكل جلي أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد –  إلى ما لا نهاية – على إيرادات النفط وحدها لتغطية إنفاقات الدولة وما يخرج منها من دولارات. وعلى الرغم من أن كل دول الخليج آثرت امتصاص الصدمة على الاقتصاد المحلي عبر توسعة عجوزات الميزانية والسحب من احتياطها والاقتراض، فليس بإمكانها إرجاء التصدي لهذه المشكلة إلى الأبد، ويبدو أن مرحلة الحساب ربما كانت أقرب مما كنا نتصور. وقد تكون البحرين أوضح مثال على ذلك،[18] حيث تخطى الدين العام 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وتثمل الالتزامات الدولية جزءاً كبيراً منه، بينما يواصل الاقتصاد تسجيل العجز تلو العجز في الحساب الجاري والميزانية حتى قبل كورونا، وصنفت كل شركات التصنيف الائتماني ديْنها بـ”الخردة” (junk)، ووصل الحال إلى أنها اضطرت إلى طلب المساعدات العاجلة المتكررة من باقي دول مجلس التعاون لدعم ميزانيتها وتثبيت عملتها. وما زالت الأسواق المالية العالمية تتوقع أن بقية دول الخليج ستواصل إنقاذ البحرين من محنتها، فأزمات اليونان[19] ولبنان[20] تقدم درساً لما قد يحصل إن تُرِك الموضوع ليستفحل من دون مساعدة الجيران. لكن السؤال هو ماذا سيحصل عندما تصل بقية دول الخليج إلى نفس المرحلة لا قدر الله؟ من سينقذهم كلهم حينها؟

إذن هاتان الصدمتان المتزامنتان (كورونا وهبوط أسواق النفط)، على الرغم من أنهما قد لا تستمران سوى لفترة معينة، فإنهما تنذران بأنها مرحلة فاصلة لدول مجلس التعاون، وأن ما سبقها لن يكون مثل ما بعدها، وهي بمثابة جرس إنذار أخير للنمط الاقتصادي الذي فصلناه على مدى هذه الورقة، والذي أصبح عجزه عن تحقيق الاستدامة واضحاً. بل قد تكون هذه التغيرات والصدمات الإجبارية فرصة فُرِضت علينا قسراً لفتح باب النقاش حول هذا النمط ومراجعته، وإمكانية تغييره بشكل جذري في أقرب فرصة نحو نمط أكثر استدامة.

الخطر الأعمق من ناحية الاستدامة: عدم القدرة على إعادة الإنتاج

بل إذا ما ألقينا نظرة عامة شاملة على نمط نمو الإنتاج في الخليج، تبين لنا أن هناك عوامل بنيوية عميقة قد تشكل خطراً أكثر تجذراً من ناحية استدامة نمط نمو الإنتاج من الأزمات المالية المحتملة المذكورة أعلاه، وخصوصاً من ناحية قدرته على توفير وإعادة إنتاج العوامل الرئيسية التي تدخل في دورته. فغالبية الأزمات التي بيناها مسبقاً في خطوات دورة الدخل، بالإمكان نظرياً مداواتها عبر إعادة توازن الاقتصاد والمالية والإنفاق. فبالإمكان كمثال تخفيض إنفاق الدولة، أو زيادة الضرائب لتعظيم إيراداتها، وبذلك تتم حلحلة الأزمة في مالية الدولة، على الرغم من التداعيات الاجتماعية التي قد تترتب على ذلك. كما بالإمكان تخفيض الواردات بشكل كبير لمعادلة الحساب الجاري، أو وضع القيود على خروج رؤوس الأموال من البلاد، أو تغيير سعر صرف العملة، إلخ من حلول إجرائية لضبط تدفق الأموال إلى خارج البلاد، والتي اضطرت الكثير من الدول كالأرجنتين واليونان لتطبيقها لإعادة الهيكلة المالية ودورة الدخل في الاقتصاد. لكن في رأينا حتى هذه الأزمات التي بيناها أعلاه، وعلى الرغم من خطورتها الجمة، فإنها لا تمثل أساس الخطر الرئيسي المحدق بدول مجلس التعاون في عدم استمرارية نمط نمو إنتاجها، بل المشكلة أعمق وتتمثل في أن نمط نمو الإنتاج نفسه قد يفقد القدرة على تزويد العوامل الرئيسية التي يحتاجها لإعادة إنتاج وتجديد نفسه.

وقد يكون أكبر سبب لعدم استدامة هذا النمط الإنتاجي، هو أن دول الخليج غير قادرة بنفسها على ضمان توفير وإعادة تجديد العوامل الأساسية لنمط نمو إنتاجها دون الاعتمادية على الغير، بل إنها تعتمد بشكل رئيسي على بقية العالم ليواصل تزويدها بهذه العوامل، التي تتحمل دول الخليج تكلفتها عبر الاعتمادية الكلية على تصدير مورد واحد وهو النفط. وهذا يشكل خطراً عليها من عدم الاستدامة على المدى الطويل ومن التقلبات الحادة على المدى القصير، نظراً لاختلاف محددات السوق المحلي في مقابل السوق العالمي بشكل جذري. وأول مخاطر عدم القدرة على تجديد عوامل الإنتاج هي بالتأكيد في سوق النفط، الذي يعتبر مورداً ناضباً تعتمد عليه دول الخليج كلياً لقبض الأموال التي تحتاجها من الخارج وضخها في دورة الاقتصاد المحلية. فإن اختفى النفط كلياً، توقفت الدورة السابقة كلياً أيضاً في ظل نمطها الحالي، إذ يكون أساس هيكلها الإنتاجي قد انهار وليس بإمكانها أن تتواصل عبر أية حلول مالية أو إجرائية ترقيعية.

لكن بالإضافة إلى مخاطر الاعتمادية المفرطة على إنتاج النفط وإيراداته التي ناقشناها، تظهر خطورة عدم القدرة على توفير عوامل الإنتاج بشكل مستمر جليةً في حالة قوة العمل، وهو العامل الإنتاجي الذي يشكل العنصر الأهم وأساس أي نمط إنتاجي في العالم. ففي كل دول العالم في القرن الواحد والعشرين ما عدا دول الخليج، تكون السمة الطاغية في كل دولة هي الحرص على أن تكون دورة تجدد وإعادة إنتاج قوة عملها دورةً وطنية في الأساس، وهذا يعني أن قوة العمل في الدولة يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها داخل الدولة أساساً، وأن الدولة لا تعتمد بشكل مفرط في إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل على مساحات خارج حدودها. فأساس مبدأ سوق العمل في الدولة الحديثة هو أن سوق العمل يمتد على المستوى الوطني، حيث تتم ولادة وتدريب وتوظيف العمال في أي دولة إجمالاً داخل نطاقها وحدودها، من خلال مواطنيها، بحيث يكون المواطنون هم التيار الرئيس في تزويد سوق العمل. بل عادة ما تحرص الدول على توطين المهاجرين والوافدين كي تضمن أن يصبحوا جزءاً من سوق العمل الوطني. وكل ذلك يحدث أساساً كي تكون كل دولة مستقلة وقادرة على التحكم والتأثير وإعادة تجديد سوق عملها داخل حدودها، بدلاً من ترك العوامل المحددة لعنصر بهذه الأهمية لأهواء أطراف لا تستطيع الدولة التحكم بها وتقع خارج سيطرتها وسيادتها. فإن الهندسة الديمغرافية لسوق العمل هي من أساس فنون الحكم لأي دولة في العصر الحديث وتأخذ حيزاً كبيراً من نشاطها.

أما في الخليج فالحالة مختلفة كلياً، فنطاق سوق العمل الأساسي هو العالم ككل. فأي شخص يريد توظيف عمالاً في شركة أو مشروع ما، وفيما عدا بعض الإجراءات البيروقراطية، يستطيع أن يمد ناظريه على مستوى العالم ليستقطب العمال. وكان لهذه الظاهرة “إيجابيات” مادية من وجهة نظر الشركات على المستوى القصير، بما فيها تجاوز تكلفة ومشقة تنشئة وتربية وتدريب عناصر قوة العمل (أي الإنسان) منذ ولادتها، ومن ثم الاعتناء بها بعد التقاعد والخروج من سوق العمل حتى مماتها. فدول الخليج تستورد في الغالب قوة عمل جاهزة ومدربة، وعندما تتقاعد تعيدها إلى دول مسقط رأسها من دون أن تتحمل تبعات إعالتها بقية حياتها.

في المقابل، يعني هذا أن الدولة فعلياً قد فوضت وتخلت عن قدرتها على التحكم ورسم شكل قوة العمل لديها، والتي هي من أهم الأمور التي تنشغل بها الدول الأخرى، إذ أنها تستثمر الكثير من فنون حكمها في إدارة وصقل قوة عملها من نشأتها إلى مماتها. ولو كنا لنأخذ مثالاً حاداً، فلو تم فرض حصار كلي على أي دولة من دول الخليج، في حالة حرب مثلاً، بحيث لم يسمح للناس بالتنقل إليها على الإطلاق، فلن يكون في مقدار اقتصاديات دول الخليج، وخصوصاً القطاع العائلي الخاص، توفير قوة العمل التي يحتاجها، إذ أنها تعتمد على العالم الخارجي بشكل رئيسي لتزويده بها. وذلك يعني أن دول الخليج غير قادرة على تجديد وإعادة إنتاج قوة عملها ذاتياً، حيث تعتمد أساساً على السوق العالمي ليزودها بقوة العمل بشكل مستمر.

وهذا بدوره ينطبق على التكنولوجيا، فالطريقة الرئيسية التي يتم بها تعلم وتبني التقنيات والمهارات في اقتصاد أي دولة، هي عبر العمل، فالتطبيق في العمل (Learning by Doing) هي أفضل مدرسة للتعلم. ولما كانت غالبية قوة العمل في الخليج من الوافدين، وليس لها حق التوطين، ولا تعيد إنتاج نفسها في دول الخليج، أو التواصل في البقاء فيها مع أبنائها، فهذا يعني أن المهارات والتكنولوجيا لا يعاد إنتاجها وطنياً، وبذلك لا يتم توطينها أو تواصلها داخل حدود الدولة. بل لا يوجد حافز لدى أصحاب العمل لتدريب وتطوير مهارات وتكنولوجيا الإنتاج، كونهم يعلمون أن هناك احتمالية عالية أن قوة العمل قد لا تستقر وتتواصل على المدى البعيد، وأنها ستغادر ولو بعد حين، وبالإمكان استقطاب عمالة مدربة وجاهزة مكانها، بدلاً من الذهاب في مشقة وعناء تدريب العمالة محلياً.

ونفس الأمر من عدم الاستقلالية في التجديد وإعادة التجديد ينطبق على إيرادات الدولة، التي يتم جنيها في كثير من الدول الأخرى من داخل إطار الدولة وسكانها، عن طريق الضرائب على الأنشطة الإنتاجية داخل حدود الدولة. أما في دول الخليج، فإيرادات الدولة تعتمد أساساً على بيع النفط إلى العالم الخارجي. وفضلاً عن حقيقة أن النفط مورد ناضب، فإن هذه الاعتمادية على إيرادات النفط تعني أيضاً أن الدولة تعتمد على العالم الخارجي ليزودها بالموارد المادية التي تسمح لها بالاستمرارية وتجديد نفسها.

وأخيراً وليس آخراً، فإن دول الخليج تعتمد في سيادتها وأمنها على قوى غربية عظمى (وخصوصاً الولايات المتحدة) لتوفير الأمن العسكري لها. وبذلك فهي تعتمد على استمرارية واستدامة أمنها وسيادتها على أراضيها على غطاء هيمنة عسكرية غربية، الأمر الذي يتطلب منها التواصل في توفير المدفوعات والصفقات العسكرية الباهظة لهذه الدول بشكل متواصل من أجل توفير هذا الغطاء، الذي يتم الدفع له عبر إيرادات النفط أيضاً.

