الشيخ الحسين أحمد كريمو
تقديم فكري
تاريخ الحضارات يُحدِّثنا؛ أن الأمم والشعوب الحيوية هي التي تنتج أفكاراً حضارية وحيوية جديدة ولا تستوردها من الخارج، فالأفكار هي من أرقى المواد فإما تُنتج محلياً أو تُستورد من الخارج فتأتي ممسوخة لأنها ممهورة بطابع المجتمع والأمة والشعب الذي أنتجها، فهي تناسب أرضها وشعبها ولكن هي حتماً لا تناسب أرضك وأمتك مئة بالمئة، ولكي تستفيد منها عليك أن تدرسها وتأخذ التجربة منها لا أن تتقمصها وتحاول أن تُعيدها كلها في أرضك وشعبك فهذا عادة لا ينجح، ولا يُفيدك بل يربكك ويجعلك تابعاً لصاحب الأفكار المستوردة.
ولذا قالوا: أن الثورات لا تُصدَّر لأنها تنشأ في مجتمع له ميزاته وخصائصه وظروفه الخاصة التي دعته ودفعت الطبقات المحرومة إلى الثورة على الطبقة الحاكمة الظالمة، ولكل مجتمع خصائصه وظروفه المختلف، وحتى طبائعه المختلفة أيضاً، فالثورة تجربة خاصة لشعب خاص، في ظروف خاصة أيضاً، فهي صناعة محلية، وتجربة شعبية يخوضها الفقراء لتحقيق العدالة الاجتماعية التي يفتقدونها.
فالأفكار والقيم هي التي تبني الحضارة عندما يلتزم بها أهلها وحملتها ولا يستهينون بها بل يُطبقونها بحذافيرها على أنفسهم وعلى أهليهم ومجتمعاتهم حتى يصبغوا بها الحياة فتتحول إلى ثقافة خاصة، وصِبغة تلبسها الأمة والشعب وتُعرف بها بين شعوب الأرض، كما الإسلام العظيم الذي ابتدأ بشخصين (علي وخديجة) لسبع سنين – كما في العديد من الروايات عن أمير المؤمنين (ع) – وحاربه الجميع في مكة المكرمة التي كانت صبغتها الشرك، وعبادة الأصنام والأوثان، والطواف بالكعبة حفاةً عراةً، وصلاتهم صفيراً وتصفيقاً (مكاء وتصدية).
وتغيير العادات من أعظم المعضلات، ولذا عندما جاء رسول الله (ص) بفكرة التوحيد (قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا)، لم يتركوا تهمة، أو مسبَّة، وتشنيعاً إلا ورموه به وهم على يقين أنه أطهر من ماء السماء من كل ذلك، فهو (الصادق الأمين) لأربعين سنة عاشها فيهم، فلا مطعن لهم بشخصه الكريم ولكن لا يستطيعون هضم فكرته بالتوحيد (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) (سورة ص: 7)
ولم يؤمن بها إلا الفقراء والبسطاء في مكة وصبروا عليها تحت سياط الطغاة والجبارين الذين يقفون سداً منيعاً أمام أي فكرة تحررية حضارية، واستمروا على ذلك حتى أذن الله سبحانه أن تنتقل هذه الفكرة الراقية التي انتقلت سراً، وهمساً إلى الكثير من القبائل والعشائر العربية وراحوا يتداولونها ولكن على خوف ووجل من الطغاة والكُبراء، ولكن عندما وصلت إلى يثرب تقبلوها لأنهم يعيشون في قرية فيها تنوع ثقافي، وديني، وانفتاح فكري على ثقافة التوحيد سواء من اليهود أو النصارى الذين يدَّعون التوحيد رغم شركهم بعزير، والمسيح، ولكن فكرة التوحيد معروفة لديهم فعندما سمعوها خالصة نقية من الرسول الأعظم (ص) آمنوا بها وبايعوه عليها في العقبتين.
ولذا ما أن حلَّ فيهم رسول الله (ص) وخلال عقد فقط من الزمن حتى بنى بهم ولهم دولة تناطح الامبراطوريات العريقة في الشمال (الروم)، وفي الشرق (فارس)، وفي الجنوب (الحبشة واليمن)، رغم أنه خاض نيفاً وثمانين غزوة وسرية فيه، وحقق انتصارات حضارية أثبت فيها أحقية الفكرة الحضارية بالتوحيد وبطلان كل الأفكار الجاهلية والشركية، وهذا ما أثار إعجاب مايكل هارت صاحب كتاب (الماءة الأوائل) ليضع الرسول محمد (ص) على رأسهم جميعاً رغم كل الاعتراضات عليه، لأنه رأى أنه الوحيد الذي استطاع أن يُطبِّق فكرته الحضارية ويوحِّد شعوب متفرقة وقبائل متناحرة، ويُخرجهم من الجهل والجاهلية إلى نور العلم والحضارة الإنسانية، بفترة جداً قياسية في عمر الزمن وتاريخ الحضارات البشرية.
الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
هذا الإمام الهمام الذي أرَّخ له سماحة الإمام الراحل السيد الشيرازي (قدس سره) بقوله: ” وُلد الإمام علي الرضا (ع) يوم الجمعة، في المدينة المنورة، في الحادي عشر من شهر ذي القعدة، عام 148 للهجرة. (روضة الواعظين: ص236)
وروى علي بن ميثم عن أبيه قال: سمعتُ أمي تقول: سمعتُ نجمة أم الرضا (ع)، تقول: (لما حملتُ بابني علي (ع) لم أشعر بثقل الحمل، وكنتُ أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً من بطني، فيفزعني ذلك، فاذا انتبهتُ لم أسمع شيئاً، فلما وضعته وقع إلى الأرض واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء يُحرك شفتيه كأنه يتكلم، فدخل إليَّ أبوه موسى بن جعفر (ع) فقال لي: (هنيئاً لك يا نجمة كرامة ربك).
فناولته إياه في خرقة بيضاء، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثم ردّه إليَّ وقال: (خُذيه فإنه بقية الله في أرضه) (من حياة الإمام الرضا (ع) عن كشف الغمة: ج3ص90)
ثم يُعلق سماحة الإمام الراحل بقوله: ” نشأ الإمام علي الرضا (ع) في بيت العلم والتقوى، بيت النبوة والإمامة، وأقام مع أبيه الإمام موسى بن جعفر (ع) خمساً وثلاثين سنة، فأخذ منه علوم النبي (ص) وعلوم جدّه أمير المؤمنين (ع) وآبائه الطاهرين (ع)، مضافاً إلى ما منحه الله من العلم اللَّدُنِّي.
وقد اعترف بفضل الإمام الرضا (ع) القاصي والدَّاني، وأذعن بعلو شأنه وجلالته الجميع من الموالين والمخالفين، وفي كتب العامة: (إنه (ع) كان سيد بني هاشم وكان المأمون يعظّمه ويجُلّه وعهد لـه بالخلافة وأخذ لـه العهد) (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: ص278)
وقال المأمون لابن أبي الضحاك وقد أرسله لأشخاص (إحضار) الإمام (ع) إلى خراسان: (هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم) ( بحار الأنوار: ج49 ص95 ب7 ح7)
وروي أنه صعد المأمون المنبر لما بايع الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، فقال: (أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، والله لو قرأتُ هذه الأسماء على الصُّمِّ البُكمِ لبرؤوا بإذن الله عز وجل) (عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 147)
وقال المأمون: في حوار لـه مع الإمام الرضا (ع): (لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، فو الله ما يوجد العلم الصحيح إلاّ عند أهل هذا البيت، وإليك انتهت علوم آبائك، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا) (عيون أخبار الرضا: ج1 ص226)
وفي تهذيب التهذيب: (كان الرضا (ع) من أهل العلم والفضل مع شرف النسب) (تهذيب التهذيب لابن حجر: ج7 ص340، الأنساب للسمعاني: ج3 ص74)
وقال بعض مَنْ عاصر الإمام (ع): (فمَنْ زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه) (إعلام الورى: ج2ص64)
وقال ابن حجر في صواعقه: (وكان أولاد موسى بن جعفر حين وفاته سبعة وثلاثين ذكراً وأنثى، منهم علي الرضا (ع) وهو أنبههم ذِكراً وأجلِّهم قدْراً، ومن ثم أحلَّه المأمون محل مهجته وأنكحه ابنته وأشركه في مملكته، وفوَّض إليه أمر خلافته، فإنه كتب بيده كتاباً سنة إحدى ومائتين بأن علياً الرِّضا ولي عهده وأشهد عليه جمعاً كثيرين، لكنه توفي قبله، فأسف عليه كثيراً، وأخبر (ع) قبل موته بأن يأكل عنباً ورماناً مبثوثاً ويموت، وأن المأمون يريد دفنه خلف الرشيد فلم يستطع فكان ذلك كله كما أخبر به) (الصواعق المحرقة: ص122)
الإمام علي الرضا (ع) ومواجهة الأفكار الباطلة
في عهد وعصر الإمام الرضا (ع) شهد حالة من الاضطراب السياسي والقلق الأمني الذي عرَّض الأمة إلى ما يُشبه الزلازل والهزات الارتدادية لا سيما الحرب الضارية بين الأخوين محمد الأمين وعبد الله المأمون التي استمرت خمس سنوات وأهدرت آلاف الرواح، وأطنان من الذهب، وضربت الأمة في الصميم، لما رأت من تقاتل وتناحر وتباغض على السلطة والكرسي وكان ذلك كله من قانون أبوهما هارون اللا رشيد وقوله لعبد الله المأمون: (الملك عقيم ولو نازعتني لأخذتُ الذي فيه عينيك).
وكان أبشع ما تعرَّضت له الأمة الإسلامية هو الغزو الثقافي الذي جاءها من الشرق والغرب، الذي وصلها عن طريقين اثنين هما:
1- الذين دخلوا في هذا الدِّين رغبة فالناس على دين ملوكهم – كما يُقال- ولكن كان دينهم ضحلاً جداً فلم يتمكن الإسلام في قلوبهم فلما رؤوا ما يفعله الخلفاء ببعضهم ارتدوا على أدبارهم وعادوا إلى أديانهم القديمة وراحوا يبثون ثقافاتهم في المسلمين ويُشككونهم فيه، كما أنه واجه معظم الأفكار الثورية بالثقافات التبريرية المختلفة للإلتفاف عليها، كالثقافة الفارسية، والرومانية المسيحية (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر).
2- حركة الترجمة التي شهدتها تلك الفترة التي كان المأمون يُعطي بوزن الكتاب ذهباً، وكان يهدف من وراء تلك الحركة إلهاء العلماء بالردِّ عليها بعد دراستها فأوجد المكتبات وشَغَلَ الكُتَّاب، والفارسي منها بالذات شجعها المأمون لما تحمله من فكرة تعظيم الشاه (الملك)، وحاشيته وتُشيع في الأمة ثقافة الإستسلام والخنوع للحاكم، والخضوع للسلطة وراح يجمع العلماء وأصحاب المقالات للإمام الرِّضا (ع) علَّهم يقطعونه ولو في مسألة واحدة كما قال للدِّيصاني، ليُبطل فكرة الإمامة التي كان يعرفها جيداً ويعرف أن الإمام الحق هو الإمام الرضا (ع) كما أخبره أبوه هارون، وبشَّره بالخلافة الإمام موسى الكاظم (ع) وطلب منه أن يُحسن إلى وُلده، كما يروي هو شخصياً.
فلولا مواجهة الإمام الرضا (ع) لهذه الحركة الثقافية، والغزو الثقافي الذي كان وراءه الحكام، وتلك المجالس الكثيرة والعجيبة التي كان يعقدها المأمون للنقاش والحوار في كل شيء حتى في الطب وعلومه، والسماء ونجومه، والإنسان ونفسه وروحه، ولكن كان الإمام الرضا (ع) كالبحر الخضم الذي تفيض ضفافه العلم، والنور، والخير، من كل الاتجاهات وعلى جميع المستويات فيخضع الجميع إلى سلطانه، ويُقرون ويعترفون بتقدمه وإمامته وعلى راسهم حاكمهم وخليفتهم عبد الله المأمون، الذي يعرف تمام المعرفة أن الإمام (خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم).
ونسوق شاهداً واحداً على مدى أثر الإمام الرضا (ع) في الأمة الإسلامية وكيف كانت تتعامل معه في طريقه إلى خراسان، وهو ما يُعرف بحديث السلسلة الذهبية (أو سلسلة الذهب)، العجيب الغريب في كل شيء فيه، ونأخذه برواية الإمام الشيرازي الراحل حيث يقول: ” روى ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة، أن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) لما دخل نيشابور في السفرة التي فاز بها بفضيلة الشهادة كان في قبَّة مستورة بالسقلاط (قماش روماني) على بغلة شهباء وقد شقَّ نيسابور، فعرض لـه الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية والمثابران على السُّنة المحمدية أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي ومعهما خلائق لا يُحصون من طلبة العلم وأهل الأحاديث وأهل الرواية والدراية، فقالا: “أيها السَّيد الجليل ابن السادة الأئمة بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلاّ ما أريتنا وجهك الميمون المبارك، ورويتَ لنا حديثاً عن آبائك (ع) عن جدك محمد (ص) نذكرك به”.
فاستوقف (ع) البغلة وأمر غلمانه بكشف المظلة عن القبَّة وأقرَّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، فكانت لـه ذؤابتان على عاتقه، والناس كلهم قيام على طبقاتهم ينظرون إليه، وهم ما بين صارخٍ وباكٍ ومتمرِّغٍ في التُّراب ومقبِّل لحافر بغلته، وعلا الضجيج، فصاح الأئمة والعلماء والفقهاء: “معاشر الناس أسمعوا، وعوا، وأنصتوا، لسماع ما ينفعكم ولا تؤذونا بكثرة صراخكم وبكائكم”، وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي..
فقال علي بن موسى الرضا (ع): حدثني أبي موسى الكاظم (ع) عن أبيه جعفر الصادق (ع) عن أبيه محمد الباقر (ع) عن أبيه علي زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين شهيد كربلاء (ع) عن أبيه علي بن أبي طالب (ع)، قال: حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله (ص)، قال: حدثني جبرائيل قال: سمعتُ رب العزة سبحانه وتعالى يقول: (كلمة ” لا إله إلا الله” حصني، فمَنْ قالها دخل حصني، ومَنْ دخل حصني أمِن من عذابي)، ثم أرخى الستر على القوم وسار.
فعدوا أهل المحابر والدوي الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا.. وفي رواية: “عُدَّ من المحابر أربعة وعشرون ألفاً سوى الدوي) (الفصول المهمة: ج2 ص1002)
أقول (السيد الشيرازي): وفي الحديث تتمة قالها الإمام الرضا (ع) وهي مذكورة في الطرق الأخرى، عن يوسف بن عقيل عن إسحاق بن راهويه، قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (ع) نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا لـه: يا بن رسول الله ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك، وكان (ع) قد قعد في العَمَارية فأطلع رأسه، وساق الحديث إلى أن، يقول: (لا إله إلا الله حصني فمَنْ دخل حصني أمن من عذابي)، قال: فلما مرَّت الرَّاحلة نادى (ع): (بشروطها وأنا من شروطها) (بشارة المصطفى: ص413)
أقول (السيد): أي من شروطها الإقرار بإمامة الإمام الرضا (ع). (من حياة الإمام الرضا (ع): ص205 بتصرف)
هكذا كان حال الأمة الإسلامية وعلماءها وأعلامها ومحدثيها المتعطشين إلى العلم الحق، السنَّة المطهرة عن آل البيت الأطهار (ع)، وهكذا كان حبهم واحترامهم للذرية المباركة، فوجود الإمام الرضا (ع) حفظ الأمة وبيضتها واستقام دينها وعقيدتها بما أفاضه من علمه، ولهذا سمي (عالم آل محمد)، وكل آبائه علماء ولكن عصر الإمام الرضا (ع) عمَّ فيه الجهل فكان يجب أن يظهر العلم الإسلامي الحق على يدي ولسان ممثل الدِّين، وإمام الحق (ع) من آل محمد (ص).