قطع الإمدادات.. هل تلجأ موسكو إلى سلاح الطاقة في وجه الغرب؟

 محمود قاسم

تطرح الأزمة المتصاعدة وحالة التعبئة والحشد بين روسيا والغرب سيناريوهات عديدة، بعضها يذهب إلى التأكيد على محاولات كافة الأطراف استعراض القوة، والعمل على رسم خطوط حمراء للطرف الاخر، للحيلولة دون الوصول لحالة الاشتباك، ما يمكن ملاحظته من خلال الحشد والحشد المضاد بين الطرفين؛ فقد نشرت روسيا قوات عسكرية تزيد على 100 ألف على حدود أوكرانيا، ما تسبب في قيام الولايات المتحدة الأمريكية بوضع نحو 8.500 جندي في حالة تأهب واستعداد لأية تطورات لاحقة.

في حين يرى البعض أن الأمور قد تتجه في أية وقت ناحية التصعيد العسكري. ورغم إدراك كافة الأطراف لتكلفة تلك المواجهة حال حدوثه ومحاولة تجنبها عبر الأدوات الدبلوماسية وجهود الوساطة، إلا أن الأزمة الراهنة قد أثارت الحديث حول حدود وإمكانية توظيف روسيا للطاقة كسلاح بهدف الضغط على الدول الأوروبية وتعظيم مكاسبها.

سيناريوهات محتملة

تعمل كل دولة على توظيف أدواتها المختلفة لتحقيق أهدافها ومصالحها سواء ارتبطت تلك الوسائل بالأدوات الناعمة أو الصلبة. وقد سلط الحظر النفطي خلال عام 1973 الضوء على الطاقة كأحد الأدوات التي يمكن تطويعها للضغط على الخصوم، فقد شكل هذا التحرك بداية إعادة النظر في ضرورة التفكير في تأمين مصادر الطاقة، بحيث أصبحت تقع على سلم أولويات الدول وصناع القرار، وشكلت مرحلة فارقة خاصة من قبل المستوردين الأساسيين وأجبرتهم على بحث آليات وسبل تضمن استدامة الإمدادات وتنويع مصادرها مستقبلًا، بالإضافة إلى ضرورة توافر الطاقة بكميات كافية وأسعار ملائمة، والعمل على ضمان استقرار الأسعار، علاوة على محاولات إيجاد مصادر بديلة للطاقة؛ وذلك بهدف الحد من التأثيرات المحتملة في أوقات الأزمات وحالات الطوارئ.

وفي هذا السياق، تطرح الأزمة الراهنة والتوتر القائم بين روسيا والغرب عددًا من السيناريوهات والاتجاهات التي يمكن أن تشكل التفاعلات خلال الفترة القادمة، خاصة فيما يتعلق بالغاز الطبيعي، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

السيناريو الأول: تسليح الغاز، يفترض هذا المسار، قيام موسكو حال التصعيد بقطع إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية؛ بهدف ممارسة مزيد من الضغوط، ووضع الغرب في مأزق تلبية الاحتياجات الداخلية، خاصة وأن التوترات الحالية تتزامن مع أزمة طاقة غير مسبوقة لم تعشها أوروبا منذ السبعينات، وذلك بفعل انخفاض المخزون من الغاز الطبيعي وارتفاع الأسعار بشكل كبير.

وعليه فتسليح الغاز قد يُصيب الدول الأوروبية بنوع من الارتباك في ظل الاعتماد الكبير على الغاز الروسي؛ إذ إن التوترات تتزامن مع فصل الشتاء، ما يعني الحاجة إلى مصادر تدفئة، علاوة على البحث عن توليد الكهرباء لخدمة أغراض التصنيع.

في هذا الإطار، يلعب الغاز الروسي دورًا محوريًا في إنعاش أوروبا، خاصة وأن موسكو توفر نحو 40% من استهلاك أوروبا من الغاز. علاوة على ذلك، تشير التقديرات إلى أن أكثر من ربع واردات الاتحاد الأوروبي من النفط تأتي من خلال روسيا.

لا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل أن ملامح الاعتمادية الأوروبية على الغاز الروسي تتجلى بصورة واضحة بالنسبة لألمانيا على سبيل المثال؛ إذ تشير التقديرات إلى أن وارداتها من الغاز الطبيعي الروسي تراوحت ما بين 50 :75 % خلال عام 2021.

ويؤكد احتياج أوروبا للغاز الروسي إمكانية توظيف الغاز في حال نشوب صراع، ويعزز هذا الافتراض الخبرة التاريخية الروسية في هذا الأمر؛ فقد أظهرت أزمتا الغاز بين روسيا وأوكرانيا 2006 و2009 والخلاف على رسوم عبور الغاز عبر أوكرانيا إمكانية إقبال موسكو على حظر الإمدادات ولو جزئيًا، فقد انعكس وقف الإمدادات من قبل روسيا على عدد من دول أوروبا الشرقية خاصة التي تعتمد بشكل كامل على روسيا.

ورغم أن عملية الحظر استمرت لأسبوعين فقط خلال 2009، إلا أنها أوضحت حدود الدور المحوري للغاز الروسي بالنسبة للدول الأوروبية، بجانب أنها أبرزت التهديدات التي يمكن أن يشكلها الاعتماد المتزايد من قبل أوروبا على الغاز الروسي، ما دفعها إلى البحث عن مصادر يمكنها أن تقلل من الاعتمادية الأوروبية على الغاز الروسي.

من ناحية أخرى، يشير عدد من التقديرات إلى أن موسكو قامت بخفض الإمدادات إلى أوروبا خلال عام 2021، فقد سجلت معدلات انخفاض أقل بنسبة 25% خلال الربع الأخير من العام الماضي مقارنة بنفس الفترة عام 2020. وقد رأت تحليلات أن موسكو لجأت إلى تخفيض صادراتها من الغاز مؤخرًا: بهدف الضغط على أوروبا لتجاوز الانتقادات والمعارضة المثارة حول خط أنابيب نورد ستريم2.  في الوقت ذاته، يثير بعض النقاشات إمكانية قيام أوكرانيا بتعطيل الإمدادات من الغاز الروسي لأوروبا؛ وذلك بهدف حشد دعم غربي جاد بجانب كييف في حال نشوب حرب مفتوحة.

السيناريو الثاني، تقليص الإمدادات دون قطعها، يفترض هذا المسار، احتفاظ موسكو بورقة الطاقة ضمن أدواتها المؤثرة في الصراع مع الغرب، ومحاولة توظيفها في ممارسة ضغوط على السوق الأوروبية المتعطشة للغاز الطبيعي. وعليه يمكن أن تُقدِم موسكو على تقليل وارداتها من الغاز الطبيعي للدول الأوروبية دون منعه بشكل تام.

وذلك لعدد من الاعتبارات، من بينها أن روسيا استمرت في إرسال الغاز إلى أوروبا خلال الحرب الباردة، الأمر ذاته حدث في اعقاب ضم شبه جزيرة القرم. يضاف إلى ذلك ارتباط موسكو بعقود نقل وتوريد الغاز للدول الأوروبية، وعليه ستعمل على الحفاظ على صورتها كونها مورد يتمتع بثقة العملاء ليس فقط في أوروبا ولكن حول العالم.

من ناحية أخرى، تشكل عائدات الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي موردًا مهمًا بالنسبة لروسيا، ما يعني أنها ستعمل على الحفاظ على هذا المورد وضمان استدامته؛ إذ تُشير التقديرات إلى أن عائدات قطاع الطاقة تمثل ما يزيد على 40% من الميزانية الروسية. ونجحت موسكو في توظيف عائدات الطاقة في توفير 630 مليار دولار خلال السنوات الماضية، ولعل هذه الأسباب كفيله باستبعاد سيناريو قطع الإمدادات بشكل تام. يضاف إلى ذلك خشية موسكو من العقوبات التي يمكن أن تُفرض عليها إذا ما لجأت إلى هذا الخيار.

رغم ذلك، يمكن أن تجد روسيا نفسها مٌجبرة على منع الإمدادات إذا ما نشب صراع وتسبب في حدوث تلفيت أو تدمير للبنية التحتية وخطوط نقل الغاز عبر أوكرانيا، ما يعني تأثر ما يقرب من 40 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي تنقلها سنويًا عبر أوكرانيا وفقًا لاتفاق سينتهي عام2024.

في الأخير،  تظل كافة الاحتمالات متاحة فيما يتعلق بتداعيات التوترات الراهنة على قطاع الطاقة؛ ففي حال تحقق السيناريو الأول وإن كان ذلك مستبعدًا، فسوف تجد أوروبا نفسها بحاجة إلى البحث عن بدائل والعمل على الحد من الارتدادات العنيفة التي يمكن أن تنشأ عن تسليح موسكو للطاقة، فقد تنسحب التأثيرات ليست فقط على نسبة الغاز التي تمر عبر أوكرانيا بل تمتد لغيرها من الخطوط التي تربط الغاز الروسي بدول أوروبا، ومن بينها خط “يامال-أوروبا- والذي ينقل نحو 32.9 مليار متر مكعب سنويا، عبر روسيا وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا، بجانب خط نورد ستريم 1 الذي ينقل الغاز إلى ألمانيا ودول أوروبا بطاقة استيعابية 55 مليار متر مكعب سنويًا، علاوة على خط ترك ستريم.

وقد أدى تنوع خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا إلى انخفاض عبور الغاز عبر أوكرانيا بنسبة 70% من 140 مليار متر مكعب عام 1998 إلى أقل من 42 مليار متر مكعب عام2021 وذلك وفقًا لتقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، ما يعني أن التأثيرات في حال قطع الإمدادات بشكل كامل ستؤثر على كافة خطوط نقل الغاز بين روسيا وأوروبا، وأن عبور الغاز عبر كييف يجب أن ينظر إليه على أنه جزء من بعض الخطوط وليس كلها.

هذا المسار يعني أن أوروبا أمام عدة خيارات أحدها يتمثل في التعاطي على المدى القريب، ويتشكل بالأساس عبر ضرورة البحث عن مصادر تحد من تأثيرات المنع حال حدوثه. وفي هذا الإطار يرى المراقبون أن الرئيس الأمريكي “بايدن” قد حصل خلال زيارة الأمير قطر “تميم بن حمد” للبيت الأبيض نهاية الشهر الماضي على تعهدات بتخصيص جزء من الغاز الطبيعي القطري لأوروبا في حال قطع موسكو الغاز، وكذا يمكن أن تمثل مطالبة أوروبا للجزائر والنرويج وأذربيجان بمضاعفة نقل الغاز لأوروبا مخرجًا أو على الأقل سبيل للحد من التأثيرات. ورغم أن هذه الأدوات لن تكون بديلًا عن الغاز الروسي، إلا أنها قد تحد من تأثيرات منع الإمدادات بشكل كامل حال ذهبت موسكو إلى هذا المسار رغم أنه مستبعد بشكل كبير.

وتشير الأزمة الراهنة وحاجة أوروبا إلى تأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي وتنويع مصادرها إلى أهمية ومحورية اكتشافات الغاز الطبيعي شرق المتوسط، في ظل الوفرة الهيدروكربونية وحجم الاحتياطات الذي يقدر بنحو 340 تريليون قدم مكعبة، ما يعني أن الرؤية الاستراتيجية تقتضي دعم الدول الأوروبية لمشاريع الغاز شرق المتوسط، ومحاولة فرض حالة من الاستقرار بما يضمن مزيدًا من الاكتشافات، وتهيئة مناخ ملائم للتنقيب عن الغاز بعيدًا عن العسكرة، إذ إن ذلك من شأنه على المدى البعيد أن يقلل من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي بدرجة أو بأخرى.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67153/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M