عودة قضايا الأمن التقليدي إلى سلم أولويات العلاقات الأمريكية – الأفريقية

محمد فوزي

 

تحمل القمة الأمريكية الأفريقية الثانية المنعقدة حاليًا في العاصمة واشنطن، بين الولايات المتحدة وزعماء القارة الأفريقية، تأكيدًا على السعي الأمريكي لإحياء الشراكة الاستراتيجية مع الدول الأفريقية، بعد حالة الخفوت والتوتر التي طغت على هذه الشراكة خلال السنوات الأخيرة، وهي الشراكة التي يُعد محور “السلم والأمن” في القارة الأفريقية، أحد ركائزها الأساسية، وفي هذا السياق  تحظى قضايا الأمن التقليدي خصوصًا ما يتعلق بمواجهة التهديدات الإرهابية في القارة الأفريقية، وإحلال السلم والاستقرار في المجتمعات، بمساحة مهمة على رأس أولويات مباحثات القادة في القمة، فضلًا عن كونها تمثل أولوية بالنسبة لأجندة التعاون الأمريكي الأفريقي في الفترات المقبلة، وهي مكانة منطقية لهذه القضايا في ضوء حجم التهديدات الأمنية المشتركة التي تربط الجانبين، والشراكة الأمنية التاريخية بينهما.

مكانة متقدمة لقضايا الأمن التقليدي

حظيت قضايا الأمن التقليدي وعلى وجه الخصوص ملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا، بمكانة مهمة على سلم أولويات القمة الأمريكية الأفريقية الثانية، وهو أمر يمكن تلمسه من خلال الجلسات التي خُصصت لهذا الملف وتقاطعت معه، ومنها جلسات: “أفريقيا سلمية وآمنة”، فضلًا عن الجلسات المعنية بقضايا الحكم الرشيد والتنمية المستدامة في أفريقيا، على اعتبار أن تعزيز أسس وركائز الحكم الرشيد وتحقيق التنمية المستدامة باتت من أهم المداخل في إطار استراتيجيات مكافحة الإرهاب، ما عبر إلى جانب بعض الاعتبارات عن المكانة المتقدمة التي باتت تحظى بها قضايا الأمن التقليدي في أجندة العمل الأمريكي الأفريقي، ويمكن فهم الأبعاد التي تقف خلف تبوأ قضايا الأمن التقليدي مكانة متقدمة في إطار العلاقات بين الجانبين، على النحو التالي:

1- السعي لعودة الدور الأمني الأمريكي في أفريقيا: تبنت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي مقاربة أمنية في أفريقيا، مغايرة لتلك التي تبناها سلفه دونالد ترامب، ففي الوقت الذي تبنى فيه “ترامب” استراتيجية تقوم على تقليل الانخراط الأمريكي في القضايا الأمنية الخاصة بالقارة، في إطار مبدأ “أمريكا أولًا” وما حدث من إعادة هيكلة وتنظيم للحضور العسكري الأمريكي في العالم، تبنت إدارة الرئيس جو بايدن، مقاربة مغايرة تقوم على إعادة تقييم استراتيجية مكافحة الإرهاب في أفريقيا، في ضوء مقتضيات مواجهة التهديدات الإرهابية، وما تحمله من تهديدات لمصالح الولايات المتحدة وحلفاؤها، وعدم ترك فراغ استراتيجي تستغله بعض القوى المنافسة كروسيا والصين.

وقد عبر العديد من المؤشرات عن حدوث تغير على مستوى استراتيجيات مكافحة الإرهاب الأمريكية في أفريقيا، ففي 2021 أكد الجنرال ستيفن تاونسند رئيس قوات أفريكوم، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي بأن أفريقيا آمنة ومستقرة هي مصلحة أمريكية دائمة، فضلًا عن موافقة الكونجرس على زيادة قدرها 38.5 مليون دولار إضافية لهذه القوات.

وفي 6 ديسمبر الجاري توصل الكونجرس الأمريكي  إلى اتفاق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2023، وقد ركز مشروع القانون الذي تم تمريره للرئيس جو بايدن للمصادقة عليه، على فكرة إعادة تقييم جهود وزارة الدفاع لتدريب القوات العسكرية الصومالية، وتقديم المشورة لها، ومساعدتها، وتجهيزها لمواجهة التنظيمات الإرهابية، وكانت إدارة الرئيس “بايدن” قد وافقت في مايو الماضي على طلب وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لإعادة تأسيس وجود مستمر للقوات الأمريكية في الصومال، من أجل التصدي للتهديد الإرهابي المتزايد الذي تمثله حركة شباب المجاهدين الصومالية.

وبالإضافة لما سبق لوحظ أن نشاط الجنرال ستيفن تاونسند زاد بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، حيث قام بجولات مكوكية إلى العديد من الدول الأفريقية، خصوصًا تلك الدول التي تعاني من وطأة الإرهاب، وقد ركزت مباحثات الجنرال الأمريكي مع القادة الأفارقة، على السُبل التي يمكن من خلالها المساهمة مع الشركاء الأفارقة في تحقيق الأمن الإقليمي، والدفع باتجاه تحجيم التهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة، وكيفية تقوية شبكة العلاقات مع الشركاء الإقليميين وتعزيز قدراتهم، ويبدو أن هذه المقاربة الجديدة من الإدارة الأمريكية قد دفعت باتجاه عودة قضايا الأمن التقليدي وملف التعاون الأمني بين أمريكا والدول الأفريقية، إلى مكانتها الطبيعية على سلم أولويات التعاون الثنائي.

2- تنامي الأنشطة الإرهابية في أفريقيا: مثلت قضية تنامي الأنشطة الإرهابية في القارة الأفريقية، إحدى القضايا الرئيسة التي دفعت باتجاه عودة قضايا الأمن التقليدي إلى مكانتها المتقدمة على رأس أولويات أجندة العمل الأمريكي الأفريقي، حيث كانت الدول الأفريقية وخصوصًا: الصومال – بوركينا فاسو – نيجيريا – مالي – النيجر، من أكثر الدول تأثرًا بالإرهاب في العالم، وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي 2022 الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن الوفيات في منطقة الساحل مثلت 35% من إجمالي الوفيات الناتجة عن عمليات إرهابية عالميًا في 2021، وفقًا لبيانات المعهد، وتتصاعد خطورة التهديد الإرهابي في أفريقيا، مع توسع تنظيمي داعش والقاعدة في تدشين أفرع قوية لهما في أفريقيا، فضلًا عن صعود العديد من جماعات الإرهاب الأخرى  كالمرابطين وكتيبة ماسينا، وجماعة جيش الرب الأوغندي.

الجدير بالذكر أن تنامي معدلات النشاط الإرهابي في أفريقيا، يمثل تهديدًا مشتركا لكلا الطرفين الأمريكي والأفريقي، ففي الوقت الذي تحول فيه هذه الأنشطة دون سيادة أنماط الحكم الرشيد، وتحقيق التنمية والاستقرار بالنسبة للدول الأفريقية، فإنها في الوقت ذاته تمثل تهديدًا للولايات المتحدة، حيث تسعى بعض التنظيمات الإرهابية لاستهداف الحضور الأمريكي في أفريقيا على غرار ما فعلته جماعة الشباب الصومالية في 2020 عندما استهدفت قاعدة سيمبا في خليج ماندا بكينيا، وقد صرحت الحركة بذلك بشكل مباشر في أكثر من مناسبة، فضلًا عن أن تنامي التهديدات الإرهابية يحول دون قدرة الولايات المتحدة على الوصول إلى الموارد والثروات الأفريقية خاصةً النفط، كما أنها تمثل مدخلًا لقوى مثل الصين وروسيا لتحقيق نفوذ أكبر عبر مدخل التعاون في مكافحة الإرهاب.

3- دبلوماسية الحضور العسكري: تذهب بعض التقديرات إلى أن الولايات المتحدة  لم تركز في وجودها العسكري في أفريقيا على محاربة الإرهاب فقط، بل كانت تقوم من خلال الحضور العسكري لها بأنشطة أخرى لتحقيق وتعزيز المصالح الأمريكية، فعلى سبيل المثال أوصلت الولايات المتحدة مساعدات إنسانية كبيرة وأغذية إلى دول أفريقية في أوقات أزمات طبيعية عبر طائراتها العسكرية، فضلًا عن أن الحضور العسكري الأمريكي في أفريقيا كان أحد مداخل دعم استجابة العديد من الدول لجائحة كورونا، وبالتالي فإن “دبلوماسية الحضور العسكري” وتوظيف هذا الحضور من أجل تعزيز نفوذ واشنطن في القارة وتحجيم نفوذ المنافسين، باتت أحد المحددات الرئيسة الحاكمة للتوجهات الجديدة لإدارة بايدن إزاء أفريقيا.

4- أفريقيا كسوق للسلاح الأمريكي: تمثل القارة الأفريقية سوقًا مهمًا لصادرات الأسلحة الأمريكية، وفي هذا السياق تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة في قائمة الدول المصدرة للسلاح لأفريقيا، بعد روسيا وفرنسا، وتُشير بعض التقارير إلى أن حجم صادرات الأسلحة الأمريكية بلغ نحو 4 إلى 5 مليارات دولار في الفترة بين 2020 و2021، ويأتي هذا الاعتبار كأحد العوامل التي تُحفز تصاعد التركيز الأمريكي على قضايا الأمن التقليدي في إطار العلاقات الثنائية مع أفريقيا، وتزيد اعتمادية الولايات المتحدة على فكرة تصدير السلاح للدول الأفريقية لما يُعطيه ذلك من ميزة توسعية وتنافسية على حساب المنافسين الدوليين، فضلًا عن العوائد المالية الكبيرة من هذه الصفقات، والميزات اللوجيستية والاستراتيجية الأخرى كتقليل تكلفة الانخراط في الحرب على الإرهاب، وتشغيل المصانع وتجربة الأسلحة الجديدة.

تحديات في مواجهة المقاربة الأمنية الأمريكية في أفريقيا

 على الرغم من المؤشرات السابقة التي عبرت في مجملها عن توجه من الإدارة الأمريكية نحو زيادة حجم وطبيعة الاهتمام بقضايا الأمن التقليدي في القارة الأفريقية، كجزء من التوجه نحو إيحاء العلاقات مع القارة السمراء، إلا أن هذا التوجه يواجه بعض التحديات، ومن أبرزها:

1- أحد الإشكالات الرئيسة التي تواجه المقاربة الأمنية لإدارة “بايدن” في أفريقيا، تتمثل في ما أثبتته التجربة التاريخية من أن المساعدات الأمنية والضربات العسكرية الموجهة من قبل الجيش الأمريكي للإرهاب في أفريقيا، وبمعنى أدق فإن “عسكرة ملف مكافحة الإرهاب” في أفريقيا كان نهجًا غير فعال على مستوى اقتلاع جذور الظاهرة الإرهابية، بل على العكس زادت الأنشطة الإرهابية كمًا ونوعًا في السنوات الأخيرة، وهو أمر يقتضي بحث مواضع الخلل في هذه المقاربة، في ضوء المتغيرات الأفريقية الراهنة، وكذا المتغيرات التي طرأت على الظاهرة الإرهابية نفسها.

2- أحد التحديات التي تواجه المقاربة الأمنية في أفريقيا ترتبط بشكل رئيس بتحول القارة إلى ساحة للصراع والتنافس بين العديد من القوى الإقليمية والدولية، وهو التنافس الذي يتخذ العديد من الأشكال، بما يدعم في محصلته تنامي التهديدات الأمنية في القارة، ويُمكن الاستدلال على ذلك بالتأثيرات السلبية لانخراط العديد من القوى الدولية في القارة على أوضاع بعض الدول، فضلًا عن حالة الوظيفية التي باتت تمثلها التيارات الإرهابية بالنسبة لبعض القوى في إطار هذا التنافس الجيواستراتيجي، الأمر الذي دفع بعض الدوائر الأفريقية إلى المطالبة بتحقيق مبدأ “حلول أفريقية لمشاكل الدول الأفريقية” في إشارة إلى رفض التدخلات الدولية.

3- في سياق متصل تواجه المقاربة الأمنية الأمريكية في أفريقيا بعض التحديات اللوجيستية، ومنها ما يتعلق بحاجة العديد من القواعد الأمريكية في أفريقيا إلى التحديث والتطوير، ومع المشاكل الفنية التي تواجه هذه القواعد، فإن الولايات المتحدة يصعب عليها تنفيذ العديد من المهام ومنها تنفيذ بعض العمليات الجوية ضد التيارات الإرهابية.

وفي الختام، يمكن القول إن القضايا الأمنية التقليدية عادت لتحظى بمكانة متقدمة على سلم التعاون الأمريكي – الأفريقي، لكن النهج الأمريكي في التعامل مع قضايا الأمن التقليدي في أفريقيا يحتاج إلى مراجعة جذرية، بما يدفع باتجاه معالجة الإشكالات الأمنية من جذورها، عبر استخدام نهج “القوة الذكية”، والاستثمار في منظومة الحكم الرشيد والتنمية المستدامة في أفريقيا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74566/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M