مسلم عباس
لم يشأ العراقيون ان يصلحوا وضعاً سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بائسا حتى يدخلوا في وضع اسوأ، وما ان يدخلوا في الواقع الجديد حتى يتذكروا انهم أفسدوا بالتغيير ما لا يجب تغييره، حتى انهم اشتهروا بأنهم أكثر الشعوب حنينا الى الماضي.
في رحلة البحث عن القطع المفقودة في بناء الدولة يبذل العراقيون جهودا كبيرة، يخسرون فيها الدماء وارواح الفقراء والمعدمين الذين تشحنهم شعارات الفداء الوطني “بالروح بالدم نفديك..” قد يكون الفداء للقائد الكاريزمي، او للوطن كما حدث بعد التغيير الديمقراطي، لكن الفداء يذهب سدى، ولل يستفيد منه الوطن الا في اطار محدود، هذا اذا لم يتحول الفداء وسيلة لصعود احزاب وجهات تتاجر بالشهداء وتستخدمهم كرافعة سياسية.
فما الذي يتسبب في فشل التغيير؟ ونقصد هنا التغيير الحقيقي الذي لا يتسبب بتبادل الادوار، انما التغيير الذي يسهم في بناء دولة عراقية حديثة وفق متطلبات الواقع والظروف، هناك مربع الخطر الاول الذي تهزم امامه اكبر الحركات الاصلاحية، وهو مربع من الثغرات التي تقتل الثورة قبل انطلاقها، وهذا المربع يتكون من الاتي:
الضلع الاول: عقبة تاريخية، فتاريخيا لا يستطيع العراقيون انجاز المهمة الى النهاية، يستعجلون قطف ثمار ثورتهم قبل اوانها، لانها لا تقوم على اسس رصينة، واغلب منطلقاتها سلطوية يقودها طامحون للاستيلاء على الحكم رغبة في اشباع نفوسهم التواقة للانتقام.
الضلع الثاني: التدخل الخارجي، لان اغلب الحركات الاصلاحية العراقية كانت ضعيفة وكما قلنا مستعجلة في التغيير، لذلك تستعين بالدعم الخارجي، ويغلف الخارج برداء وطني، فمنذ مجئ البريطانيين اعلنوا انهم جاؤوا محررين لا محتلين، والقصد هنا ان مهمتهم تخليص العراق من العثمانيين، ثم اصلاح الوضع الذي افسدته الادارة السابقة، وكان قادة العراق انذاك في طليعة المروجين للوجود البريطاني، وبعد عدة سنوات يثور ضباط بحجة القومية والبعثية لتختم بالتدخل الامريكي عام ٢٠٠٣ الذي جاء ايضا بحجة التغيير. هذا التدخل يسحب تدخلا اخر وادخل البلاد في دوامة من الصراعات حتى بات عضوا اصيلا من الجسد العراقي لا يشاهده الا من وجد مصلحة ضيقة في محاربته، او جاءه امر خارجي بشن الحرب على تدخل خارجي اخر.
الضلع الثالث: متلازمة الثأر، عندما تقوم الحركة الاصلاحية على اكتاف قادة طامحون الى السلطة، وعندما يتكيء هؤلاء القادة على الدعم الخارجي بطريقة او اخرى، فان الدماء يجب ان تسيل، وان الحرس القديم لا يتم استبعاده سياسيا وحسب، انما تاتي مرحلة الاعدامات والقتل والترويع لفرض الرعب في نفوس الجميع.
الضلع الرابع: الانفصال الموضوعي في العراق بين الجنوب والغرب والشمال، هذا الانفصال تتداخل فيه مسألة الطائفية الدينية، والقومية (الكردية والعربية)، فاذا ما ثار الكرد ضد الظلم فانهم يدافعون عن مناطقهم فقط، ولا يهمهم من العراق سوى تأسيس دولة خاصة بهم، ولم يشعر الكرد بالانتماء للعراق كدولة حامية لهم منذ العهد الملكي وحتى الان، وانتفاضاتهم وكفاحهم المسلح على طول التاريخ السياسي الحديث شاهد على ما نقول، اما بالنسبة للمنطقتين الغربية والجنوبية، فاذا ما حدثت انتفاضة في الجنوب فانها بالضرورة تكون ضد الحكام الذين ينحدرون من المنطقة الغربية، لنتذكر انتفاضة عام 1991 وقبلها الازمات التي حدثت قبلها بين القوميين الذين سيطر عليهم قادة سنة والأحزاب الأخرى التي تنحدث من خلفيات دينية جنوبية (شيعية)، اما اذا حدث حراك شعبي في المنطقة الغربية فانه يكون ضد الطبقة الحاكمة التي تكون من الجنوب، وفي احداث ما بعد الاحتلال الأمريكي، وما بعد جلاء القوات الامريكية شواهد كثيرة.
هذه الأسباب الأربعة ليست هي الوحيدة للفشل الإصلاحي في العراق، لكنها موجودة في كل حركة إصلاحية، ومن ينكرها فهو لا يريد النظر بواقيعية، ويريد ان يبقى عالقا في خياله وشعاراته، تلك الشعارات التي رفعت في الشوارع طوال سنوات لكنها جعلت البلد عالقا في دوامة من الفشل الذي يتبعه فشل اخر، والإصلاح الحقيقي يبدأ من تتبع جذور الخلل، وحتى قانون الانتخاب رغم أهميته الكبيرة، قد لا يعالج أزمات متجذرة تحتاج الى جهد وعمل كبير واعتراف صريح بالمشكلات دون خجل او خوف.
البلد بحاجة الى الاندماج المجتمعي أولا، بين الجنوب والغرب والشمال، نعم قد يأتي مجامل ويقول ان هذا التفكير طائفي او قومي، لكن انظر الى قانون الانتخابات التي لم يتم اقراره في مجلس النواب باعتراض كردي فقط، وقد تم الاعتراض على قوانين سابقة من قبل الشيعة والسنة، والكومة نفسها مقسمة على هذا الأساس، وحتى هذه الحركة الإصلاحية التي ما تزال احداثها جارية حتى الان لم يشارك فيها الكرد، واقتصرت على الشيعة وبمساندة ضعيفة من المناطق الغربية، والتغيير بالثقافة المجتمعية صعب جدا مهما كانت شعارات المتظاهرين براقة وجميلة، التدخل الخارجي كبير، والانفصال المجتمعي على نفس الدرجة من الخطورة، وما بينهما التاريخ الذي تتكرر احداثه والمتسلقون الذين لا يهم سوى أهدافهم الخاصة.
رابط المصدر: