­­التوازن الصَّعب: مستقبل التحوط الصيني بين دول الخليج العربية وإيران

صدر عن القمة الصينية-الخليجية، التي ترافقت مع زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للرياض، في 9 ديسمبر 2022 بيانٌ مشترك أثار جدلاً واسعاً في إيران، وفُهمت لهجة البيان في طهران باعتبارها انحيازاً صينياً إلى مواقف دول الخليج العربية على حساب مصالح إيران.

 

تناقش هذه الورقة واقعية هذه الاستنتاجات من خلال تحليل العلاقات الصينية-الإيرانية، ومستقبل سياسة الموازنة/التحوط الصينية بين إيران وجيرانها الخليجيين.

 

مؤشرات “تحول” في موقف الصين، ورد الفعل الإيراني

أكد نص البيان الختامي للقمة الخليجية-الصينية الصادر في 9 ديسمبر (في البنود من 9-12) على عدة نقاط مهمة، هي: “ضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني”، و”أهمية الحوار الشامل بمشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وضمان سلامة الملاحة الدولية والمنشآت النفطية، والالتزام بالقرارات الأممية والشرعية الدولية”، و”دعم القادة لمساعي الإمارات حل قضية الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى” من خلال “المفاوضات الثنائية وفقاً لقواعد القانون الدولي، ولحل هذه القضية وفقاً للشرعية الدولية”.

 

وأثار البيان ردود أفعال واسعة في إيران، فقد قالت وزارة الخارجية الإيرانية إن السفير الصيني في طهران “قام بزيارة” لمقرها للاستماع إلى “الاستياء القوي”، وكان لافتاً تجنُّب وزارة الخارجية مصطلحات كـ”استدعاء” أو “شجب” أو “إدانة” البيان. وقال وزير الخارجية أمير عبداللهيان على تويتر (باللغتين الفارسية والصينية) إن الجزر الثلاث جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية، وإن طهران ” لن تتنازل لأي دولة عن أهمية احترام” سلامتها الإقليمية. بينما ذهب بعض وسائل الإعلام المحسوبة على التيارين الإصلاحي والمعتدل إلى أن المواقف الصينية تعكس فشل سياسة “التوجه شرقاً” للنظام الإيراني، وأن بيجين “تتحرك ضد مصالح إيران في الخليج”.

 

لكن كان لافتاً انضباط التصريحات الإيرانية الرسمية، واقتصارها على مسألة الجزر، دون التوسع نحو النقاط الحساسة الأخرى. وقد أعلنت الصين عن زيارة نائب وزير الخارجية، هو تشونخوا، لطهران في 12 ديسمبر (ضمن جولة شملت أبوظبي) لتهدئة الأجواء. وخلال الاجتماع، قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إن مواقف الصين في القمة الخليجية تسببت “باستياء وشكوى الأمة والحكومة وإيران تطالب بجدية بالتعويض” عنها، دون الكشف عن طبيعة التعويضات المطلوبة. ورد تشونخوا بالتشديد على احترام الصين لوحدة أراضي إيران ومصالحها.

 

وبعد الزيارة، أعلن وزير المالية الإيراني إحسان خانروزي، ووسائل إعلام حكومية، أن الجانبين اتفقا على تفعيل اتفاقات تُقدر بعشرات المليارات من الدولارات ضمن اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة الذي دخل حيز التنفيذ في يناير الماضي. بينما توقع نائب وزير الخارجية الإيراني مهدي سفاري بلوغ التبادل التجاري حاجز 30 مليار دولار بحلول مارس المقبل. وكان واضحاً أن هذه التصريحات موجَّهة لتهدئة الداخل.

 

وقد تمخَّض عن موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال القمة، وردود الأفعال الإيرانية، استنتاجات من بينها:

 

  1. أن الصين تُعيد صياغة مواقفها إزاء الخليج عبر التخلي عن سياسة الموازنة/التحوط بين إيران ودول الخليج العربية باتجاه الانحياز السياسي إلى الأخيرة.
  2. عكس تجاهل المسؤولين الإيرانيين التعليق على قضايا الملف النووي والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار والبرنامج الصاروخي رغبة رسمية في احتواء الخلاف، وعدم منح المعتدلين والإصلاحيين فرصةً لتعميق الشكوك حول العلاقات مع بيجين. وفي المقابل، سعى التياران الأخيران لإثبات عدم واقعية سياسات المحافظين تجاه الصين، وخلوها من أي عناصر استراتيجية تخدم مصالح إيران.
  3. ترك الخلاف انطباعاً خليجياً بقدرة العلاقات العميقة والتبادل التجاري المعزز على إحداث تغييرات جوهرية، ولو قصيرة الأمد، في مواقف الصين الإقليمية لصالح دول الخليج.
  4. أنتج الموقف الصيني تصوراً بأن الصين باتت أكثر استعداداً للقيام بدور سياسي أكثر فاعلية في منطقة الخليج، قد يقود تدريجياً إلى اختلال التوازن الاستراتيجي في علاقاتها مع المنطقة.

 

قد ينطوي بعض هذه الاستنتاجات على دقة بينما يُعاني بعضها نسبياً من مبالغات. فعلى سبيل المثال، تأتي زيارة هو تشونخوا لطهران بالتزامن مع التحضيرات لقبول إيران رسمياً عضواً في منظمة شنغهاي للتعاون في أبريل المقبل. ورغم تشبُّع هذه الخطوة برمزية كبيرة تكمن في حلحلة عزلة طهران الدولية، فإنها لن تتسبب في خروج إيران من أزماتها أو تُحدث اختراقاً في العلاقات الصينية-الإيرانية بسبب استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ومحدودية قدرة المنظمة المؤسسية، وعمق الانقسامات الداخلية فيها. فضلاً عن ذلك، فإن هو تشونخوا نفسه، رغم احتفاظه بمنصب نائب رئيس الوزراء مؤقتاً، لم يعد يحظى بثقة الرئيس شي أو يتمتع بنفوذ في بيجين بعد استبعاده من عضوية المكتب السياسي خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في أكتوبر الماضين ويُتوقع أن يخسر هو تشونخوا منصبه الحالي في مارس المقبل. ويعكس ذلك أن الزيارة، والتعهدات التي صاحبتها، رمزيةٌ، ولا يتصور تضمُّنها لعمق حقيقي.

 

ويتجلى ذلك في حقيقة حدوث تغيرات في نظرة بيجين لإيران كشريك استراتيجي من حيث القيمة الحقيقية والثقل، وتأثير علاقاتهما في شراكة بيجين بالخليج والولايات المتحدة.

 

علاقات مُعقَّدة: كيف بات الرئيس شي ينظر إلى إيران؟

لطالما قُدِّرَت العلاقات الصينية-الإيرانية بأكثر من حقيقتها. واقعياً اتسمت العلاقات، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالصعوبة وتخللتها حساسيات داخلية وتحديات خارجية عرقلت كثيراً من تحولها إلى شراكة دينامية ومفيدة للجانبين، وأثرت، صعوداً وهبوطاً، في أهمية إيران الاستراتيجية بالنسبة للصين. وكمبدأ عام، فإن إيران تحتاج إلى الصين أكثر مما تحتاج الصين إلى إيران. فضلاً عن ذلك، فإن العلاقات الثنائية ظلت مرتبطة بمؤثرات خارجية متصلة بالتقدم والتراجع في علاقات بيجين بواشنطن ودول الخليج.

 

وتنقسم الصعوبات في هذه العلاقة إلى قسمين: طويل الأمد، وقصير الأمد. تشمل الصعوبات طويلة الأمد ما يأتي:

 

  1. لا تزال الشراكات الاقتصادية مع الصين، خصوصاً المتضمنة في اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة على امتداد 25 عاماً الموقع عام 2016، محلَّ انتقاد في الداخل الإيراني، لأسباب أهمها التنافس مع الشركات المحلية، وتراجع جودة المنتجات الصينية، وغموض وسرية بنود غالبية الاتفاقات.
  2. الخشية من الاعتماد الزائد على الصين، وتراجع الثقة بها انطلاقاً من دعم الصين في عدة مناسبات فرض عقوبات دولية على إيران إثر برنامجها النووي، والنزعة الصينية لإلغاء اتفاقات وتجنب أخرى خشية من العقوبات الأمريكية.
  3. مواجهة القيادات والشركات الصينية صعوبات مزمنة في إيران، متمثلةً بتأجيل وإلغاء والتشكك في عقود استثمارية عدة.
  4. التأثير الهائل للتصورات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة على العلاقات مع إيران، وتقديم الصين تماسك العلاقات مع واشنطن كأولوية على تحسين الروابط مع طهران.

 

وبالنسبة للصعوبات قصيرة الأمد، فإن زيارة الرئيس الصيني للرياض، التي طال انتظارها، تشير إلى حدوث تحولات تصورية، على الأقل، في تفكير الرئيس شي إزاء إيران. فقد بات الرئيس الصيني أكثر استعداداً لاتخاذ خطوات تفاعلية مع الهوة الآخذة في الاتساع في مواقف وتحركات البلدين على الساحة الدولية، أي أن القيادة الصينية باتت تنظر بشكل أقل إلى العلاقات مع إيران باعتبارها فرصة استراتيجية. ويرجع ذلك، على المديين القصير والمتوسط، إلى ما يأتي:

 

  1. جمود مفاوضات الاتفاق النووي، الذي يخلق عراقيل كبرى في طريق الاستثمارات الصينية. وقد أعلن الجانبان البدء في تنفيذ بنود اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في يناير الماضي، بالتزامن مع صعود التفاؤل بشأن قرب التوصل إلى اتفاق بخصوص البرنامج النووي الإيراني، قبل انهيار المفاوضات مرة أخرى. وبالأخذ في الاعتبار أن الشراكات الاقتصادية هي العمود الفقري لنفوذ الصين الإقليمي، يمكن الجزم بأنه كلما طال جمود المفاوضات النووية، طال أمد بقاء “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بين الجانبين مجمدة بسبب خشية الشركات الصينية من العقوبات الثانوية الأمريكية. ويؤكد ذلك عدم واقعية توقعات نائب وزير الخارجية الإيراني بوصول حجم التبادل التجاري مع الصين إلى 30 مليار دولار بحلول مارس المقبل، بينما يتخطى حجم التبادل التجاري حالياً بقليل مليار دولار فقط شهرياً.
  2. تزويد إيران روسيا بطائرات مسيرة في الحرب على أوكرانيا. ورغم احتمال إطالة هذه الخطوة زمن الحرب، ورفع كلفتها على الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها تحمل مخاوف بالنسبة لبيجين أهمها تراجع إمكانية العودة إلى المفاوضات النووية، واحتمال فرض المزيد من العقوبات الغربية على طهران، ومن ثم تراجع فرص تعزيز العلاقات الصينية-الإيرانية.
  3. اهتزاز استقرار النظام الإيراني نسبياً وسيولة الوضع الداخلي على وقع المظاهرات الواسعة والمستمرة منذ مقتل مهسا أميني في سبتمبر الماضي، ومقتل 600 شخص على الأقل بفعل قمع النظام.
  4. تمثل العلاقات الآخذة في التعمُّق بين الصين ودول الخليج (السعودية والإمارات وقطر خصوصاً)، والتوقعات بتغير طبيعة علاقات هذه الدول مع الولايات المتحدة على المدى الطويل، فرصاً جديدة للصين للضغط على نفوذ واشنطن الإقليمي. ومع أن هذه الدول قد لا تشكل قاعدةً بديلة للدفع بالاتجاه المضاد لوضع الولايات المتحدة المهيمن في الخليج، فإن إيران، بالنسبة للصين، لم تعد القوة الوحيدة التي تتمتع باستقلالية عن تفضيلات واشنطن الاستراتيجية.

 

ومن ثم، فإن السؤال المطروح هو: هل ستؤثر مواقف القمة الصينية-الخليجية في سياسة الموازنة/التحوط الصينية بين إيران ودول الخليج؟

 

آفاق الموازنة الصينية

من الناحية الموضوعية، لا شك في أن مواقف الرئيس شي خلال القمة الخليجية جعلت سياسة الصين الدقيقة والحذرة القائمة على الموازنة بين إيران ودول الخليج العربية، منذ توقيع اتفاقَي الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع كلٍّ من إيران والسعودية عام 2016، وإجراء تدريبات عسكرية مع الجانبين في عامي 2017 و2019، محل تساؤل. وكانت الصين تحرص عادةً على ألا يَفهم أي طرف منهما أن الاتفاقات أو التعاون، خصوصاً في المجال الأمني والعسكري، تُعد انحيازاً للطرف الآخر.

 

وقد تسبب موقف الصين في ظهور سيناريوهَين لمستقبل علاقاتها على ضفتي الخليج، كما يلي:

 

السيناريو الأول، يفترض أن اللهجة الصينية في البيان المشترك الصادر عن القمة الصينية-الخليجية تمثل بدايةً لتغيير، أو إنهاء، سياسة التحوط والموازنة بين إيران ودول الخليج العربية. وفي هذا السيناريو، يتوقع أن تسعى الصين إلى مزيد من التوسع في علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية مع السعودية والإمارات (وبدرجة أقل قطر)، وفي الوقت نفسه تتبنى خطوات لتقليل مستوى الشراكة مع إيران. أحد أهم المؤشرات على ذلك سيكون إلغاء أو تعطيل العمل باتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع طهران، وإلغاء شركات صينية عقوداً للاستثمار في إيران، ورفع الصين مستوى التزامها بالعقوبات الأمريكية. وضمن هذا السيناريو، سيتراجع، بالتوازي، حجم التبادل التجاري مع إيران، وربما تلجأ بيجين إلى فرض حظر على بعض الصادرات إلى إيران. وسيتأثر أيضاً مستوى التعاون في مجالات أخرى، كالمفاوضات النووية، ومفاوضات انضمام طهران لمجموعة “بريكس”، فضلاً عن تأخير انضمامها رسمياً لمنظمة شنغهاي للتعاون، والتصويت ضد مصالح طهران في مجلس الأمن.

 

سيُمثِّل هذا السيناريو فرصةً استراتيجيةً بالنسبة لدول الخليج، التي ستكون قد ضَمنت، ولو على المديين القصير والمتوسط، دعم القوتين العظميين لها بمواجهة إيران. سيُنتج هذا الواقع أدوات دبلوماسية تمكِّن الدول الخليجية من تشجيع الصين على ممارسة ضغوط على إيران لتقليص دعمها للميليشيات والأنشطة المزعزعة للاستقرار إقليمياً. هذه الأدوات قد تتضمن أيضاً الإسراع في توقيع اتفاق التجارة الحرة مع الصين، والدخول في شراكات لتصنيع أسلحة صينية في الشرق الأوسط، إلى جانب توحيد مسارات الاستثمارات الخليجية في أفريقيا والشرق الأوسط مع مشاريع مبادرة “الحزام والطريق”.

 

ويمنح ذلك دول الخليج الأسبقية الاستراتيجية على إيران في علاقاتها مع الصين، لأسباب أهمها:

 

  1. المستوى الكبير للتعاون الاستثماري والتجاري والتكنولوجي والسياسي الذي يفوق بكثير مستوى التعاون الصيني مع إيران.
  2. التباطؤ في نمو الاقتصاد الصيني والحاجة الملحة إلى زيادة الصادرات والاستثمارات الخارجية. وتوفر دول الخليج هذه الفرص لبيجين، بينما تستمر السوق الإيرانية حبيسة العقوبات.
  3. النفوذ الإقليمي المتصاعد لدول الخليج (تبدى ذلك مثلاً في قدرة السعودية على تجميع 30 دولة أخرى للاجتماع بالرئيس الصيني)، وفائدة ذلك في توسيع مبادرات “الحزام والطريق” والتنمية والأمن العالميين في العالم العربي.

 

لكنْ، واقعياً، لا يمكن التعويل على هذه العوامل لاستشراف حدوث تغيير جوهري في المقاربة الصينية إزاء الخليج.

 

السيناريو الثاني، يفترض أن موقف الرئيس شي في القمة الصينية-الخليجية لا يمثل أي تغير في سياسة التحوط/الموازنة. ومع ذلك، قد تكون هذه المواقف الصينية أعراضاً لغياب التوافق، بشكل مؤقت، بين طهران وبيجين حول القضايا سالفة الذكر، وهو ما يُحوّل دول الخليج إلى أولوية قصيرة المدى بالنسبة للصين. لكنْ، في كل الأحوال، لا يُتوقع أن تؤثر تلك الخلافات في مستقبل العلاقات الصينية-الإيرانية.

 

ويبدو أن سياسة الموازنة الصينية مرجحة لأن تستمر في المدى القريب، للأسباب الآتية:

 

أولاً، رغم محاولة القوى الخليجية، على مدار عقود، إقناع الصين بالتخلي عن سياسة الموازنة، فإن بيجين أظهرت رغبة صلبة في التمسُّك بها. حدث ذلك في ثمانينات القرن الماضي خلال محاولة الأمير بندر بن سلطان إقناع بيجين بوقف إمداد الأسلحة لإيران خلال حربها مع العراق، وخلال المفاوضات حول قرار مجلس الأمن رقم 1929 لسنة 2010 الخاص بتصعيد العقوبات على إيران، عبر اقتراح تغطية السعودية حصة إيران من ورادات النفط إلى الصين.

 

ثانياً، الطبيعة الزمنية لاتفاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة الصينية مع إيران من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى. فمن وجهة النظر الصينية، فالشراكة مع الخليج مكثفة وأقصر في المدى، بينما تنظر بيجين إلى شراكتها مع طهران باعتبارها لعبة انتظار استراتيجية تتطلب اهتماماً دبلوماسياً مكثفاً على المدى الطويل.

 

ثالثاً، كلما زاد التصعيد بين إيران ودول الخليج، تعمَّقت سياسة التحوط والموازنة الصينية. وقد اتضح ذلك في مناسبتين: توقيع اتفاقيتي الشراكة الاستراتيجية الشاملة عام 2016 بعد إعدام نمر النمر واقتحام السفارة السعودية في طهران، وإجراء مناورات عسكرية على حدة مع كلٍّ من إيران والسعودية بعد استهداف ابقيق وخريص عام 2019. وعلى الجانب الآخر، فإن خفْض التصعيد مع إيران، ورفع مستوى التعاون والشراكة الاقتصادية والسياسية الخليجية مع الصين، سيرفع كلفة سياسة الموازنة الصينية، ويجعلها أكثر صعوبة في نظر القيادة الصينية.

 

رابعاً، من غير المرجح أن تتمركز قوات صينية في إيران أو تستخدم الصين الأراضي الإيرانية لأغراض عسكرية معادية للمصالح الخليجية أو الأمريكية في المنطقة بسبب تمسُّك الصين بعامل الاستقرار الإقليمي، وعدم سعيها لخلق اختلال في التوازن الاستراتيجي في الخليج، فضلاً عن عدم رغبتها في إنتاج توترات في علاقاتها بالدول الخليجية.

 

خامساً، رغم تصدير أدوات بوليسية قمعية إلى إيران، فإن المنطلقات الصينية في ذلك تنحصر في ضمان الاستقرار والأمن في إيران باعتبارها قوة محورية في غرب ووسط آسيا ومصدراً مهماً للطاقة وسوقاً كبيرة، ونشر الفلسفة الأمنية الصينية في الخارج، وليس تقديم دعم سياسي للنظام الإيراني. ومع ذلك، فإن سقوط النظام الإيراني (وصعود نظام صديق للغرب)، سواء نتيجة للاحتجاجات الشعبية أو غزو خارجي، سيمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي من وجهة نظر القيادة الصينية.

 

سادساً، من غير المرجح أن تستغني الصين عن الدور الاستراتيجي الذي تمثله إيران بوصفها عامل ضاغط على النفوذ الأمريكي في المنطقة، في محاولة لمعادلة الضغط الاستراتيجي الأمريكي على الصين في منطقة الإندو-باسيفيك.

 

الاستنتاجات

قَلقت إيران من أن تمثل القمم الصينية في الرياض بدايةً لانتقال مركز ثقل النفوذ الصيني في الخليج إلى السعودية وحلفائها الخليجيين، ومن ثم تراجع مكانتها إلى مستوى أقل في تفضيلات الصين الإقليمية، وبخاصة في ضوء تقلُّص خيارات إيران التي تعاني شراكتها مع روسيا من تحديات الحرب الأوكرانية والتمدد والانحسار في علاقات موسكو بالغرب، وتراجع الاستقرار الداخلي، وفشل المفاوضات النووية.

 

ومن دون اتخاذ الصين قراراً بلعب دور جيوسياسي في الخليج، فلن يكون من مصلحتها دعم طرف على حساب الآخر. ورغم أن استمرار الصين في التمسك بسياسة التحوط/الموازنة يبدو أمراً مرجحاً، فمن المتوقع أن تزداد كلفة هذه السياسة وصعوبتها في المستقبل؛ فكلما توسعت مصالح الصين الاقتصادية والسياسية والأمنية في الخليج، زادت التحديات أمام هذه السياسة. فضلاً عن ذلك، فإنه من الصعب كذلك محاولة الصين بناء نفوذ اقتصادي كقوة عظمى لفترات طويلة دون ممارسة نفوذ جيوسياسي.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/mustaqbal-altahawut-alsini-bayn-dual-alkhalij-alarabiya-wa-iran

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M