حافة الهاوية: سيناريوهات التصعيد في شبه الجزيرة الكورية

د. هدير طلعت سعيد

 

بعد سنوات من التهدئة النسبية، تشهد شبه الجزيرة الكورية في الفترة الأخيرة تصعيدًا عسكريًا حادًا متبادلًا بين الجارتين (كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية) فكلاهما يرد على الآخر بإطلاق الصواريخ في محاولة لإثبات القوة، وكلاهما يُحمّل مسئولية هذا التصعيد للآخر. ومن المعلوم أن التوترات بين الشمال والجنوب قائمة منذ نهاية الحرب الكورية في عام 1953 والتي انتهت بهدنة وليس بتوقيع سلام رسمي، مما يعني أن الكوريتين من الناحية الفنية لا تزالان في حالة حرب، وتظل المنطقة المنزوعة السلاح، وهي منطقة عازلة بطول 250 كم بين الكوريتين، هي الحدود الدولية الأكثر عسكرة في العالم. فضلًا عن أن التصعيد يأتي وسط طريق مسدود في المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، حيث إن المحادثات متوقفة منذ قمة هانوي في عام 2019 التي لم يحدث خلالها أي تقدم.

أولًا: مؤشرات التصعيد 

تُجري كوريا الشمالية اختباراتها الصاروخية هذا العام بدرجة غير مسبوقة، إذ اختبرت قدرات جديدة، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، وصواريخ باليستية عابرة للقارات كان آخرها صاروخ “هواسونغ -17” في 18 نوفمبر الماضي، والذي سقط داخل المياه الإقليمية الخالصة لليابان، والذي يبلغ طوله حوالي 25 مترًا. وبحسب بعض التقديرات، فهو أكبر صاروخ باليستي محمول على الطرق في العالم، ويعتقد أنه قادر على ضرب القواعد الأمريكية في غوام أو الداخل الأمريكي نفسه. وقد أثارت هذه الاختبارات الصاروخية تكهنات باستعداد بيونج يانج لإجراء تجربتها النووية السابعة، وهو ما يقلق الولايات المتحدة وحلفاءها بطبيعة الحال، فكلما عززت كوريا الشمالية قدراتها في مجال الصواريخ الباليستية والأسلحة النووية، كلما بات الوضع أكثر خطورة في شبه الجزيرة الكورية.

وفي الوقت نفسه، تتكثف المناورات العسكرية التي تجريها الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية منفردة أو بمشاركة اليابان. وما فعلته بيونج يانج من إطلاق صواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى، ردًا على المناورات الأمريكية-الكورية الجنوبية، دفع البلدين الأخيرين لإطلاق صواريخ أرض-أرض باليستية قصيرة المدى باتجاه بحر الشرق المعروف باسم “بحر اليابان”، مما أدى إلى تصعيد التوترات إلى أعلى مستوى منذ عام 2017 عندما أجرت بيونج يانج تجربتها النووية السادسة. ويزداد هذا الوضع تعقيدًا في ظل الوصول إلى حالة إجراء تدريبات على الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية التكتيكية من قبل بيونج يانج، ومن ثم السعي الكوري الجنوبي لتأمين أشد ضد هذه التهديدات، سواء كان عبر الولايات المتحدة، أو ربما بالسعي ولو في المستقبل إلى حيازة السلاح النووي أيضًا. وبحسب الجيش الكوري الجنوبي، تعد هذه المرة الأولى منذ انقسام شبه الجزيرة الكورية وتوقف معارك الحرب الكورية في عام 1953، التي يسقط فيها صاروخ كوري شمالي على هذه المسافة القريبة من المياه الإقليمية لكوريا الجنوبية، مما أطلق إنذارًا بحصول غارة جوية، فطلب من سكان جزيرة أولونغدو الكورية الجنوبية النزول إلى ملاجئ تحت الأرض.

وعلى إثر مواصلة بيونج يانج وتيرتها غير المسبوقة وحجم ونطاق إطلاق الصواريخ الباليستية هذا العام، ووسط مخاوف من أنها قد تكون على وشك استئناف تجارب القنابل النووية التي تم تعليقها منذ عام 2017، طالبت مجموعة السبع بفرض بعقوبات أممية أشد صرامة ضدها، كما كررت المطالبة بضرورة تفكيك البرنامج النووي لكوريا الشمالية بشكل يمكن التحقق منه، مشيرة إلى أن هذه البلاد المعزولة “لن تكون لها أبدًا مكانة الدولة الحائزة للأسلحة النووية”. ومن ناحيتها، أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات جديدة شملت كيانات وثلاثة أعضاء كوريين شماليين بارزين في حزب العمال الحاكم والذين أدرجهم الاتحاد الأوروبي جميعًا في قائمة عقوباته في أبريل الماضي لتورطهم ببرنامج تطوير الأسلحة في البلاد. كما أعلنت سيول أيضًا فرض عقوبات على ثمانية أفراد وسبع مؤسسات كورية شمالية اعتبرتها متورطة في برامج التطوير النووي والصاروخي لبيونغ يانغ. وردًا على استهدافها بعقوبات جديدة بسبب تجاربها الصاروخية، حذرت كوريا الشمالية من أنها ستضطر لاتخاذ “رد فعل أقوى ومؤكد”.

ثانيًا: دوافع التصعيد 

يمكن قراءة التصعيد الصاروخي الأخير من قبل بيونج يانج في إطار عدد من الدوافع، أهمها:

– تبني سياسة رد الفعل: جاء هذا التصعيد ردًا مباشرًا على التدريبات المشتركة الموسعة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، هي الأكبر منذ سنوات، والتي شملت إطلاق صواريخ أرض-أرض باليستية قصيرة المدى وذخائر من الجو على أهداف وهمية في البحر. فضلًا عن الإعلان عن عودة حاملة الطائرات الأمريكية “رونالد ريغان” -التي تعمل بالطاقة النووية- ومجموعة السفن المرافقة لها إلى مياه شبه الجزيرة الكورية لردع التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية بجانب منظومة الصواريخ الأمريكية “ثاد” المنتشرة في المنطقة. هذا بالإضافة إلى زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس زيارة إلى سيول، في 29 سبتمبر الماضي، وتوجيهها انتقادات حادة لكوريا الشمالية، ووصفها بأنها دولة تجمّعت لديها “دكتاتورية وحشية” وبرنامج أسلحة غير قانوني وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، مؤكدة على التزام بلادها الثابت بالدفاع عن كوريا الجنوبية في مواجهة جارتها الشمالية، وجميعها تحركات تعتبرها بيونج يانج استفزازية وتمثل تهديدًا للاستقرار في المنطقة.

– تحقيق قدر أكبر من الردع: تحاول بيونج يانج من خلال هذه الاختبارات إظهار قدراتها على اتخاذ ضربات وقائية / استباقية لصد أي هجوم محتمل ضدها، خاصة مع توجه واشنطن وسيول لتطوير قدرات الردع الاستراتيجي واستعدادهما لتنفيذ ضربات وقائية على مواقع إطلاق الصواريخ ومنشآت القيادة والدعم وأهداف أخرى في كوريا الشمالية إذا لزم الأمر. لذا تعهّدت عقيدة كوريا الشمالية النووية الجديدة، التي تم الكشف عنها في سبتمبر الماضي، بشنّ ضربات نووية تلقائية على أعدائها إذا تعرضت قيادتها والسيطرة على القوات النووية الحكومية للخطر أو التهديد. وبالتالي، تأمل بيونج يانج أن تؤدي مثل هذه الاختبارات المكثفة إلى تفكير واشنطن وسيول مرتين قبل استهداف قيادة البلاد، لا سيما بعد تحذير مسئولين أمريكيين وكوريين جنوبيين مرارًا خلال الأسابيع الماضية، من أن كوريا الشمالية تستعد لإجراء تجربة نووية “في أي وقت”، والتعهد برد مشترك غير مسبوق، ودعوة الصين –وهي أقرب حليف لكوريا الشمالية- لإقناع بيونج يانج بالتراجع عن إجراء مثل هذه الاختبارات، وتحريك الحوار بشأن نزع السلاح النووي.

من ناحية أخرى، تبرهن هذه الاختبارات الصاروخية على أن الرئيس كيم يمضي قدمًا في تنفيذ خطته العسكرية الخمسية التي تم الكشف عنها في مؤتمر حزب العمال الثامن في يناير 2021، والتي تهدف ليس فقط لتطوير مجموعة من الأسلحة الجديدة ومنها القنابل النووية الأصغر حجمًا والصواريخ القصيرة المدى لحملها فحسب، بل التدريب على استخدامها أيضًا.

– تعزيز شرعية النظام في الداخل: يحاول الرئيس “كيم جونغ أون” من خلال هذا التصعيد، تعزيز الولاء الشعبي الداخلي للنظام الحاكم، لا سيما في ضوء الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، هي الأسوأ منذ أكثر من 25 عامًا، والتي تأتي على خلفية العقوبات المستمرة منذ عقود وتداعيات Covid-19، وتباطؤ الإنتاج الصناعي، فضلًا عن الفشل في التعامل مع التحديات البيئية المرتبطة بالتغيير المناخي. ويريد الرئيس كيم أيضًا أن يثبت للداخل أنها بلاده لن تنحني أمام الضغوطات الخارجية، مع تذكير شعبه بأن بلادهم مستهدفة ومحاطة بجوار يعاديها، خاصة بعد المحاولات الأخيرة لاختراق الداخل من قبل بعض القوى الخارجية ونجاح بلاده في السيطرة على حرب المعلومات، مما سيسمح لها بتوحيد الجبهة الداخلية. كما أن إطلاق سيل من التهديدات يستهدف الولايات المتحدة سيجعل الرئيس كيم جونغ أون يظهر بمظهر الزعيم القوي أمام شعبه.

– محاولة صياغة آلية جديدة للتفاوض: تتبع كوريا الشمالية تكتيــكات سياســة حافــة الهاويــة وأســلوب التصعيد من أجل الضغط على الولايات المتحدة للعودة إلى المحادثات والتفاوض لكن بشروطها الخاصة وفق صيغة جديدة قائمة على قبول فكرة أن كوريا الشمالية باتت قوة نووية بحكم الأمر الواقع، وإنهاء ما تعتبره بيونج يانج سياسات أمريكية عدائية / معادية لها سواء ما يتعلق بتعليق التدريبات المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان، أو تخفيف العقوبات الاقتصادية مقابل التراجع عن التصعيد النووي، وليس مقابل التخلي عن أسلحتها النووية.

– اختبار القيادة الجديدة في كوريا الجنوبية: تستهدف بيونج يانج من جراء التصعيد قياس رد فعل القيادة المحافظة الجديدة في سيول برئاسة “يون سيوك يول” ومدى حزمها في التعامل مع تهديدات الجار الشمالي، خاصة وأنها تتبع نهجًا متشددًا نسبيًا مقارنة بالإدارات السابقة تجاه تجاربها النووية والصاروخية والعودة لوصفها “بالعدو”، مع كل ما يترتب على مثل هذا التوصيف من استعدادات وتجهيزات سواء على الصعيد الوطني أو بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من القوى، وكذلك التحرك على الصعيد الدولي. فضلًا عن إعادة تفعيلها استراتيجية “سلسلة القتل”، التي تتضمن شن ضربات احترازية / وقائية ضد جارتها الشمالية في حالة استشعار وقوع هجوم عسكري وشيك عليها، والتي طرحت لأول مرة عام 2010، وذلك لمواجهة التهديد النووي الكوري الشمالي.

