كشف الرئيس، دونالد ترامب، عن خطته للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي استغرق إعدادها حوالي ثلاث سنوات من قبيل فريق متخصص بإدارته قام بتشكيله خصيصًا لهذا الغرض. من أبرز المكاسب التي تعطيها الخطة لإسرائيل الاحتفاظ بالقدس عاصمة موحدة وتحت سيادتها، والسماح لها بضم منطقة غور الأردن كاملة، بالإضافة إلى جميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ومناطق أخرى مما يعرف بمناطق (ج) التي احتفظت إسرائيل بالجانب الأمني فيها حسبما نص عليه اتفاق أوسلو أي ما مجموعه حوالي ٣٠٪ من مساحة الضفة الغربية. بالمقابل، تسمح الخطة للفلسطينيين بتأسيس دولة منزوعة السلاح بعد أربع سنوات تكون عاصمتها شرقي القدس وتحديدًا في مدينة أبو ديس، حسبما صرَّح به نتنياهو لاحقًا، إذا ما استجاب الفلسطينيون لقائمة طويلة من الشروط من ضمنها تجريد حماس وبقية فصائل المقاومة من السلاح في غزة، وتعهد السلطة الفلسطينية بـ”محاربة الإرهاب”، والتنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بيهودية الدولة في إسرائيل، والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، والتوقف عن دفع مخصصات لأسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين. كما تعرض الخطة على الفلسطينيين مشاريع اقتصادية بقيمة ٥٠ مليار دولار وضم أراض من صحراء النقب للدولة الفلسطينية.
مكاسب التوقيت
يأتي الإعلان عن الخطة بهذا التوقيت لخدمة أهداف واضحة للشخصيات القائمة عليها وبالتحديد دونالد ترامب الذي يواجه محاكمة داخل الكونغرس الأميركي بتهمة إساءة استغلال السلطة وعرقلة العدالة، وبنيامين نتنياهو الذي يواجه اتهامات تتعلق بالفساد وخيانة الأمانة. بالنسبة لترامب، فإعلان الصفقة الآن سيشتِّت الاهتمام الشعبي بمحاكمته داخل الكونغرس، ويضمن وقوف اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة إلى جانبه بهذه الأوقات العصيبة بالنسبة له. والأهم من ذلك بالنسبة لترامب في علاقته مع اللوبي اليهودي المتشدد في الولايات المتحدة هو تمويل ودعم حملته الانتخابية التي ستبدأ قريبًا من قبل شخصيات مثل الملياردير شيلدون إديلسون الذي ليس مصادفة أن يكون مقعده الأقرب إلى ترامب وقت إعلان خطته. يرمي ترامب أيضًا من خلال تقديم هذه المكافأة الكبيرة لإسرائيل وإديلسون يجلس بجانبه إلى توجيه رسالة واضحة للإنجيليين الأميركيين، الذين يتبنَّون الرواية الدينية لدعم الحركة الصهيونية ووجود إسرائيل في فلسطين، والذين يشكِّلون حوالي ٢٠٪ من نسبة الناخبين الأميركيين.
بالنسبة للجانب الإسرائيلي، فإن الخطة تقدم دعمًا هائلًا لنتنياهو الذي يخوض معركة انتخابية صعبة، وللمرة الثالثة في عام واحد، تحت وطأة التحقيق في خيانة الأمانة، وقد تكون المنقذ له فعلًا وتضمن نجاحه في انتخابات قادمة على اعتبار أنه حقق هذه “الإنجازات التاريخية” للناخب الإسرائيلي. ولكن الأهم من إنجازات نتنياهو الشخصية، فإن الخطة تنفذ حرفيًّا رؤية اليمين الإسرائيلي لحل الصراع مع الفلسطينيين والتي تقوم على ضمِّ أكبر قدر ممكن من الأراضي الخالية من السكان في الضفة الغربية وتحديدًا في غور الأردن، وضم المستوطنات جميعها، وإعطاء الفلسطينيين حكمًا ذاتيًّا محدودًا مع بقاء الحدود والسيادة بيد إسرائيل. تعطي الخطة لإسرائيل ما هو أبعد من المكاسب على الأراضي الفلسطينية؛ حيث تحقق مكاسب استراتيجية باختراق الساحة العربية التي كانت تشكِّل دومًا العمق الاستراتيجي العربي، فلقد حضر ثلاثة سفراء لدول عربية، هي: الإمارات والبحرين وعُمان حفل إطلاق الخطة، ثم تلت ذلك بيانات تؤيد الصفقة ضمنيًّا صدرت عن مصر والسعودية، وهي الدول التي شكَّلت تاريخيًّا مراكز الثقل عربيًّا في الملف الفلسطيني.
