تحاول المرجعية الدينية العليا بمقدار جهدها أن تقدم للأمة كل ما عندها من توجيهات وتوصيات كي تقلل من معاناة الشعب وترفعه الى أفضل حال ، فتوجيهات سياسية مرة وتوجيهات أمنية أخرى وتوجيهات اجتماعية تارة وتوجيهات اقتصادية أخرى وهكذا ، وبعضها إستراتيجية وبعضها تكتيكية مرحلية ، فمنذ السقوط وجّهت المرجعية بالإعداد لكتابة الدستور من قبل لجنة مشكلة من قبل ممثلي الشعب ، فتقبل الشعب والسياسيون ذلك وطبقوا التوجيه ، ودعت المرجعية الى الانتخابات وفق الستور الجديد وسارع السياسيون والشعب معهم لإجراء انتخابات لتمثل الشعب أفضل تمثيل ، وعندما دعت المرجعية لجهاد داعش هب المؤمنون ومعهم السياسيون لتشكيل أفواج وسرايا لإعداد خطط عسكرية وميدانية لمواجهة داعش .
هذا من جانب التأييد والقبول ، أما من جانب الرفض أو (التغليس) فهناك مواقف عديدة مثل المطالبة بالغاء تقاعد البرلمانيين والوزراء والدرجات الخاصة ، وأريد أن أذكر أحدثها وأبرزها وهي مكافحة الفساد ، حيث دعت المرجعية للقضاء على الفساد وطالبت الحكومة بإجراء إصلاحات حقيقية تغير الوضع الفاسد ، مثل هذه التوجيهات لم تلقَ آذاناً صاغية وقلوباً طائعة ، وإذا أردانا أن نبحث عن السبب فهناك عدة احتمالات منها :
1) الاحتمال الأول / أن السياسيين لا يأخذون إلا ما يرونه مناسباً :
فالسياسة فن الممكن وتدار بها المصالح ، فعندما تكون توجيهات المرجعية تصب في مصلحة السياسيين استفادوا منها إعلامياً وشعبياً ، أما إذا كانت هذه التوجيهات تخالف هواهم ومصالحهم فبالتأكيد سوف لن يأخذوا بها ، لأنهم حقيقة لا يرجعون الى المرجعية حتى الإسلاميون منهم ، لأنهم لا يريدون أن يرهنوا مصالحهم ومستقبلهم بيد المرجعية .
وللسياسيين أساليب مكر متعددة كي يضربوا عصفورين بحجرة ، فيكسبوا رضا المرجعية والناس سوية ويحافطون على مصالحهم في الوقت نفسه ، فعلى سبيل المثال طالبت المرجعية بتثبيت فقرة (لا يجوز سن قانون يخالف الثوابت الإسلامية) ، ومثل هذه الفقرة قد تضع السياسيين – حتى الإسلاميين – في موضع حرج تجاه شركائهم السياسيين (العلمانيين) وتجاه التزماتهم مع الدول الداعمة لهم ، ولكنهم بدون تثبيت هذه الفقرة سيقعون في إحراج ثانٍ وهو سخط المرجعية والناس ، لذا وافقوا على تثبيت هذه الفقرة إلا أنهم لم يضعوا آلية مناسبة لتطبيقها عملياً ، وعندما طرِح قانون المحكمة الاتحادية الذي يمكن أن يكون الآلية المناسبة لضمان تطبيق هذه الفقرة التي ركزت المرجعية على وضعها في الدستور للحفاظ على مستقبل الأجيال اللاحقة ، تلاعب بعض السياسيين (الإسلاميين) ووقفوا مع شركائهم (العلمانيين) كي يكون هذا القانون بصيغة معينة يمكن سن قوانين تخالف ثوابت الشريعة من خلالها ، وبذلك حققوا أمنيتين تكادان تكونان متعارضتين ، لأن المرجعية العليا لم تطالب السياسيين بأن يكون قانون المحكمة الاتحادية وفق نسق وسياق معين يضمن تطبيق تلك الفقرة الدستورية المهمة ، وفي الوقت نفسه لا تمتلك ممثليين عنها في غرف الطبخ السياسية حتى ينقلون لها ما ينوى فعله بما يعارض توجيهاتها ، ولا الإعلام – بما فيه الإعلام الإسلامي – سلّط الأضواء عليها بما يكفي وبالنتيجة فإن الشعب لا يعلم ماذا يخبأ له في دهاليز السياسة المظلمة ، فعاث السياسيون في الأرض فساداً .
2) الاحتمال الثاني / أن السياسيين يقبلون بتوجيهات المرجعية ولكن ينتظرون الوقت المناسب :
لم أجد مثالاً واضحاً يبين هذا الاحتمال ، فلا يوجد موقف للسياسيين تطابق مع موقف المرجعية إلا بعد أن وجدوه مطابقاً لمصالحهم .
3) الاحتمال الثالث / أن المرجعية تطالب بمطالب غير واقعية من وجهة نظر السياسيين فلا يطبقوها :
ولا أعتقد أن هذا الاحتمال مقبولاً لأننا لم نسمع بموقف من مواقف المرجعية غير واقعي ، لأن أغلب مواقفها – إن لم نقل جميعها – منطقية قبل أن تكون شرعية ، فالمطالبة بالقضاء على الفساد مطالبة واقعية لا يختلف فيها عاقلان ، أو الدعوة للمحافظة على وحدة العراق هي دعوة تدعو لها الفطرة قبل الدين ، والدعوة لإعداد خطط أمنية محكمة لمنع التفجيرات والحفاظ على حياة المواطنين دعوة إنسانية قبل أن تكون دعوة دينية ، فأي دعوة أو مطالبة غير واقعية ؟!!
مما سبق نستنتج أن الاحتمال الأول هو الأكثر واقعية ومقبولية ، وأن السياسيين ومعهم جهات أخرى تفلتر وترشح توجيهات المرجعية ، فما كان يصب في مصلحتهم روجوا له وأخذ صدى إعلامياً وبالتالي تعاطفاً شعبياً ، وأما ما لا ينفعهم فيضيقون عليه لذلك نرى مواقف للمرجعية تأخذ ارتدادات إعلامية وشعبية واسعة وبعضها لا يسمعها إلا من يحضر صلاة الجمعة ، وربما يكون الموقف الثاني أهم من الأول ، ولكن المرجعية تريد والسياسيون يريدون وما يكون إلا ما يريده السياسيون !!! للأسف .