– استثمار تحولات النظام الدولي: يرتبط التصعيد الكوري الشمالي بما يجري من تحولات في النظام الدولي، حيث أشار الرئيس كيم في خطاب ألقاه في سبتمبر الماضي إلى أن “التغيير من عالم أحادي القطب الذي دعت إليه الولايات المتحدة إلى عالم متعدد الأقطاب يتم تسريعه بشكل كبير. وبالتالي يحاول نظام بيونج يانج تقديم نفسه كرقم مهم في التوازنات العالمية الجديدة مع التبشير ببزوغ بلاده كقوة نووية كبرى، وعودة ملف كوريا الشمالية إلى دائرة الاهتمام العالمي بعدما تراجع نسبيًا مقابل ملفات أخرى أهمها الحرب الروسية الأوكرانية والخلافات مع الصين بشأن تايوان، وبعدما نفد صبره بعد تعثر المحادثات التي تهدف إلى الحد من تلك العقوبات لفترة طويلة. من ناحية أخرى، تحاول بيونج يانج الاستفادة من التوترات والانقسامات بين القوى الكبرى من خلال الحرص على توثيق العلاقات مع المعسكر الصيني الروسي الحليف لها كمحاولة لتفادي العقوبات الغربية المستمرة ضدها من الغرب من ناحية، والتأكيد على عالم متعدد الأقطاب وانتهاء عصر الهيمنة الأمريكية الأحادية من ناحية أخرى.

دروس الحرب الروسية الأوكرانية: يبدو أن الرئيس كيم قد استفاد من درس الحرب الروسية الأوكرانية وما برهنته حول القيمة الاستراتيجية للأسلحة النووية وجدوى امتلاكها كرادع والضمانات الأمنية كأحد شروط التخلي عنها. لقد تنامى إدراك بيونج يانج لقيمة الأسلحة النووية في ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا التي أعادت شبح التهديد مجددًا عندما لوّحت موسكو باستخدام السلاح النووي لردع الولايات المتحدة والقوى الغربية عن التدخل لدعم أوكرانيا. كما أن حذر الولايات المتحدة من التورط المباشر في الحرب هناك، وكذلك قرار أوكرانيا في عام 1994 بتسليم الأسلحة النووية المتبقية في البلاد بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وروسيا، عزز على الأرجح قرار بيونج يانج بالتركيز بشكل أكبر على التمسك بتسريع تطوير أسلحتها النووية واستعراض قوتها وقدراتها الاستباقية لتحقيق قدر أكبر من الردع.

ثالثًا: دلالات التصعيد 

في إطار الدوافع المشار إليها سلفًا، يمكن القول إن التصعيد الصاروخي الأخير لبيونج يانج يحمل عددًا من الدلالات والرسائل، يتمثل أهمها فيما يلي: 

– التمسك الحازم بالتسلح النووي الكامل، وأن الترسانة النووية لم تعد قابلة للتفاوض: تحاول بيونج يانج إرسال رسالة مفادها أنها ليست فقط تملك السلاح النووي، لكنها تملك قوة الردع الصاروخية الباليستية على مثل هذه الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، وبالتالي أي عمل عسكري من قبل الولايات المتحدة أو حليفتها كوريا الجنوبية سيكون هناك رد صارم وقاسٍ من قبل كوريا الشمالية. كما أنه ليس من الوارد أن تتخلى عن أسلحتها النووية كما تطالب واشنطن، فوضع أسلحتها النووية لا رجعة فيه، وبالتالي على الولايات المتحدة تقبلها كقوة نووية. وإذا كان هناك إمكانية للتفاوض مرة أخرى فسيكون مشروطا بإيقاف السياسات العدائية الأمريكية من تعليق التدريبات العسكرية المشتركة مع سيول وطوكيو، وتخفيف العقوبات الاقتصادية وتقديم ضمانات أمنية، وسيكون مقابل التراجع عن التصعيد النووي، وليس مقابل التخلي عن أسلحتها النووية كما أشرنا سلفًا.

– العقوبات لا تغير السياسات، إذ إن العقوبـات المتتالية التـي تـم فرضهـا علــى كوريــا الشــمالية بســبب التجــارب الصاروخيــة والنوويــة التـي أجرتهـا فـي السـابق وكذلك الضغط الأمريكي المستمر على الحلفاء الذين تربطهم علاقات اقتصادية أو عسكرية بكوريا الشمالية لتجميد هذه العلاقات من أجل عزل نظام كيم جونج أون، ووقف تدفق الأموال التي يستخدمها عادةً في تمويل برنامجه النووي والصاروخي لإجبارها على تغيير سياستها لـم تثنهـا عـن المضـي قدمـًا في تطوير برنامجهـا النـووي والصاروخـي كما هدفت في الأساس.

رفض سياسة المعايير المزدوجة: ترفض كوريا الشمالية ازدواجية المعايير في الدفاع عن النفس والاستفزازات من سيول وواشنطن. ففي حين ينظر الكثيرون في سيول وواشنطن إلى التدريبات العسكرية لكوريا الشمالية – وتحديدًا تجاربهم الصاروخية – على أنها هجومية واستفزازية، ينظرون إلى نشرهم الأمامي للأصول الاستراتيجية وأي زيادة في وتيرة وشدة التدريبات العسكرية المشتركة والتدريب على أنها مبررة للدفاع. مثال آخر هو دعوة كوريا الشمالية طويلة الأمد لإنهاء سياسة الولايات المتحدة “العدائية” التي تهدد بقاء كوريا الشمالية وتعيق حق شعبها في التنمية. ومع ذلك، فإن موقف الولايات المتحدة هو أنه ليس لديها أي نية عدائية تجاه كوريا الشمالية. وبالتالي ترى بيونج يانج أن النزعة الأحادية والافتقار إلى التعاطف الاستراتيجي معها وعدم أخد مخاوفها الأمنية الرئيسية في الاعتبار كان المصدر الأساسي لفشل السياسة مع كوريا الشمالية، وبالتالي هناك حاجة إلى نوع من الفهم الذاتي المتبادل لكوريا الشمالية إذا كانت هناك رغبة في العودة لاستمرار الحوار.

البحث عن خيارات بديلة: إذ إن هنـاك حاجـة إلـى تبنـي سياســات وتدابيــر جديــدة خاصــة بعد فشل سياسة “الصبر الاستراتيجي” الأمريكية وإخفاق سياسة العقوبات في تحقيق جدواها. كما أن تبنــي السياســات نفســها يكشــف عــن محدوديــة الخيــارات المطروحــة أمــام القــوى الإقليمية والدولية للتعامل مع بيونج يانج، خاصة أنه من غير المتوقع أنها ستتراجع عن سلوكها. لكن من الواضح أن إدارة بايدن تتبع نهجًا محدثًا من نهج “الصبر الاستراتيجي” الذي اتبعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حيث استخدمت واشنطن النهج ذا الشقين بشأن كوريا الشمالية بالجزرة (الحوار غير المشروط)، والعصا (توسيع التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان، وفرض المزيد من العقوبات).

رؤية استشرافية

يمكن استشراف مستقبل التطورات الأخيرة في شبه الجزيرة الكورية وفقًا لعدد من السيناريوهات:

– السيناريو الأول: التوجه نحو مزيد من التصعيد المتبادل أي مواصلة اختبار التجارب الصاروخية، واستمرار تعزيز التعاون الاستخباراتي الأمريكي والمناورات المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان، وفرض عقوبات اقتصادية إضافية، واستمرار الإدانات الدولية ضد بيونج يانج. ومما يعزز هذا السيناريو أن التجربة الصاروخية الأخيرة التي مرت فوق الأراضي اليابانية تؤكد أن كوريا الشمالية ماضية في مسار تصعيدي مفتوح، وكلما طال أمد هذا النزاع تواصل الاستفادة من الوقت لتحسين قدراتها. فضلًا عن إصرار واشنطن على “الحوار غير المشروط”، وكذلك اتهامها بدعم روسيا عسكريًا في الأزمة الأوكرانية، وتنامي أزمة ثقة بين الجارتين الشمالية والجنوبية، إذ يتبنى الرئيس الكوري الجنوبي الحالي نهجًا متشددًا تجاه كوريا الشمالية مقارنة بمن سبقه الذي كان حريصًا على التهدئة حتى ولو كانت كوريا الشمالية تتبنى التصعيد. كما أن توتر علاقات الولايات المتحدة مع روسيا والصين سيقلل من احتمال تعاونهما مع واشنطن لكبح تهديدات كوريا الشمالية. علاوة على ذلك، استمرار واشنطن وسيول في استخدام النهج القديم ذي الشقين لمعالجة التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، تكثيف الاستعدادات العسكرية جنبًا إلى جنب مع عروض الحوار.

– السيناريو الثاني: التوجه نحو التهدئة النسبية عبر قيام الولايات المتحدة بتحركات دبلوماسية وتقديمها بوادر حسن نية لكوريا الشمالية وإعادة تقييم مطالبها الأساسية بطريقة موضوعية كمحاولة لتهدئة الوضع، إذ لا يعني التصعيد المتبادل الاستبعاد المطلق للتفاوض، ورغم كل ما حدث وقيل تظل إمكانية التفاوض قائمة. لكن يتوقف تحقيق أي انفراجة في هذا السيناريو على تبني واشنطن وسيول نهجًا أكثر واقعية تجاه كوريا الشمالية والاعتراف والقبول بها كدولة “طبيعية” في المنطقة، بل والتكيف معها كدولة نووية بحكم الأمر الواقع مقابل تخليها بشكل نهائي عن برنامجها النووي وبرامج التسلح الأخرى. وبالتالي يصبح نزع السلاح النووي هدفًا وليس شرطًا مسبقًا للتفاوض. فضلًا عن إعادة النظر في مطالبها الأساسية عبر تقديم ضمانات أمنية، وتعليق التدريبات العسكرية المشتركة والتدريب، وتخفيف العقوبات الاقتصادية وعدم نشر الأسلحة الاستراتيجية، وعدم ربط التفاوض بمسألة حقوق الإنسان، واعتماد إعلان إنهاء الحرب، وتحويل اتفاقية الهدنة إلى اتفاقية سلام.

لكن تحقيق هذا السيناريو مستبعد نسبيًا في الوقت الحالي نظرًا لأن جميع الجهات الفاعلة المعنية تبدو أكثر اهتمامًا بالردع بدلًا من الدبلوماسية، فضلًا عن التمسك الأمريكي “بالحوار غير المشروط” وهو ما ترفضه بيونج يانج صراحة، كما أن الإدارة الأمريكية لا تنظر لقضية كوريا الشمالية على أنها أولوية بالنسبة لها في الوقت الحالي، وهدفها الرئيسي هو الحفاظ على الوضع الراهن في شبه الجزيرة الكورية مع إعطاء أولوية للصين خاصة في ملف تايوان. كما أن تقاربًا مع بيونج يانج سيُفقد الولايات المتحدة سبب تواجدها العسكري المكثف في المنطقة في وقت تحاول العودة فيه بقوة إلى آسيا. وبالتالي يصبح السيناريو الأول هو الأقرب للواقع، فجميع الظروف مهيأة لرد فعل متسلسل من الخطوات التصعيدية المتبادلة كما أشرنا، وعليه ستستمر بيونج يانج في نفس المسار من خلال إستكمال المراحل التحضيرية لتجربتها النووية السابعة، وتطوير برامج صواريخ أكثر تقدمًا، وعرض أسلحة نووية أكثر تطورًا في السنوات المقبلة.

وأخيرًا، استنادًا لمعطيات الواقع الراهن يمكن استنتاج أن التصعيد في شبه الجزيرة الكورية سيزال قائما وإن اختلفت درجة حدته من فترة لأخرى. وبالتالي فإن هذا التصعيد لن يكون الأخير والأزمة الناتجة عنه لا تعدو أن تكون أزمة عابرة كسابقتها، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أن بيونج يانج معروفة باتباع ما يُعرف بسياسة “حافة الهاوية” التي تتقنها جيدًا، مع يقينها بأن الهجوم على واشنطن أو سيول سيجلب عليها ردًا قد يهدد بقاء النظام، وأن انجرار الصين إلى الحرب ضد شركائها التجاريين يبقى احتمالًا ضئيلًا. غير أن احتمال اندلاع حرب شاملة في المنطقة، كنتيجة لتقديرات خاطئة من أحد الجانبين وليس عن اختيار مسبق، يبقى قائمًا وإن كان ضعيفًا. ويبقى السؤال الأهم عما إذا كان لدى واشنطن (الطرف الرئيسي المتحكم في قواعد اللعبة في المنطقة) الإرادة السياسية لمعالجة هذا الوضع، خاصة وأن خطة كوريا الجنوبية لا تعالج المخاوف الأمنية لكوريا الشمالية ومطالبها بتخفيف العقوبات وكلاهما في أيدي الولايات المتحدة إلى حد كبير.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/31973/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M