تقييم التدين في العراق

بهاء النجار

العراق بلد الأنبياء والأوصياء وبلد الحواضر العلمية والدينية ، فيه مراقد الأنبياء والأوصياء والأولياء ، حيث ضمت أرض العراق أبرز الأنبياء والأوصياء الذين عرفتهم البشرية ، ففي العراق مراقد آدم ونوح وهود وصالح وأيوب وذي الكفل عليهم السلام إضافة الى مولد نبي الله إبراهيم عليه السلام ، ومراقد أئمة أهل بيت النبوة الخاتمة : مرقد الإمام علي بن أبي طالب ومرقد الإمام الحسين ومرقد الإمام موسى الكاظم ومرقد الإمام محمد الجواد ومرقد الإمام علي الهادي ومرقد الإمام الحسن العسكري عليهم السلام ، إضافة الى مولد خاتم الأوصياء والمصلحين الذي سينقذ البشرية والذي سيتخذ العراق عاصمة له وشهداء الملحمة التأريخية الإصلاحية واقعة الطف الخالدة ، ويحج الى هذه المراقد – خصوصاً كربلاء – ملايين الزوار في عدة مناسبات ممكن أن يصل مجموع الزوار على مدار السنة ولكل الأضرحة الى 100 مليون زائر !!!
وفي العراق الحوزة العلمية في النجف الأشرف التي يمتد عمرها لأكثر من ألف سنة وهي من أقدم الحواضر العلمية في العالم وخرّجت المئات من علماء الدين من المصلحين العاملين ، وفي العراق المرجعية الدينية التي يرجع لها ملايين المسلمين من الشيعة داخل وخارج العراق والتي قادت عدة حركات تصحيحية إصلاحية تغييرية على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي ، هذا إضافة الى آلاف المجالس التوعوية في ثلاثة أشهر من السنة (محرم وصفر وشهر رمضان) أي أن ربع حياتنا مجالس تبليغ ، وبعضها تنقل الى ملايين المستمعين والمتابعين من خلال الفضائيات ، بلد بهذه الموصفات والمؤهلات الدينية كيف سيكون مستوى التدين والالتزام الديني فيه ؟
أولاً لا بد من توضيح معنى الالتزام الديني الذي نقصده هنا ، حيث نعني به : ( الالتزام بمبادئ وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف ) ، وعلينا أيضاً أن نحدد المعايير التي سنحدد وفقها معنى الالتزام الديني فمن طابق التزامه لهذه المعايير فهو متدين ومن لم يطابق فهو دون ذلك ، لأنه قد ينصرف الذهن الى أن المراد من الالتزام الديني هو الالتزام الديني التقليدي مثل الالتزام بالحجاب والصلاة والصيام وغيرها ، وهذا وإن عُدّ من الالتزام الديني – وهو ضعيف – ولكنه ليس المعيار الحقيقي للالتزام ، فهناك معايير من العيار الثقيل بواسطتها نعرف بالضبط أين نقف نحن من الدين ، وسنعتمد في تقييم التدين والالتزام الديني في العراق معيارين أحدهما قرآني والآخر روائي ، وهناك معايير آخرى ولكن هذين المعيارين هما الأهم والأبرز وبتحقيقهما يمكن القول أن الالتزام بالدين تحقق بنسبة عالية :

– المعيار القرآني :
سنأخذ معياراً يهز الإنسان المؤمن من الأعماق وقد لا نجد مثله معياراً يوازيه بالقوة – والله العالم – ، فأي مؤمن يقبل أن يكون فاسقاً ؟! أو أن يكون ظالماً ؟! أو أن يكون كافراً ؟! بالتأكيد لا يوجد مؤمن يقبل أو حتى يفكر أن يكون فاسقاً أو ظالماً أو كافراً ، لذا فمن باب أولى أن لا يقبل المؤمن أن يكون فاسقاً و ظالماً و كافراً في نفس الوقت ، وبالتالي فمن يريد أن يبقى مؤمناً ومتديناً وملتزماً بدينه لا بد أن يبتعد عن مسببات الفسق والظلم والكفر ، طبعاً المسببات كثيرة في القرآن لا مجال لسردها فضلاً عن تفصيلها ، ولكننا سنأخذ مورداً واحداً يجعل الإنسان فاسقاً و ظالماً و كافراً في وقت واحد ، فقد يكون الإنسان فاسقاً فقط وقد يكون ظالماً فقط وقد يكون كافراً فقط لكن أن يجمعها سوية فهذا ما يميز هذا المعيار عن غيره ، فإذا كان الإنسان فاسقاً و ظالماً و كافراً هل ينفع أن يبحث عن مسببات الفسق لوحده أو مسببات الظلم لوحده أو مسببات الكفر لوحده ؟! لأن عليه أولاً أن يخلّص نفسه من أسباب جمع تلك الصفات الرذيلة ومن ثم ينتقل الى التخلص من كل صفة على حدة .
يبين لنا القرآن الكريم أن هناك فئة من الناس – وقد لا توجد فئة أخرى تشاركها في ذلك – تجتمع فيها تلك الصفات الثلاثة ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون / المائدة – 44) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون / المائدة – 45) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الفاسقون / المائدة – 47) ، انتهى الموضوع ، إذن كل من لم يحكم بمأ أنزل الله فهذا فاسق ظالم كافر بنص القرآن ، فما فائدة أن يكون المتدين مصلياً ولكنّه فاسق ظالم كافر ؟! وما فائدة المتدينة أن تكون محجبة وهي فاسقة ظالمة كافرة ؟! .
ولا بد من بيان بعض الأمور التي يجب استصحابها مع هذه الآية الكريمة ، فالكفر هنا ليس الكفر الإلحادي وإنما هو درجة من درجات الكفر لأنه قد يعتبرني البعض تكفيرياً ، وأن ظروف تطبيق هذه الآية قد تكون متاحة وقد لا تكون ، وقد تكون متاحة في زمان ومكان وتكون غير ممكنة في زمان ومكان آخرين ، أما تطبيق الآية من قبل الناس فيكون على مستويات فبعض مشرّع وهم الفقهاء والقانونيون وبعض يحكم وهم القضاة الشرعيون وبعض يؤيد من خلال الاحتكام لأحكام الله وتشجيع الناس على اللجوء الى تلك الأحكام ، أما الفاسقون الظالمون والكافرون المقصودون في هذه الآيات فهم الذين تخلوا عن تطبيقها على مستوى التشريع وعلى مستوى التحكيم على مستوى التأييد ، بل تشمل المعارضين لتطبيق الآيات على المستويات الثلاثة ، وكل له منزلته ومقامه من الفسق والظلم والكفر .
فمن كان فاسقاً ظالماً كافراً هل يمكن أن يكون متديناً أو ملتزماً بتعاليم الدين ؟! حتى وإن صلى وإن صام ، فحقيقة الدين هو تطبيق أحكام الله بحيث يكون عكسها هو الفسق والظلم والكفر ، ولم نجد حقيقة للتدين إذا فقدت يصبح الإنسان حاملاً لتلك الصفات المرعبة الثلاثة .

– المعيار الروائي :
في الرواية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال : ( وَمَا أَعْمَالُ الْبِّرِ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر إلا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) وفي رواية أخرى أن ( فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أسمى الفرائض ) ، وفق هاتين الروايتين يمكن تقييم إلتزامنا الديني ، فهل نسبة أعمال البر التي نهتم بها نسبة الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعادل نفثة في بحر لجي ؟! حتى لو كنا مجاهدين في سبيل الله ؟! أم العكس هو الصحيح ؟!
فواقعنا يعكس إهمالاً منقطع النظير بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد أصبح الاهتمام بهذه الفريضة من علامات التطرف والتدخل في شؤون الآخرين ، وحتى لو اهتم البعض بها فإنه يسيء لها لتدني ثقافته وثقافة المجتمع الإسلامي بأحكام وأخلاقيات هذه الفريضة ، وقد يتصور البعض أن هذه الفريضة منحصرة برجال الدين والمؤسسة الدينية عموماً وأما الآخرون فغير مشمولين بوجوبها ، والبعض الآخر ممن يهتم بها إما أن يستخدم أساليب جارحة منفّرة للطرف الآخر أو أنه يحصرها ببعض جزئيات الدين مثل أمر الناس وتذكيرهم بحسن الجوار وبشاشة الوجه والصدقة وما شابه ، أو نهيهم عن استماع الغناء والكذب والغيبة ، وهذه الأمور وإن كانت مهمة وضرورية ولكن لا يمكن أن نحصر هذه الفريضة بهذه الحدود الضيقة وإلا ما كانت أسمى الفرائض وما كانت نسبتها بالنسبة الى باقي أعمال البر – بما فيها الجهاد في سبيل الله – كبحر لجي الى نفثة .
فالمجتمع الإسلامي يفتقد الى ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآلياته لأنه أصلاً يفتقد لثقافة الفرائض الاجتماعية ، فعادة ما يهتم المسلمون بالعبادات الفردية مثل الصلاة والصيام وغيرها ويعتبرونها هي معيار التدين والالتزام الديني ، أو ينتهي بعضهم عن الاستماع للغناء وبعض المنكرات المشهورة مثل الكذب والغيبة ، ولكن الأعم الأغلب يغفل عن العبادات الجماعية والاجتماعية مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حكم الله وعن الذنوب الجماعية والاجتماعية مثل قطع الرحم والغش وغيرها ، لذا نرى المجتمع بعيد بعداً حقيقياً عن الالتزام الديني الذي يصبو له الكثيرون .

بعد ما تقدم فإنه يبدو أن الالتزام الديني الذي نطمح له بعيد المنال ليس في العراق فحسب بل في بلدان إسلامية عديدة ، ويبدو المشوار صعباً للوصول الى هذا المستوى العالي من الالتزام ، والمسؤولية عظيمة أمام المعنيين بالأمر وخصوصاً المؤسسة الدينية وعلى رأسها المرجعية الدينية والفقهاء ورجال الدين والدعاة والمبلغين والأحزاب الإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني ذات الجذور الدينية والكتّاب والمثقفين الإسلاميين .
ولرسم إستراتيجية لرفع مستوى التدين والالتزام الديني يكون من الضروري أن تكون القيادة الدينية مقتنعة بأن مستوى التدين متدني بهذا المستوى وأن معايير التدين ليس الصلاة واللحية والمسبحة والتختم باليمين وزيارة المعصومين عليهم السلام فقط ، وإنما التدين هو مدى قدرة المجتمع على إقامة حكم الله في الأرض ، ثم تتبنى القيادة الدينية آليات وبرامج عمل إصلاحية توعوية تنقل المجتمع من مستواه الديني الحالي الى مستوى أفضل ، ويكون ذلك بمشاركة القوى السياسية الإسلامية التي تدّعي أنها ترجع الى المرجعيات الدينية خاصة بعد أن كان للأخيرة دور في الحياة السياسية العراقية ومقبولية من قبل الناس والسياسيين المحليين والإقليميين والدوليين ، وبإشراف مباشر يضمن ضبط سلوك تلك القوى وفق ما تخطط له المرجعية الدينية بحيث لا يكون للسياسيين رأي فوق رأيها .
ولا بد من دور لمؤسسات المجتمع المدني والمثقفين والكتّاب لتوعية الأمة بضرورة إقامة حكم الله في الأرض بما تسمح به الظروف وبما تقتضية الحكمة ، خاصة إذا كانت المرجعية الدينية تقف وراءهم وتسندهم وتدعمهم وتؤيدهم ، وعلى الأمة أن تعي أن التقاعس عن إقامة حكم الله في الأرض ليس مبرراً بل مرفوض شرعاً وقد يوقعنا في بلاءات كثيرة ، وما ندري لعل ما نمر به من بلاءات ومصائب هو نتيجة تخاذلنا في إقرار القوانين التي تمثل وجهة نظر الشريعة .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M