الحشد الشعبي وبسط يد المرجعية

بهاء النجار

في حادثة يتذكرها كل من عاش فترة التسعينيات عندما كانت المواجهة بين الإصلاح الذي تمثله المرجعية والإفساد الذي يمثله نظام صدام في أوجِّه ، هذه الحادثة التي لا أعرف إن كانت واقعية أم من نسج خيال المتكاسلين الذين كانوا يتمسكون بها كذريعة لتكاسلهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، الحادثة ترجع سبب عدم تصدي بعض القيادات الدينية للإصلاح هو تقاعس القواعد الشعبية عن دور مهامها الإصلاحية وعدم الامتثال لأوامر مراجعها وتنفيذ ما يأمرون به من خلال التصدي لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
حيث يروى أن أحد المؤمنين طلب من أحد المراجع البارزين والمعروفين الى التصدي للانحراف والفساد الذي كان نظام البعث يقوده والذي حوّل الشعب الى أفراد جشعيين ظالمين لبعضهم البعض لا يهتمون بأمر دينهم ولا أمر المسلمين ، فأمر المرجع ذلك الشخص أن يذهب الى سائقي سيارات الأجرة ويطلب منهم أن يخفضوا من أجرتهم حتى يتمكن الناس البسطاء من دفعها وبذلك تسود الرحمة والمحبة والألفة بين المؤمنين وعندها سينعكس هذا التصرف على غيبيات الوضع المنحرف فيغيره لأن ( الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ، فاستجاب الشخص الطالب لأمر ذلك المرجع المعروف الذي كان يرجع له نسبة كبيرة من الشيعة ، وذهب الى سائقي سيارات الأجرة وطلب منهم ما أمره به المرجع وقال لهم إن المرجع الفلاني يأمركم بأن تقللوا من أجرتكم حتى يعم الخير ويتبدل حالنا الى حال أفضل ، فرفض سائقو سيارات الأجرة تنفيذ أمر مرجعهم بحجة أن النفقات التشغيلية مثل الوقود والتصلحيات لا تسدها الأجرة الجديدة .
هذه الحادثة كانت الغاية منها إثبات أن المرجعية غير مبسوطة اليد وأن المجتمع لا يتفاعل مع المرجعية ، ولو أن الناس التفوا حول مرجعيتهم لتمكنت هذه المرجعية من محاربة الفساد – في حينها وفي كل حين – وبالتالي الانتقال بالمجتمع الفاسد ليكون صالحاً فيغيّر الله ما بهم لأنهم غيروا ما بأنفسهم ، وبذلك قد مهّدوا لدولة الإمام المهدي عليه السلام وهيأوا مقدماتها وشروطها وهي القاعدة المؤمنة المناصرة لمشروع العدل الإلهي .
الآن وبعد مرور قرابة العقدين من الزمن على هذه الحادثة – المضحكة المبكية – نجد أن المجتمع في حقيقة الحال ليس كان كما تصوره هذه الحادثة ، فقد أثبت أبناء المجتمع العراقي أنهم رهن إشارة مرجعيتهم وقيادتهم الدينية فيما لو طلبت منهم شيء أو أمرتهم بشيء ، فمنذ سقوط الطاغية صدام عام 2003 ولهذه اللحظة المجتمع يبرهن أنه لا يتوانى عن تنفيذ أي أمر مصيري تصدره المرجعية ، لأنهم ومن خلال تربيتهم الدينية الأصيلة – التي يحاول البعض انتزاعها منهم – يثقون بأن مرجعيتهم الدينية لا تأمر بأمر إلا لمصلحة المجتمع لا لمصلحة الشخصية ، بل إنهم وللنبل الذي يحملونه لا يشكون أو يتوقعون أن قيادتهم الدينية ممكن أن تأمر بغير ما تقتضيه المصلحة العامة .
فمنذ بداية سقوط نظام هدام التزم المجتمع بالحفاظ على الممتلكات العامة رغم المغريات التي تعرض أمامهم ، وحتى من سوّلت له نفسه في سرقة أموال الشعب فبمجرد أن عرف أن المرجعية الدينية تحرّم هذا العمل قام بإرجاع ما أخذه ، بعدها تواصل أفراد المجتمع مع مرجعيتهم في التطورات السياسية ابتداءً بكتابة الدستور والتصويت عليه ، حيث كلّف التصويت على الدستور أرواح الكثيرين من المؤمنين خصوصاً في المناطق المختلطة التي كان يستغلها الإرهابيون والبعثيون لمطامعهم الشريرة ، كل ذلك من أجل طاعة أمر المرجعية لأنهم يثقون بحكمتها وحبها للمجتمع .
وبعد الدستور جاءت عدة تجارب انتخابية لانتخاب ممثلين عن الشعب من خلالهم تُسنّ القوانين التي تصب في مصلحة الشعب ، ورغم عدم وثوق أبناء الشعب بممثليه من خلال تجربتهم عملياً في التجارب الانتخابية السابقة إلا أنهم لبّوا أمر ودعوة قيادتهم الدينية التي اعتبرت تلك المرحلة مرحلة وضع النقاط على الحروف لأن الدستور ذيّل عشرات المواد بعبارة (يشرّع ذلك بقانون) وهذا القانون الذي ينظم مواد الدستور يشرّعها نواب الشعب ، وإذا لم يشارك الشعب في انتخاب نوابه بشكل مناسب سنفقد فائدة الدستور الذي راح ضحيته العشرات من الضحايا .
وفي كل تجربة انتخابية ينفذ أبناء المجتمع توجيهات المرجعية لأنهم يدركون أن المجتمع أحد أركان الإصلاح المهمة كما أن المرجعية ركن مهم من تلك الأركان ، ووجود مرجعية تفتي وتبين من دون قاعدة شعبية تطبق وتنفذ تلك الفتاوى لا فائدة عملية من ذلك ، ومن هذا المنطلق لم يدّخر أبناء المجتمع أي جهد لتنفيذ توجيهات ومواقف المرجعية حتى تلك التي لم يكن حاجة لإصدارها لأن العقل أثبتها قبل أن تصدر بعنوان فتوى أو موقف مرجعي ، مثل ما تم تناقله من موقف وهو (انتخاب الأصلح) فهذا الموقف وإن كان محسوماً عقلياً قبل ان يكون موقفاً للمرجعية إلا إن عموم الناخبين انتخبوا الأصلح ليس لكون الموقف عقلي وإنما لأن المرجعية اتخذته موقفاً ، وهذا يدل على عمق الشعور بالانتماء الى لهذه المرجعية .
وآخر موقف للشعب أثبت فيه ولاءه للمرجعية وأنه على استعداد لأي حركة إصلاحية تقوم بها المرجعية فيها صلاح الدنيا والآخرة هو التطوع في صفوف الحشد الشعبي لمقاتلة داعش بعد 10 حزيران 2014 ، وبهذا الموقف ختم المواقف النبيلة التي أثبتت كذب تلك الحادثة التي بدأنا بها حديثنا وأن الأمة ذراع المرجعية الإصلاحي ، فلم يتأخر أي عمل إصلاحي بسبب هذا المجتمع المؤمن لأنه تربية المصلحين الربانيين الذين ضحّوا بأرواحهم الطاهرة لإصلاح هذا المجتمع وإحياء أمر دينهم ، وهذه الحادثة جاءت لتشويه صورة هذا المجتمع وتقريعه وتوبيخه وذمه وإلقاء المسؤولية كاملة عليه دون أدنى مسؤولية من اصحاب القرار الإصلاحي في هذه الأمة ، وبهذا التحشيد الشعبي ضد داعش أثبتت الأمة أن يد المرجعية أصبحت مبسوطة لأي خطوة إصلاحية تنهض بالواقع الفاسد الذي يعيشه البلد .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M