إذن، قوة العمل، والنفط، والدولة وسيادتها، والتكنولوجيا، كلها مبنية بشكل كبير على معطيات تحدد أساساً خارج حدود الدولة، وكل هذه المعطيات يتم الدفع لها عبر إيرادات مورد ناضب وغير متجدد. مبدئياً، فإن ظاهرة استيراد عوامل الإنتاج من دول أخرى ليس بالأمر الشاذ، فالسائد هو أن هناك تجارة وتعاون واعتمادية متبادلة بين الدول في العالم، خصوصاً من ناحية السلع والخدمات. ولكن حدة وتركز هذه الظاهرة في دول الخليج في أكثر من عامل إنتاجي، وخصوصاً في قوة العمل والتكنولوجيا المصاحبة له، وفي سوق النفط، وفي الأمن السيادي، يعني أن أهم العوامل الضرورية لاستمرارية نمط الإنتاج وقدرته على تجديد نفسه في الخليج، يتم تحديدها خارج إطار الدولة. وهذه الظاهرة، خصوصاً في سياق عالمي ما زال ينظر إلى الدولة بأنها الوحدة الأساسية لتحديد تقاسيمه وتنظيم العلاقات فيما بين أعضائه، بحيث تكون هناك منافسة وندية وخصام وحتى حروب بين دول العالم، تجعل شبح عدم الاستدامة خطراً حقيقياً يهدد نمط النمو في دول مجلس التعاون في وضعها الحالي. وإن رسمنا للحظة سيناريوهاً سوداوياً يتكون من ولوج دول مجلس التعاون في حرب عسكرية ضد أطراف أخرى، فكيف سيتسنى لها توفير كل هذه العوامل من قوة العمل وايرادات النفط والواردات التي تحتاجها لإعادة إنتاج وتواصل نمط إنتاجها، خصوصاً وإن أدت الحرب إلى قطع خطوط الإمدادات والتجارة مع بقية العالم؟ ولذلك، وفي ظل نمط نمو الإنتاج الحالي، فإن أي هزة قد تصيب أحد هذه العوامل في دورة تواصل نمط النمو، أكانت ناتجة عن عوامل داخلية أم خارجية، سيكون لها تداعيات جمة على الاقتصاد المحلي، ولن يستطيع الاقتصاد المواصلة في تجديد دورته، وسينهار.

يبقى هناك عامل إنتاجي أخير لم نتكلم عنه، بل قد يكون هو مكمن الخطر والخلل الحقيقي الأكبر. فحتى ما تناولناه أعلاه من المخاطر المرتبطة بالاستدامة في نمط النمو، فمن الممكن جداً أن تبرز معادلة إنتاجية جديدة، تسمح بالتوافق فيما بين هذه العوامل الاقتصادية المختلفة المرتبطة في نمط نمو جديد. لكن القضية الأكبر المرتبطة باستدامة هذا النمط من النمو تتعلق بنمط استملاك واستغلال البيئة في دول جلس التعاون. والمخاطر المرتبطة بالبيئة في دول مجلس التعاون تشغل جانبين على الأقل. أولهما هو الحداثة النفطية التي بنيت حولها الحياة في الخليج. فأهمية النفط (الذي هو جزء من البيئة المادية) في اقتصاد بل حياة الإنسان ككل في الخليج تتعدى قيمة إيرادات النفط والمعادلة فيما بين العرض والطلب الاقتصادي فقط. فإن غالبية أسس الحياة في الخليج، من توفير المياه والطاقة إلى رصف الشوارع وتشغيل السيارات وتكييف المسكن، تعتمد بشكل جذري وأساسي على النفط (بما فيه الغاز الطبيعي). بل إن الاستهلاك المحلي للنفط ما انفك يزداد بوتيرة متسارعة في دول مجلس التعاون، كما هو حال نمو الاستهلاك النهم في المواد الأخرى، حتى بدأ يشكل نسبة ليست بالصغيرة من إنتاج النفط الذي كان يوجه سابقاً للتصدير. وبذلك، فإن النفط فعلياً أصبح الدم الذي يسري في عروق الحياة في الخليج ويجعلها قادرة على الاستمرار، ليس فقط من ناحية تزويده بالمال الذي تشتري به دول الخليج كل احتياجاتها، بل أيضاً من ناحية استعماله وحرقة لتزويد هذه الاحتياجات على أرض الواقع. فإن اختفى النفط، كيف سيتم توفير المياه في الخليج، وكيف سيتم تسيير المركبات، وكيف سيتم تزويد الطاقة التي تلطف الجو في المسكن والعمل؟

وإذا ما انتقلنا من النفط إلى استملاك واستغلال البيئة عموماً في منطقة الخليج، فإن خطورة عدم الاستدامة الناجمة عن هذا النمط من الإنتاج والاستهلاك يتمحور حول إمكانية استدامة هذه البيئة. فهذا التوسع النهم في المدن والبيوت والاستهلاك يتم أساساً على أرض صحراوية كانت كذلك لملايين السنين قبل مجيء النفط. ولكن مع بروز تلك الحقبة الزمنية التي أصبح فيها تأثير الإنسان على العالم الذي يعيشه أكثر من أي كائن أو عامل آخر على وجه الأرض، وهي الحقبة الزمنية التي يعرفها العلماء بحقبة “ألانثربوسين” (Anthropocene)، أو حقبة طغيان التأثير البشري على الكرة الأرضية، فقد أصبح الإنسان هو المتحكم الرئيسي في بيئة أراضي الخليج في عصر النفط. فبالإمكان تحويل الصحراء إلى ملعب جولف أخضر أو منتجع تزلج عن طريق الطاقة والمياه والتكنولوجيا التي يوفرها النفط، ومن ثم يقول الإنسان أنظر إلى هذه “الطبيعة” الخضراء والثلجية ما أجملها فهي أحسن من الطبيعة التي كانت عندنا سابقاً!

وهكذا، فقد تم محاولة إخضاع البيئة، والتي تكونت على مدى ملايين السنين عبر تفاعل العديد من العوامل الطبيعية والبيولوجية والجغرافية، إلى عقلية وزمن دورة رأس المال، والتي هي من خلق البشر ولا يمتد أفقها سوى بضع سنوات وترتكز أساساً على جني الأرباح. وأضحى بالإمكان تسليع الطبيعة وتحويلها إلى عقار، أرضاً كانت أم بحراً، وتم معاملة هذه البيئة وكأنها ذات مخزون غير متناه ومتجدد من المصادر، وأنها متاحة للاستهلاك بشكل متواصل ومتصاعد في سبيل نمو قيمة الإنتاج دون أي اعتبارات لاستدامتها. وهذه الطبيعة الهشة من صحار وبحار، والتي استطاعت الاستمرار وإحياء العديد من الكائنات لملايين السنين، أصبحت في خطر حقيقي الآن في عصر النفط بسبب نمط حياة بني البشر واستهلاكهم النهم في المنطقة، والذي يتوسع بشكل استثنائي كما رأينا في دول الخليج. فأراضي الصحراء يتم ابتلاعها لبناء مدن آخذة في التوسع، وحتى البحار وما يسكنها من كائنات لم تسلم من هذه العملية، بل بدأ ردمها بشكل موسع في مدن الحداثة النفطية، حتى وصلنا لمرحلة من الردم كان الهدف الوحيد منها هو بيع الأرض التي تم ردمها بأعلى سعر ممكن لأعلى مضارب عقاري.

وهذه المعدلات الاستثنائية على مستوى العالم من نمو السكان والاستهلاك، ومحاولتها تسخير كل ما حولها نحو عقلية وإيقاع نمو قيمة الإنتاج ورأس المال، انعكست نتائجها على البيئة في دول الخليج. إذ أصبحت أجواؤها تعتبر الأكثر تلوثاً في العالم،  بحيث تواجدت خمس مدن في الخليج في قائمة أكثر عشرين مدينة تلوثاً في العالم.[21] كما أصبحت المنطقة في صدارة تبعات التغيرات المناخية والاحتباس الحراري في العالم، بحيث تخشى تنبؤات العلماء أن درجات الحرارة ستصل إلى مستويات قاتلة تجعل العيش في المنطقة مستحيلاً.[22] ونفس الأمر ينطبق على بحار الخليج، التي كانت لآلاف السنين هي مصدر المعيشة الرئيسي لسكان المنطقة، حيث أضحت أكثر البحار تلوثاً في العالم من الزيت والملوثات.[23] أما مخزونات المياه العذبة المتواجدة طبيعياً في باطن الأرض، والتي استغرق تراكمها ملايين السنين، فقد تم استنزافها في غضون بضعة عقود بشكل شبه كلي.[24] ويبدو أنه لو ولى عصر النفط، فإنه حتى نمط الحياة السابق ببساطته وقسوته لن يعود ممكناً، ذلك أن البيئة التي مكنت ذلك النمط من الحياة قد تم تدميرها بشكل شبه كلي. وعندها سيكون السؤال المحوري ليس هل نمط النمو الاقتصادي الحالي في الخليج مستدام، بل هل من الممكن أصلاً للحياة البشرية أن تتواصل مستقبلاً في المنطقة؟

خاتمة

كان هدف هذه الورقة هو تقديم مدخل مفاهيمي لنمط نمو الإنتاج في دول الخليج العربية، والذي أسميناه “تصدير النفط – استيراد العمل OELI”، نسبة إلى أهم خاصيتين فيه. وكان هدفنا مقاربة استدامة هذا النمط من منظور القدرة على إعادة الإنتاج والتجديد. وقد تبين لنا أن هناك عدة دواعي للقلق من إمكانية عدم استدامته، أكان ذلك من ناحية عدم القدرة على استدامة ميزانية الدولة، أم سوق العمل، أم التكنولوجيا، أم الميزان التجاري، والتي تعتمد كلها بشكل أو بآخر على النفط وإيراداته، بالإضافة إلى تفاقم المخاطر التي تواجه المنظومة البيئية في المنطقة. وقد يتراءى لنا السؤال الجوهري “ما العمل” حيال ذلك؟ وعلى الرغم أن إجابة هذا السؤال تبقى خارج نطاق هذه الورقة، ألا أنني قد عمدت التطرق إلى بعض من جوانبه في ورقتي الأخرى التي تركز على سوق العمل بالإضافة إلى خاتمة هذا الإصدار، والتي أحيل القارئ الكريم إليهما إن أراد التعمق أكثر حول كيفية التطرق إلى هذا السؤال.

[1] هذه الورقة مبنية على ما ورد في الفصل الثالث والأخير من كتاب للمؤلف بعنوان:

عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018).

[2] “معنى كلمة “خلل”،” معجم اللغة العربية المعاصر، المعنى رقم 12، <[2] http://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%AE%D9%84%D9%84/>.

[3] نظريا، فبإمكان “الطبيعة” ان تنتج كميات اضافية من النفط، الا ان عملية انتاج النفط في الطبيعة تطورت على مدى عشرات الملايين من السنين، ولذلك فهي فعلياً من منظور زمن الانسان الاجتماعي ناضبة وغير متجددة. للمزيد انظر الفصل الثاني.

[4] في بعض الادبيات الأخرى يتم تسميتها بعوامل الإنتاج (factors of production)، الا اننا اساساً سنستعمل مصطلح قوى الإنتاج في هذه الدراسة.

[5] نستعمل مصطلح النفط (petroleum) كاختصار للإشارة الى جميع المواد الهيدروكربونية، بما فيها النفط السائل والغاز الطبيعي.

[6] وتحديداً الى “سلعة متوهمة” (fictitious commodityكما يسميها كارل بولانيي. للمزيد:

Polanyi, Karl, and Robert Morrison MacIver. The great transformation (Boston: Beacon Press, 1957).

[7] نستعمل مصطلح “المشاريع العامة” للإشارة الى الشركات ذات الطابع الربحي التي تلعب مؤسسات الدولة العامة دوراً رئيسياً في ملكيتها او نشأتها، وتشمل البنوك وشركات الطيران والاتصالات والألمنيوم إلخ التي تملك الدولة أو مؤسسات التأمينات الاجتماعية حصة معتبرة من أسهمها.

[8] نستعمل “النوع المعياري” (ideal-type) حسب مفهوم ماكس فيبر.

[9] يقيس هذا المقياس حصة الدولة من إجمالي إيرادات النفط المحصلة من قبل الأطراف المحلية (في مقابل أي إيرادات تذهب للقطاع الخاص المحلي). وتذهب كل إيرادات النفط المحصلة من الأطراف المحلية في الخليج إلى الدولة، على عكس الحال في أمريكا مثلاً، حيث يعود عائد النفط إلى الأفراد والشركات الخاصة المحلية التي تملك الأرض التي يتواجد فيها النفط.

[10] لا توجد أرقام دقيقة حول قسمة إيرادات الدولة النفطية بين النفط المباع محلياً أو خارجياً، إلا أنه لا شك في كون نسبة الإيرادات الخارجية كبيرة وتتعدى 80%، ذلك أن غالبية نفط دول الخليج يباع في الخارج بنسبة تتعدى 75% في كل دول الخليج، ولأن النفط المباع محلياً مدعوم في السعر بشكل كبير، مما يقلل من الإيرادات المحصلة منه.

[11]الإحصائيات لعام 2014:

“Economic Diversification in Oil-Exporting Arab Countries,” IMF, April, 2016 <https://goo.gl/qF2FGV> , p13.

[12] الإحصائيات لعام 2012 فيما عدى الإمارات لعام 2013. ومن المهم التنويه أن هذه الأرقام لا تعكس دور إنفاق إيرادات النفط المضاعف في تمكين بقية الإنفاق في الاقتصاد، حيث يتم تدوير هذه الإيرادات في الاقتصاد عبر الأطراف المختلفة عبر ما يسمى بالمضاعف الريعي (rentier multiplier)، بحيث إن احتسب هذا المضاعف ارتفعت نسبة دور إيرادات النفط في الاقتصاد غير النفطي إلى ما يزيد عن 80%. للمزيد أنظر:

Stauffer, Thomas R, “Accounting for” wasting assets”: measurements of income and dependency in oil-rentier states,” The Journal of Energy and Development, 11.1 (1985): 69-93.

[13] نستعمل هذا المعيار كمقارب (proxy)  لنسبة مصروفات الدولة الممولة من قبل إيرادات النفط. الأرقام لسنة 2011.

[14] الأرقام لعام 2016.

[15] “What both the left and the right get wrong about the coronavirus economic crisis,” VOX, 28 March 2020, < https://www.vox.com/2020/3/28/21195207/coronavirus-covid-19-financial-crisis-economy-depression-recession >.

[16]” تأثير الكورونا على أسواق النفط،” الشرق الأوسط، 24 مارس 2020، < https://aawsat.com/home/article/2195756/%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%AE%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%8A/%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%C2%AB%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7%C2%BB-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7 >.

[17] “Gulf economies rocked by coronavirus and oil price war,” Financial Times, < https://www.ft.com/content/b7a7902a-68ff-11ea-800d-da70cff6e4d3 >.

[18] “Exclusive: Bahrain in talks for $1 billion loan after bond plans suspended – sources,” Reuters, 19 March 2020, < https://mobile.reuters.com/article/amp/idUSKBN21623S?__twitter_impression=true >.

[19] “The IMF acts as the bailiff on behalf of Wall Street,” BBC, 27 Aug 2020, < https://www.bbc.co.uk/news/topics/czv6nvnzw9pt/greece-debt-crisis >.

[20] “Can’t pay, won’t pay: What now for Lebanon’s debt crisis?” Reuters, 10 March 2020, < https://www.reuters.com/article/us-lebanon-crisis-debt-analysis-scenario/cant-pay-wont-pay-what-now-for-lebanons-debt-crisis-idUSKBN20X2TH >.

[21] “Pant by numbers: the cities with the most dangerous air – listed,” The Guardian, 13 Feb 2017, <https://goo.gl/493f55>.

[22] “Middle East May Be Uninhabitable This Century Due to Deadly Heat, Study Finds,” Science Alert, 5 Nov 2015, <https://goo.gl/iWJrJC>.

[23] “ Persian Gulf Pollution Called World’s Worst,” Chicago Tribune, 7 Feb 1993, <https://goo.gl/zX6JkM>.

[24] Nathan Halverson, “What California can learn from Saudi Arabia’s water mystery,” Reveal news, 22 April, 2015, <https://goo.gl/XKobXq>.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M