فلسطينيًّا، يلاحَظ أن هذه هي المرة الأولى منذ قيامها -عام 1948- التي تقبل إسرائيل، وتحديدًا اليمين الإسرائيلي التعريف بحدودها على خارطة واضحة للعامة، وهي التي كانت دومًا ترفض ذلك مما أثار تساؤلات عن الحدود الفعلية التي كانت تطمح إسرائيل بالوصول إليها والمساحة التي ستحتلها من أراضي الفلسطينيين. هذا بحد ذاته اعتبره ترامب تنازلًا من الجانب الإسرائيلي استحقَّ نتنياهو الشكر عليه.
في الحقيقة، تمثل الخطة في حالة تطبيقها نكسة جديدة لا تقل عن وعد بلفور ومناورات دولية أخرى أضاعت حقوق الفلسطينيين؛ فهي تفصلهم كليًّا عن العمق الاستراتيجي العربي فلا تُبقي لهم حدودًا مع الأردن وتحوِّل أراضيهم إلى أرخبيل من الكنتونات المتصلة بجسور وأنفاق ومحاطة كليًّا بإسرائيل، ناهيك عن بقاء السيادة على المعابر الدولية بيد إسرائيل. الخطة باختصار تُنشئ نظامًا شبيهًا بالباتوستانت أو المعازل الذي كان سائدًا في جنوب إفريقيا إبان الأبارتايد أو الفصل العنصري.
شروخ في الصفقة
بدأت الخطة تثير نوعًا من الجدل في الأوساط الإسرائيلية التي يبدو بعضها متشككًا من حالة الانحياز الفاضح في الخطة لصالح إسرائيل مثل حزب العمل الذي يعي تمامًا أن الفلسطينيين لن يقبلوها أبدًا وأن ذلك يعرِّض استقرار إسرائيل وأمنها لمرحلة عاصفة من الاضطرابات. حالة الجدل هذه يتم تعزيزها بالتحول في الدعم لإسرائيل في أوساط قواعد الحزب الديمقراطي الأميركي نحو رفض سياسة اليمين الإسرائيلي كما برز في الخلاف بين الرئيس أوباما ونتانياهو سابقا، فحدث توازن نسبي في الموقف الأمريكي. وقد شهد اليوم الأول لإطلاق الخطة هجومًا واضحًا من مرشحي الرئاسة الأميركية الديمقراطيين خصوصًا بيرني ساندرز وإليزابيث وارن. فدعم ترامب للخطة وتنفيذها قد لا يكون مضمونًا إن خسر الانتخابات الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم (2020) ووصل الحزب الديمقراطي إلى البيت الأبيض.
أخيرًا، ورغم ضعفهم الشديد في الوقت الراهن، إلا أن الفلسطينيين لديهم الكثير مما يفعلونه لمقاومة الصفقة، وأهم أوراق القوة هي “شرعية” التنفيذ للقبول بالخطة أو رفضها وفقدان الدول العربية المساندة للخطة لهذه الصفة الشرعية. لكن قدرتهم على المبادرة تقتضي إنهاء حالة الانقسام، وخوض معركة طويلة الأمد من المقاومة الشعبية على غرار انتفاضتهم الأولى 1987-1993 التي سترفع كلفة الصفقة فتربك حسابات كل من اليمينَيْن، الأميركي والإسرائيلي، رعاة هذه الصفقة، والقوى العربية المؤيدة لها، وتضطرهم إلى إعادة تقييمها، وربما البحث عن بدائل أقل كلفة ومخاطرة.
سيضطر الفلسطينيون إلى الاستثمار أكثر في تدويل الصراع لإفشال الصفقة، خصوصًا بعد انحياز بعض الأنظمة العربية للإدارة الأميركية، وأن يكون هدفهم إيجاد نوع من التوازن في القوى مع إسرائيل، مستفيدين من اللاجئين الفلسطينيين وعددهم حوالي ٥ ملايين والذين تحرمهم الخطة من العودة إلى أراضيهم، وقد تشمل تحركاتهم الخارجية دعم حركة المقاطعة (BDS) أو أشكالًا أخرى للمقاومة.
عواصف قادمة
هناك الكثير من التداعيات الاستراتيجية والأمنية التي تأتي بها هذه الخطة على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في حالة تطبيقها، ومنها:
أولًا: رجحان انهيار نموذج حل الدولتين الذي شكَّل الإطار الضابط للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ اتفاق أوسلو عام 1993. فلن يوجد قائد فلسطيني مهما بلغت درجة الليبرالية البراغماتية عنده يقبل التوقيع على التنازل عن القدس والقبول بحكم ذاتي محدود فاقد للسيادة، مهما تعرض للضغوطات والتهديد والوعيد. والبديل بهذه الحالة هو فرض إسرائيل للخطة بالقوة بدءًا بمصادرة الأراضي في الأغوار وضم المستوطنات وانتهاء بفرض حالة نموذج حكم الباتوستانت على أرض الواقع.
سيقود فرض إسرائيل للخطة بالقوة، على الأرجح، إلى مقاومة فلسطينية متعددة الأشكال حتى لو كانت على درجة كبيرة من الضعف، فلن يستقر هذا الوضع مستقبليًّا لأن الوضع الإنساني في القرن الحادي والعشرين لن يقبل بوجود نظام أبارتايد. لذلك، ستطلق هذه الصفقة سلسلة جديدة من حلقات المقاومة بأشكالها السلمية والشعبية والقانونية وربما العنيفة في بعض الأحيان.
ثانيًا: نموذج جديد للحل. تحديدًا إذا ما تم تنفيذ الشق الخاص بمصادرة غور الأردن كاملًا -ويبدو أن إسرائيل بدأت فعلًا تعد العدة لذلك- وأقامت مستوطنات جديدة هناك، فإن الفلسطينيين سيضطرون إلى التخلي عن حل الدولتين ويشرعون في تبني نماذج جديدة للحل مثل حل الدولة الواحدة، الدولة ثنائية القومية، وغير ذلك.
ثالثًا: الوطن البديل. لطالما رفع حزب الليكود تاريخيًّا شعاره للحل والقائم على فكرة الوطن البديل للفلسطينيين في الأردن. لا يوجد ما يشير بشكل مباشر في نص خطة ترامب بقراءتها الحالية للحل إلى ملامح هذا الخيار، ولكن شبه استحالة الوصول إلى حالة من الاستقرار الدائم التي تهيئ لها الخطة قد تدفع الطرف الأقوى، وتحديدًا إسرائيل بهذه الحالة وبعد عقد أو عقدين من الزمان، إلى تنفيذ حلول تعسفية تجاه الطرف الأضعف، وهنا يكون نموذج التهجير إلى الأردن كأحد الحلول المتاحة. حتى في حالة عدم تنفيذ التهجير القسري فإن الزيادة السكانية لأهل الضفة الغربية مصحوبة بمصادرة ٣٠٪ من مساحتها الكلية التي تشرعها الخطة ستدفع المواطنين بشكل غير مباشر إلى فكرة “الخلاص الفردي”، وهنا تكون الأردن هي المرشحة لاستيعاب الهجرة من مدن الضفة الغربية.
رابط المصدر: