الانتخابات التشريعية في تونس.. السياقات والتأثيرات

محمد عبد الرازق

 

جرت في السابع عشر من ديسمبر 2022 الانتخابات التشريعية التونسية كآخر مراحل خارطة الطريق التي وضعها الرئيس قيس سعيد في 13 ديسمبر 2021 لإنهاء المرحلة الاستثنائية التي بدأها بإجراءات 25 يوليو 2021 التي بدأت بإقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان، وانتهت بحل البرلمان وتغيير الدستور. فمثلت هذه الانتخابات أولى استحقاقات ما بعد دستور الجمهورية التونسية الجديد الذي جرى الاستفتاء عليه في 25 يوليو 2022 واعتُمد بموافقة 94.6% من إجمالي المصوتين، وقد جرت في ضوء عدد من السياقات المؤثرة على العملية الانتخابية ونتائجها، بما يرتب تداعيات وتأثيرات كبيرة على مجمل المشهد السياسي في تونس.

سياقات مؤثرة

دُعي نحو تسعة ملايين ناخب تونسي إلى التصويت في الانتخابات على 161 مقعدًا من بين 1055 مرشحًا، من بينهم 10 مقاعد تمثل عشر دوائر انتخابية مخصصة للمواطنين المقيمين في الخارج، والذين توافدوا على صناديق الاقتراع أيام 15 و16 و17 ديسمبر 2022، وذلك وفقًا للقانون الانتخابي الجديد الصادر في 15 سبتمبر 2022 الذي يمثل أحد أبرز السياقات المؤثرة في هذا الاستحقاق الانتخابي، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

1 – بنية قانونية جديدة

حمل التعديل الذي جرى في 15 سبتمبر 2022 على قانون الانتخابات متغيرات عميقة التأثير على شكل الانتخابات التشريعية بدءًا من شروط الترشح مرورًا بتقسيم الدوائر الانتخابية، وصولًا إلى آلية الاقتراع. فنص القانون على أن المرشح للانتخابات عليه الحصول على تزكية 400 ناخب في دائرته الانتخابية، مع تقديم ما يثبت نزاهته وعدم تورطه في أي قضايا، بالإضافة إلى تحديد أعضاء مجلس نواب الشعب بـ161 نائبًا موزعين على 161 دائرة انتخابية بدلًا من 217 نائبًا في البرلمانات السابقة، وتحويل نظام الاقتراع من نظام القوائم النسبية المفتوحة الذي كان معمولًا به في القانون السابق إلى نظام الاقتراع الفردي، بأن يجرى التصويت في الانتخابات التشريعيّة على الأفراد، وإذا تقدّم إلى الانتخابات مترشّح واحد في الدّائرة الانتخابيّة، فإنّه يصرّح بفوزه منذ الدّور الأوّل مهما كان عدد الأصوات التي تحصّل عليها.

يتكامل هذا التعديل القانوني مع ما أرساه الدستور الجديد لتونس من ملامح لنظام سياسي رئاسي يمنح سلطات واسعة للسلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الدولة بشكل أكبر من مساحات العمل والأدوار التي يقوم بها مجلس نواب الشعب والأحزاب السياسية. ويبدو في فصول التعديل الجديد لقانون الانتخابات حرص واضح على عدم تكرار أي من ملامح التجربة البرلمانية التي عاشتها تونس ما بعد 2011 وحتى يوليو 2021، ولذلك نص على عدد من النصوص الجديدة التي يتلافى بها الارتباك الذي شهدته البرلمانات السابقة، وخاصة البرلمان الأخير الذي تزعمته حركة النهضة الإخوانية بالتحالف مع حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة.

ومن ذلك النص في الفصل الـ39 على إمكانية سحب الوكالة من النائب في دائرته الانتخابية، في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابيّة أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدّم به عند الترشّح. هذا علاوة على ما نص عليه الدستور في الفصل الـ65 بألا يتمتع النائب بالحصانة البرلمانية بالنسبة إلى جرائم القذف والثلث وتبادل العنف المرتكب داخل المجلس أو خارجه، ولا يتمتع بها أيضًا في صورة تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس.

2 – خلافات سياسية 

جرت الانتخابات التشريعية في تونس في ظل مناخ سياسي اتسم بالاستقطاب والخلاف في ظل مقاطعة بعض الأحزاب السياسية للعملية الانتخابية في ضوء رفضها تعديل قانون الانتخابات، وأبرزها جبهة الخلاص الوطني التي تضم عددًا من الأحزاب والتيارات منها حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس، بالإضافة إلى الحزب الدستوري الحر والتيار الديمقراطي، وأحزاب “الحر” و”العمال” و”التكتل” و”القطب” و”المسار” و”الجمهوري”، بينما شاركت أحزاب أخرى في الانتخابات مثل أحزاب لينتصر الشعب وحركة الشعب والتيار الشعبي وحراك 25 يوليو وحركة تونس إلى الأمام.

يضاف إلى ذلك أن الطرف الأهم في المعادلة السياسية والاجتماعية في تونس منذ 2011 وهو الاتحاد العام للشغل قد أعلن رفض الانتخابات، بعد أن كان الاتحاد من أبرز المؤيدين لإجراءات 25 يوليو، وذلك في ضوء تهميش دور الاتحاد في اتخاذ بعض الإجراءات والقرارات، مما دفعه إلى تنظيم الإضرابات العامة التي تكررت عشرات المرات خلال الشهور الأخيرة مع كل خلاف مع الحكومة برئاسة نجلاء بودن وخاصة ما يتعلق بالموازنة الجديدة أو المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى عدم القدرة على حل الأزمات الاقتصادية والمعيشية، الأمر الذي وضع الاتحاد في نفس الصف مع الأحزاب السياسية الرافضة للانتخابات.

3 – متغيرات شعبية

تضاف إلى السياقات القانونية والسياسية التي أحاطت بالانتخابات التشريعية في تونس عوامل أكثر أهمية تتعلق بالتونسيين أنفسهم ومدى استجابتهم للانتخابات؛ إذ جرت الانتخابات في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة يعيشها التونسيون، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية بشكل كبير جراء تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وعدم بت الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار رغم التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء في 15 أكتوبر 2022، مما يزيد من عدم قدرة البلاد على توفير احتياجاتها التمويلية الضرورية، ويفضي إلى استمرار الأزمة دون إصلاحات هيكلية للاقتصاد وحزم عاجلة للتعامل مع تداعيات الأزمات.

ويمثل هذا البُعد الاقتصادي عاملًا مستمرًا في تعاطي التونسيين مع المشهد السياسي بوجه عام؛ إذ كان هو السبب الأساسي وراء خروجهم في مظاهرات حاشدة عام 2021 وصولًا إلى مظاهرات 25 يوليو التي كانت سببًا رئيسًا في اتخاذ الرئيس قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية وفقًا للفصل الـ80 من دستور 2014، وانعكس بشكل واضح -بالإضافة إلى العوامل الأخرى- في عزوفهم عن استحقاقات ما بعد 25 يوليو، مثل الاستشارة الإلكترونية التي دعا إليها الرئيس سعيّد وشارك فيها نحو 564 ألف مواطن فقط من أصل نحو تسعة ملايين مواطن له حق التصويت، بجانب الاستفتاء على الدستور والذي بلغت نسبة التصويت فيه نحو 27.5% فقط، وصولًا إلى الانتخابات التشريعية التي تشير نتائجها الأولية إلى أن نسبة التصويت بلغت 11.2% فقط، وهي النسبة الأقل تقريبًا في تاريخ تونس، والتي تحمل العديد من الدلالات حول مدى القبول الشعبي للوضع الراهن في البلاد على المستويات كافة.

تداعيات وتأثيرات

عطفًا على ما تقدم من سياقات مؤثرة في العملية الانتخابية التي جرت في 17 ديسمبر 2022، ونسبة الإقبال التي سُجلت في هذه الانتخابات، يمكن الوقوف على بعض التداعيات التي ستنتج عن الانتخابات على المشهد السياسي في تونس خلال الفترة المقبلة.

1 – اتساع الهوة

بينما قوبلت إجراءات 25 يوليو 2021 التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد بقبول شعبي واسع للغاية ظهرت ملامحه في المظاهرات والوقفات الداعمة لها في الفترة التي تلت اتخاذها، بالإضافة إلى نتائج استطلاعات الرأي المختلفة التي أظهرت جميعها تأييدًا كبيرًا للرئيس سعيّد ومستويات كبيرة من الثقة في رشادة قراراته وصوابيتها وأنها تمثل المسار الصحيح للدولة التونسية؛ فإن هذا المستوى من التأييد والثقة يأخذ منحنى هابطًا منذ فترة كبيرة.

وذلك على وقع ما يمكن وصفه بضبابية ملامح مستقبل البلاد على الصعيد السياسي في ضوء حالة عدم التوافق والخلافات بين الرئيس قيس سعيد وعدد من التيارات والقوى السياسية، فضلًا عن ما سبق ذكره من تردٍ اقتصادي لم تقدم السلطة التنفيذية بشقيها الرئيس قيس سعيّد وحكومة نجلاء بودن خطة مكتملة لمعالجته. وهي كلها عوامل قد تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار الشعبي والسياسي في البلاد خلال الفترة المقبلة.

2 – برلمان مشتت

تفضي كافة السياقات المؤثرة في الانتخابات إلى أن يكون البرلمان المقبل مشتتًا ومنقسمًا، يغلب عليه المستقلون دون وجود ائتلافات أو تحالفات أو أحزاب قوية وفاعلة تقود دفة العمل النيابي خلال الفترة المقبلة، لا سيّما وأن التعديل الجديد لقانون الانتخابات قد حظر على المرشحين تغيير انتماءاتهم الحزبية التي دخلوا بمقتضاها إلى مجلس نواب الشعب، ومن ثم سيكون من الصعب تشكيل تحالفات داخل المجلس. وهو الأمر الذي كان يمثل هدفًا في حد ذاته بالنسبة للرئيس قيس سعيّد في وضع الدستور الجديد وتعديل قانون الانتخابات، بما يعزز البناء القاعدي للعمل السياسي على حساب البناء الحزبي، ويتناسب مع الدور المنوط بالبرلمان في الدستور الجديد الذي لم يعد واسعًا مثل البرلمان السابق في ضوء إرساء نظام رئاسي عوضًا عن النظام شبه البرلماني. ويتضمن هذا الغياب الحزبي المتوقع داخل البرلمان غيابًا أكبر لحركة النهضة الإخوانية والأحزاب والتيارات المتحالفة معها، مما يعمق من عزلتها داخل المشهد السياسي في تونس.

3 – سيطرة السلطة التنفيذية

ستكرس الانتخابات التشريعية والبرلمان الجديد الناتج عنها من سيطرة السلطة التنفيذية على مقاليد الأمور التونسية في ظل الصلاحيات الواسعة التي يمنحها لها الدستور الجديد، وما هو محتمل من عدم وجود معارضة تُذكر داخل هذا البرلمان، في ظل ما يمنحه القانون الانتخابي والدستور من أدوات تفرض بها السلطة التنفيذية سيطرة نسبية على البرلمان مثل إجراءات سحب الوكالة من النواب، أو كون الحصانة الممنوحة للنواب ليست حصانة كاملة.

بالإضافة إلى كون مشروعات القوانين المقدمة من رئيس الجمهورية لها أولوية النظر قبل أي مشروعات قوانين من مقترحة من النواب أنفسهم، بالإضافة إلى عدم قبول أي مقترحات قوانين من شأنها الإخلال بالتوازنات المالية للدولة التي تضعها السلطة التنفيذية، وإعطاء الحق لرئيس الجمهورية أن يدفع بعدم قبول أي مشروع قانون أو أي مشروع تعديل يتضمن تدخلًا في مجال السلطة الترتيبية العامة على أن تبت المحكمة الدستورية في الأمر. يضاف إلى ذلك كله أن مساءلة الحكومة ليست من صلاحيات البرلمان وإنما من اختصاصات رئيس الجمهورية.

إجمالًا، بإتمام الاستفتاء على الدستور وإجراء الانتخابات التشريعية -مع بقاء انتخابات المجلس الوطني للجهات والأقاليم- تغيرت بنية النظام السياسي التونسي بشكل كامل بعد الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو، بينما تزداد عزلة معظم الأحزاب عن المشهد السياسي بجانب المنظمات النقابية كالاتحاد العام للشغل، ويستمر عدم الرضا الشعبي عن الوضع الراهن للبلاد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية الذي انعكس على نسبة المشاركة في الانتخابات، الأمر الذي يجعل من الصعب توقع الاستقرار في البلاد على المديين المتوسط والبعيد.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74625/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M