نــزار حيدر
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
ليسَ الصِّيامُ فقط سبيلٌ مِن سبُل التَّمكينِ للنَّجاحِ، فلَو تدبَّرنا في بقيَّة العِبادات وعُدنا الى الآيات القُرآنية التي يِشيرُ فيها المُشرِّع إِلى العِبادات وعموماً ما نُطلق عليهِ بفرُوعِ الدِّين كالصَّلاة والصَّوم والحج والخُمس والأَمر بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكر والتولِّي والتبرِّي، فسنلحظ أَنَّها تُشرِّع التَّمكين على هذَين المُستويَينِ، مُستوى الفرد ومُستوى المُجتمع، حتَّى قالَ رسُولُ الله (ص) [الدِّينُ المُعاملة] وقولهُ [خيرُ النَّاسِ مَن نفعَ النَّاسَ] فإِذا لم يجنِ مِنها الإِنسان هذهِ المعاني فسوفَ لن تكونَ أَكثر مِن تمارينَ سويديَّة وحركات رياضيَّة خالية من الرُّوحِ والجَوهر، وعندها تسقط مشروعيَّتها فلا يكونَ لها أَيُّ أَثرٍ تشريعيِّ في مجالِ التَّمكين الحقيقي وأَسبابه التي تُساهم في تحسينِ الأَداء وتغييرِ السُّلوك.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع)؛
كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ الْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الاْكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ!.
وفي نفسِ السِّياق ينبغي الإِنتباه جيِّداً إِلى نظريَّة الإِستدراج الإِلهي لعبادهِ الذين أَسرفُوا على أَنفسهِم.
فعندما يُمكِّن الله تعالى عبادهُ بالعِباداتِ ينبغي الإِنتباه إِلى أَنَّهم سيُضلِّلونَ أَنفسهُم فيقعُوا في فخِّ الإِستدراج الإِلهي إِذا لم يكونُوا بمُستوى التحدِّي، تحدِّي التَّمكين وشرُوطهُ وأَدواتهُ وأَسبابهُ.
ونحنُ نرى كيفَ تُضلِّل الصَّلاة أَو الحج أَو الصَّوم صاحِبها عندما يتصوَّر أَنَّها تكفي كدليلٍ على الإِستقامةِ! فيُصلِّي في اللَّيلِ ويسرُق في النَّهارِ! أَو يصومُ في النَّهارِ ويقتُل أَو يظلِم في اللَّيلِ!.
فمثلاً؛ ليسَ كلُّ نِعمةٍ دليلُ رِضا الله تعالى على عبدهِ إِذا لم يُعطها حقَّها في العمل والمُمارسة والسُّلوك والإِستقامةِ.
تعالُوا نقرأَ بهذا الصَّدد ما يقولهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع)؛
كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالاْحْسَان إلَيْهِ، وَمَغْرورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ! وَمَا ابْتَلَى اللهُ أَحَداً بِمِثْلِ الاْمْلاَءِ لَهُ.
فعندما يُستدرجُ الإِنسانُ يعمى بصرهُ عن طريقِ النَّجاةِ فكُلَّما فكَّرَ تأتي حساباتهُ بالمقلُوبِ وكُلَّما حاولَ التَّصحيح والإِصلاح كادهُ الله فانحرفت حساباتهُ وزاغَ قلبهُ.
ولعلَّ مِن أَبرز مصاديق الإِستدراج عندَ التَّمكين، غفلة الإِنسان عن البلاءِ الإِلهي وكأَنَّهُ على غيرهِ، فهوَ [غَير شكِل] لا عِلاقةَ للبلاءِ بهِ، فتراهُ يتفلسف في حديثهِ عن ضحايا البلاءِ الإِلهي من المُستكبرينَ والطُّغاة والظَّالمين، أَمَّا هو ففي مأمنٍ، فتراهُ لا يُبالي بالبلاءِ ولا يحسبُ لهُ حساباً وكأَنَّهُ مُستثنى منهُ! فلا يُحاول أَن يُفكِّر فيه ليُعيد حساباتهُ أَو على الأَقل علاقاتهُ بربِّهِ!.
أُنظرُوا وراقبُوا [العِصابة (العِصابات) الحاكِمة] كيفَ تتصرَّف بلاأُباليَّة في موقعِ السُّلطة والمسؤُوليَّة، وكأَنَّ بلاء [كورُونا] على غيرِها كُتِب!.
لقد تبِعَ أَميرُ المُؤمنين (ع) جَنازةً فسمِعَ رجلاً يَضحكُ، فقالَ؛ كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ الَّذِي نَرَى مِنَ الاْمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ! نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ، نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ، قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظ وَوَاعِظَة، وَرُمِينَا بِكُلِّ جَائِحَة!.
السُّؤال؛ هل أَنَّ كلَّ النَّاس يستفيدُونَ بنفسِ المِقدار من الأَثر الذي تتركهُ العِبادات على سلوكيَّاتهِم؟ سواء الأَثر الفردي فتُغيِّرهم بنفسِ المِقدار؟ أَو الأَثر الإِجتماعي فيتغيَّرون جميعهُم بنفسِ المِقدار؟!.
بالتَّاكيد كلَّا، فاستعداداتُ النَّاس ليست مُتساوِيةً، كما أَنَّ إِراداتهُم هي الأُخرى مُختلفةً، وطاقاتهُم الإِستيعابيَّة غَير مُتساوية، ولذلكَ ترى بعضهُم يخرجُونَ من الشَّهر الفضيل كما يدخلونهُ أَوَّلَ مرَّةٍ! فيما يُغيِّر الشَّهر الفضيل ١٠٪ من سلوكيَّات بعضهِم فقط وهكذا.
كذلك فإِنَّ بعضهُم يترك أَثرهُ عند بابِهِ بمجرَّد أَن ينتهي فيما يستصحبُ آخرون تأثيراتهِ الإِيجابيَّة لأَشُهرٍ عدَّةٍ ورُبما طِوال العام.
إِنَّ القُدُرات الإِستيعابيَّة لكلِّ إِنسانٍ تشبه إِلى حدٍّ بعيدٍ القُدُرات الإِستيعابيَّة للأَرض عندَ هطولِ المطر، فليست كلَّ الأَراضي بنفسِ القُدرة، يقولُ تعالى {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}.
(٤)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
متى يكونُ التَّمكينُ في محلِّهِ؟!.
متى لا نهدِرُ الطَّاقات ونُبذِّر بالأَسبابِ ونُضيِّعُ الوقت فنضعَ أَسباب ومُقوِّمات وأَدوات التَّمكين في محلِّها؟!.
أَحياناً نفشلُ في تمكينِ الفردِ أَو الجماعة فنظنُّ أَنَّ السَّبب في شرُوط التَّمكين، وهذا خطأٌ شائِعٌ خاصَّةً في المُجتمعات المُتخلِّفة.
إِذا أَردنا أَن ننتبهَ لمثلِ هذا الخطأ الشَّائع ينبغي أَن ننتبهَ إِلى حقيقةٍ في غايةِ الأَهميَّة، وهيَ؛
أَنَّ أَدوات التَّمكين على نوعَينِ؛ الأَوَّل هو المُشاعة التي يخلقها الله تعالى {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أَو الفُرص القائمة في كُلِّ مكانٍ تقريباً، وهيَ التي يُمكنُ لكلِّ امرءٍ أَن ينهلَ منها إِذا شاءَ، كفُرص التَّعليم مثلاً، فكلُّ الأَطفال يذهبُون إِلى المدرسةِ، أَو يجب، وكلُّهم يتلقُّونَ نفس الدُّروس ونفس عدد ساعات الحُصص الدِّراسيَّة.
أَمَّا الثَّاني فهي أَدواتٌ خاصَّة تعتمد على القدُرات الإِستيعابيَّة لكلِّ فردٍ أَو جماعةٍ في المُجتمع، قدرتهُ أَو قدرتهُم على استيعابِ أَدوات التَّمكين وظروفهِ وأَسبابهِ، ومدى استِعدادهِم للتَّضحيةِ مِن أَجلِ استيعابِها على قاعدة [مَن طلبَ العُلى سهرَ اللَّيالي] مثلاً.
وهُنا يبدأُ الفرق بين النَّاس، فهذا ناجحٌ وذاكَ فاشلٌ، هذا مُتميِّزٌ وذاكَ غَير مُتميِّز، وهذا خلَّاقٌ في تفكيرهِ وفي عقليَّتهِ التي يُفكِّر بها وذاكَ كلاسيكي في تفكيرهِ، وهذا مُثابرٌ حريصٌ على اغتنامِ الفُرص وذاك لا يُبالي إِذا ضاعت عليهِ.
وعندَ هذا المُفترق تشخص مسؤُوليَّتنا في تحديدِ مقدارِ وحجمِ ونوعِ أَدوات التَّمكينُ التي يجب أَن تُمنحَ لهذا ولا تُمنح لذاكَ، في إِطارِ العدلِ في توزيعِ فُرص التَّمكين، أَمَّا إِذا أَردنا أَن نتعاملَ بالتَّساوي، ففي هذهِ الحالة سيُظلمُ أُناسٌ ويُفرِّطُ آخرُون بأَدوات التَّمكين، يُظلَمُ من يتميَّز بالقُدرةِ الإِستيعابيَّة الأَوسع والأَنشط لأَسباب التَّمكين، ويُفرِّط بها الكسُول الذي لا يمتلكَ مثلَ هذهِ القُدُرات.
يقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغُصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ}.
إِنَّ التَّمييز هُنا لا يُعتبَرُ ظُلماً أَو بخساً لحقِّ أَحدٍ أَبداً، فالقُدُرات الإِستيعابيَّة بطبيعتِها تختلف مِن واحدٍ لآخر، لأَسبابٍ عدَّةٍ كالوراثةِ والتَّربيةِ والتَّعليمِ والنَّفسيَّةِ والشَّخصيَّةِ والطَّبائعِ وغيرِها كثيرةٌ، ليست كلَّها قابِلة للصَّقل والبلوَرة والتَّطوير بإِرادتِنا إِذ يعتمدُ الكثيرُ منها على إِرادة الفرد نفسِه وعلى طبيعتهِ الشَّخصيَّة، ولذلكَ نلحظُ أَنَّ النَّاسَ مُختلفُونَ في كلِّ شيءٍ، كما نُلاحظُ أَنَّ المرءَ المُتميِّز في الإِدارةِ هو ليسَ كذلكَ في مجالِ البحثِ العلمي، وآخر خلَّاقٌ في عقليَّتهِ الإِقتصاديَّة فاشلٌ في دراستهِ الأَكاديميَّة، وثالثٌ مُتميِّزٌ في الرِّياضة غَير مُبالٍ بالتَّعليم، وهكذا.
وإِنَّ مِن العدل أَن نُشخِّص حاجة كلَّ فردٍ قبلَ أَن نُهيِّء لهُ أَسباب التَّمكين في مجالهِ الذي يستوعبهُ، أَمَّا إِذا أَصررنا على تمكينِ فاشلٍ في الدِّراسة رغماً عنهُ وكلَّ عقلهِ مشغُولٌ بكُرةِ القدمِ التي لو وجدَ فُرَصَ التَّمكينِ لأَبدعَ فيها، فهذا يعني أَنَّنا نُفرِّط بالطَّاقة ونهدر الوقت بِلا فائِدة.
وهذهِ هي واحدةٌ من أَسوء مشاكلَ مُجتمعاتِنا، فإِصرارُ الوالدَين مثلاً على الإِبن لينخرِطَ في تخصُّصٍ علميٍّ هوَ لا يرغبُ فيهِ، لا يساعدُ على تمكينهِ، وإِنَّما على العكسِ من ذلكَ، سيُساهمُ رُبما في تدميرهِ وتدميرِ مُستقبلهِ وتضييعِ فُرصةٍ على المُجتمع يمكنُ اقتناصَها إِذا مكَّن الوالدَان الولدَ أَن يختارَ الإِختصاص الذي يحبُّهُ ليُبدِعَ ويُنتِجَ فيهِ، وبالتَّالي تكونُ جهودهُ العلميَّة والعمليَّة أَكثرُ فائدَةً للمُجتمع لو أَنَّهُ أُجبِر على شيءٍ لا يُحِبُّهُ ولا يجدُ نفسهُ فيهِ.
مُهمَّتُنا اكتشاف الطَّاقات الخلَّاقةِ في الأَفرادِ لنُمكِّنها، وليس إِقحامُ خياراتَنا أَو رغباتَنا في الأَفرادِ.
رابط المصدر: