كانت هذه المحاولات الحثيثة في درب التقدم والاكتشاف، تسير على سكتين اثنتين: سكة البحث العلمي، المشروط بظروفه وإمكانيته المتواضعة، وسكة الروحانيات، المبنية على الأساطير البكر للخيال البشري، فازدهرت حضارات بلاد الرافدين السومرية والبابلية، وحضارة مصر القديمة، والحضارة الصينية… وتركت بصمات واضحة في سجل الرقي الإنساني، تكشف عن مدى التطور العلمي الذي وصلت له هذه الحضارات، فالأهرامات والبرديات والملاحم والقوانين التي لازلت محفوظة في المسلات… تؤكد التناغم العجيب بين العلوم والأساطير، التي لم تَحُزْ من القوة الروحية ما يجعلها تقف سدا أمام الاكتشافات العلمية والفلكية، أو تسيطر سيطرة تامة على المجتمعات. حتى الحروب التي خاضتها تلك الحضارات فيما بينها، لم تكن حروبا مقدسة يحركها الوازع الديني، كما يؤكد ذلك الدكتور ‘خزعل الماجدي’، بل كانت حروبا للتوسع الجغرافي والهيمنة والاقتصادية.قبل ظهور الديانات الإبرهيمية، المثقلة بالتشريعات العقدية والفقهية التي صاغت التصورات العقلية عن الإله والمجتمع في قالب جاهز، وقدمته للبشرية في كتب مقدسة ينبغي التضحية من أجل حفظها ونشرها وتدارسها، بل وإرجاع كل حيثيات الحياة لتستقي الشرعية من نصوصها المتعالية عن النقد، قبل ظهور هذه الديانات، كانت المجتمعات في العالم القديم تحاول تَلَمُّسَ طريقها للخروج من طباع البدائية ووضع نواميس لتنظيم المجتمعات والكشف عن القوانين المنظمة للطبيعة.
مع بزوغ أولى بذور الديانات الإبراهيمية، بعد السبي البابلي واكتمال الدين اليهودي الذي متح معظم عقائده من الأساطير السومرية والبابلية، ثم ظهور الديانة المسيحية والإسلام، بدأت تظهر الكثير من المعضلات والمشاكل المستعصية، حيث قدَّم أصحاب هذه الديانات أنفسهم كحاملين للحقائق المطلقة عن الإلهيات والعلوم وسياسة المجتمعات. هذه الحقائق، تم إحاطتها بهالة من القداسة والكثير من الأحكام التي تهدر دم من ينتقدها أو يحاول التشكيك في صدقيتها، كما تم تصديرها للشعوب المجاورة لتزج بهم في أتون حروب مقدسة، وتسعر نار الاستقطابات المبنية على العصبية الدينية، وتطفئ الشرارة التي قدحها فلاسفة اليونان. ورغم النهضة النسبية التي عرفتها الحضارة الإسلامية، بعد حركة الترجمة للتراث اليوناني، إلا أنها لم تستمر طويلا، ولم تقاوم مجابهة الفقه المتزمت، الذي دحرها بفتاوى التكفير والقتل.
الزمن عند الشعوب الناطقة بالعربية مشدود الآصار للماضي، فخير القرون وأفضل الأجيال قد مضى بعد البعثة النبوية، وكل ما يُستقدم في المستقبل من أجيال وأحداث، شر متصاعد ليوم القيامة. ومستجدات الحياة العصرية مرتهنة لفقه المذاهب الأربعة وفتاوى بطون الكتب الصفراء
هذا الفقه الراديكالي، هيأ العالم الإسلامي للدخول في سبات عميق وتخلف حضاري، استغله العالم الغربي في بناء حضارته على ركام ما خلفه علماء المسلمين المضطهدين، من ترجمة وتحليل وإضافة للفكر اليوناني، لتضرب بذلك قطيعة محكمة مع الكهنوت الكَنسي، وتجعل الدين مسألة شخصية، مُخضِعةً المجتمعات للعقل والمنطق في كل مناحي الحياة. وبعد مرور قرنين من الزمن استطاعت الحضارة الغربية أن تضع مواثيقا لحقوق الإنسان، وتشطر الذرة وتغزو الفضاء، وتنظم السياسة والمجتمع، وتحتل “العالم الإسلامي”، الذي حاول رتق الهوة ومسابقة الزمن لتجاوز الفجوة الحضارية. لكن… بعد سنين من التجريب والتقليد، لازال العالم الناطق بالعربية متخلفا يتذيل كل مؤشرات التحضر والتقدم العلمي والاجتماعي.
ورغم أن هذا التخلف لا يمكن إرجاعه حصرا إلى الأصولية الدينية المهيمنة على الوعي الجمعي في المنطقة، إلا أنها تبقى أهم سبب يعيق تقدم المجتمعات الناطقة بالعربية.
فكيف تؤثر الأصولية الدينية على المجتمعات العربية وباقي العالم؟
إذا كانت أوروبا قد نجحت في تخطي الحدود التي رسمتها الكنيسة للعقل البشري، وأطلقت مارد التقدم من قمقمه، لينجز في قرنين من الزمان ما لم تستطعه الإنسانية منذ العصور الوسطى، فإن الشعوب في العالم الناطق بالعربية، لازالت تعتقد أنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها حازت الكمال والحقائق المطلقة، وظفرت بخيري الدنيا والآخرة.
سنوجز في اختصار، بعض التأثيرات السلبية للتشدد الديني على المجتمعات المسلمة وباقي العالم.
اغتيال العقل النقدي
ما قدمته الأديان الإبراهيمية من حقائق مطلقة جاهزة عن الكون والإنسان، وما شرعته من شرائع لسياسة المجتمعات، جعلت العقل المعتنق لهذه المعتقدات، دون محاولة تأويلها أو الاكتفاء برمزيتها، عقلا خاملا محدود الأفق، لا يستطيع مجاوزة حدود النص المقدس. ولولا ما استطاع الغرب المتحرر من قيود الكهنوت الخوض فيه من نظريات علمية عن أصل الكون والإنسان، وغيرها من النظريات العلمية الجريئة، لم تكن الشعوب الناطقة بالعربية حتى لتخطر لها على بال، بالنظر للجام المتين الذي يضبط حركة تفكيرها.
إذا كانت الديانتان الإبراهيميتان اليهودية والمسيحية قد تخلصتا من هذه النظرة الضيقة للهوية والأخلاق، فإن الشعوب الناطقة بالعربية لازلت غارقة في المظاهر الهوياتية، مشدودة بحبال الحلال والحرام، جاعلة من الأخلاق التي يقررها الكهنوت الديني، أخلاقا سامية لا تتغير ولا تُستبدل بقيم أخلاقية مستجدة بتجدد الظروف والمتغيرات
والمؤسف حقا، بعد كل هذه السنين، أن العقل النقدي لازال مغتالا، قابعا في سجن من المعتقدات المحاطة بأسوار عالية من الترهيب وفتاوى التكفير، ولا يستطيع أن يفكر بحرية مطلقة، بمعزل عن الرقابة الدينية، ولازال، عوض أن يقتبس جذوة العلوم من الأمم المتقدمة فينفخ فيها لتضيء عتمة واقعه، يحاول باستماتة، دحض تلك النظريات، في حرب “علمية مقدسة”، تزيد أقفالا على باب الفكر لإحكام إغلاقه. والعقل النقدي الخلاق، مهدد بأن يكف عن طرح التساؤلات، ويرتكن ليقينيات العقائد إذا تمكن الأصوليون من كافة الديانات الإبراهيمية من السلطة السياسية والعسكرية وفرضوا رؤيتهم على العالم.
مطلقية الأخلاق وثبات الهوية
الإنسان صيرورة متنامية، متغيرة بتغير الظروف والاشتراطات، نسبية في كل ما تعتقده أو تنتجه من قيم وأخلاق، محكومة بالتطور المستمر، لكن ما تراه الديانات الإبراهيمية مخالف لكل ما يثبته الواقع وتفرضه المتغيرات، فالهوية الدينية شيء ثابت، تسعى الشرائع أن تَطْبَع كل المجتمع بخصائصها وطقوسها في نمطية رتيبة لا تسمح بالتعددية أو الاختلاف، والأخلاق والقيم ثابتة لا تتغير، لمصدريتها الإلهية، التي قضت بمنظومة أخلاقية لا ينبغي الخروج عنها أو استبدالها، وإذا كانت الديانتان الإبراهيميتان اليهودية والمسيحية قد تخلصتا من هذه النظرة الضيقة للهوية والأخلاق، فإن الشعوب الناطقة بالعربية لازلت غارقة في المظاهر الهوياتية، مشدودة بحبال الحلال والحرام، جاعلة من الأخلاق التي يقررها الكهنوت الديني، أخلاقا سامية لا تتغير ولا تُستبدل بقيم أخلاقية مستجدة بتجدد الظروف والمتغيرات، فالسبي شريعة مُحْكَمة، وتزويج الصغيرات سلوك أخلاقي، وقطع الأرجل والأيدي من خلاف حد جنائي أخلاقي يضمن تطبيقه صيانة الأخلاق بالمجتمعات المسلمة، وغيرها من الأخلاق الثابتة، التي تجاوزها الزمن وتحكم على المجتمعات بالموت والجمود، ومصادمة المتغيرات المدعومة بالبحث العلمي وحيوية المجتمعات التي تنتج أخلاقا وقيما وتتجاوز أخرى.
الولاء والبراء كبديل عن المواطنة
المواطنة هي القاسم المشترك للتعايش داخل وطن ما، حيث تسود قيم المواطنة وتتعالى عن كل مظاهر التمييز والطبقية، وقد قطعت الأمم المتحضرة أشواطا كبرى في ترسيخ هذه القيم، للعيش المشترك المبني على أسس المواطنة، عوض القيم الدينية أو العرقية، لكن التشدد الديني لازال يستصحب عقيدة الولاء والبراء، كركيزة أساسية تبنى عليها العلاقات داخل المجتمع، حيث يُوالى الأخ في العقيدة والمذهب، ويُتبرأ من المخالف، سواء كان مسلما أو ذميا، ويسود في المجتمع نفس إقصائي عدائي، يحوله لبرميل بارود قابل للاشتعال في أية لحظة. ولعل نظرة سريعة على الدولة الدينية، التي تمكنت الفصائل الأصولية في العراق والشام من تأسيسها في العقد الأخير، وفق التصورات الفقهية للسياسة الشرعية، يكشف حجم الاختلاف والتناحر بين المكونات السياسية والمجتمعية في تلك الدولة الوليدة، التي لم تهتم بالأخطار المحدقة بها، بل أولت أهمية قصوى للتناحر فيما بينها للاختلاف حول مسائل فقهية وسياسية، فدخلت في حرب أهلية مقدسة، مبنية على مقتضيات عقيدة الولاء والبراء.
إذا كانت أوروبا قد نجحت في تخطي الحدود التي رسمتها الكنيسة للعقل البشري، وأطلقت مارد التقدم من قمقمه، لينجز في قرنين من الزمان ما لم تستطعه الإنسانية منذ العصور الوسطى، فإن الشعوب في العالم الناطق بالعربية، لازالت تعتقد أنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها حازت الكمال والحقائق المطلقة، وظفرت بخيري الدنيا والآخرة.
…وحتى الذين يتهمون هذه الجماعات بالتطرف والتشدد، وعدم تمثيلها للدين الصحيح، فالاستقطابات بينهم مستعرة: فالمدخلي يُبَدِّع كل الطوائف الإسلامية، والسلفي يكفر كل العلمانيين، والإخواني يشكو مظلمته من الواقع واضطهاده… وهذه نتائج طبيعية متوقعة للمجتمعات التي تبني العلاقات بين أفرادها على أساس ديني أو عرقي وليس على أساس المواطنة.
النظرة الارتكاسية للزمن
الزمن عند الشعوب الناطقة بالعربية مشدود الآصار للماضي، فخير القرون وأفضل الأجيال قد مضى بعد البعثة النبوية، وكل ما يُستقدم في المستقبل من أجيال وأحداث، شر متصاعد ليوم القيامة. ومستجدات الحياة العصرية مرتهنة لفقه المذاهب الأربعة وفتاوى بطون الكتب الصفراء، ولا يمكن الحديث بحال من الأحوال عن طفرة مجتمعية. ولازالت هذه النظرة الارتكاسية للزمن، التي تريد صناعة المستقبل في الماضي، مسيطرة على مخيال هذه الشعوب، مبتعثةً فتاوى ابن تيمية لتفتي في عصر فيزياء الكم واستيطان المريخ.
توتر العلاقات الدولية وصعود اليمين المتطرف
قبل الهجمات الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر، كان العالم يعرف انسيابية في حركة الأشخاص والبضائع، ويتجه إلى تجاوز نظرية ‘ صامويل هنتنغتون’ عن صراع الحضارات والخروج من حال الطبيعة وحرب الكل ضد الكل، إلى علاقات دولية مبنية على التعايش وتبادل المصالح في إطار المؤسسات والمعاهدات الدولية، لكن، بعد الهجمات الإرهابية المتكررة التي تبنتها الجماعات الأصولية، اضطرت دول العالم لتكثيف المراقبة الأمنية في المطارات والموانئ، وسن قوانين لحماية مصالحها وشعوبها والحد من تدفق المهاجرين، كما أدت إلى تصاعد اليمين المتطرف، كرد فعل عن التهديد الثقافي الذي يمثله التيار المتطرف، الذي فشل في الاندماج داخل المجتمعات الغربية واستدماج قيمها.
إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم تكن شيئا مستحدثا في أدبيات الأصوليين، بل كانت نتاج فكر يرى ضرورة غزو العالم لنشر الدين، وتقسيم الناس لدار سلام ودار حرب، وهو ما حدث بالفعل، بعد أن أدركت الدول التي لطالما وفرت ملاذا آمنا للمسلمين أنفسهم، الخطر المحدق بها من طرف إيديولوجية إقصائية، فاتجهت لإغلاق الحدود والعودة بالعالم للمربع الأول والعلاقات الدولية المبنية على الاحتراز والحمائية.
إن سلبيات التشدد الديني كثيرة جدا، ومخاطره محدقة بالمجتمعات المسلمة قبل غيرها من دول العالم، وتستوجب فرض يقظة دائمة لتجفيف منابعه، وتقوية مناعة الأفراد والمجتمعات، عن طريق التنبيه لأخطار هذه الإيديولوجية الشمولية قبل أن تتحكم وتنسف كل المكتسبات الحقوقية والعلمية.
رابط المصدر: