اختُتمت فعاليات الدورة السادسة والعشرين من منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي يوم السبت 17 يونيو 2023. وشارك فيها حوالي 17 ألف شخص من 130 دولة مختلفة. وحلت دولة الإمارات كضيف شرف لهذه النسخة من المنتدى، وهو الدور الذي لعبته مصر في الدورة السابقة الخامسة والعشرين في 2022. وشهد المنتدى نجاحًا كبيرًا؛ إذ كانت حصيلته توقيع أكثر من 900 اتفاقية بقيمة 3.860 تريليونات روبل (ما يعادل 46 مليار دولار) بين روسيا والعديد من الدول والشركات، بما في ذلك 43 اتفاقية مع شركات من دول غير صديقة مثل إيطاليا وإسبانيا.
رسائل قوية
ألقى الرئيس الروسي بوتين خطابًا في المنتدى يوم الجمعة 16 يونيو 2023، أرسل من خلاله العديد من الرسائل في مختلف القضايا، وبدأ حديثه بالتأكيد على قوة الاقتصاد الروسي بالرغم من العقوبات القاسية وغير العادلة –كما وصفها- المطبقة من الدول الغربية على موسكو؛ فقد زاد الناتج المحلي الروسي بنسبة 3.3% في أبريل الماضي، وانخفض التضخم ليصل إلى 2.2% وهي نسبة أقل بكثير من بعض الدول الغربية ودول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشير بوضوح إلى تأثر الدول الغربية بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب والعقوبات المطبقة على روسيا أكثر من موسكو.
وأشار بوتين بشكل غير مباشر إلى قضية اتفاقية حبوب البحر الأسود، وهي القضية التي أثارت قلق الكثير من الدول المستفيدة منها، خاصة الدول الفقيرة؛ بسبب الخوف من انسحاب روسيا من الاتفاقية التي تنتهي في شهر يوليو 2023. وبالرغم من عدم الإشارة إلى الاتفاقية بشكل مباشر، فإن تأكيد الرئيس الروسي على مساعدة موسكو في البرامج الغذائية للدول الأفريقية التي تعاني من الفقر –وهي الدول التي تخدمها الاتفاقية بشكل مباشر- يشير إلى استعداد روسيا للاستغناء عن الاتفاقية في أي وقت، ولكنه بالطبع لا يؤكد هذا الاتجاه.
ومن جانب الحرب الروسية الأوكرانية، فأوضح بوتين ثقته في الموقف الروسي من الأزمة، وأن القوات الروسية مستعدة لأي تطورات وصد أي هجمات من القوات الأوكرانية مهما بلغ مستوى المساعدات الغربية، حيث قال “ستحترق طائرات F-16 (الأمريكية) كما احترقت دبابات ليوبارد (الألمانية)”. وأكد أيضًا على نشر الأسلحة النووية في بيلاروسيا للاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية في حال شعر الكرملين بالتهديد على الأمن الوطني الروسي. وبالرغم من تأكيد بوتين على الاستعداد الروسي الكامل لاستخدام القوة النووية، فإنه حرص في نفس الوقت على توضيح عدم غلق باب محادثات السلام بأي درجة من الجانب الروسي.
ولم يكن خطاب الرئيس الروسي هو الرسالة الوحيدة الموجهة للعالم؛ إذ إن نجاح المنتدى بشكل عام يمثل في حد ذاته رسالة من روسيا بقوتها على كافة المستويات، ومنها الاقتصادية، وأنها من الصعب أن تختفي من على الساحة العالمية، وهو ما يشير إلى قدرة موسكو على الصمود لفترة أطول في ظل ضغوط الأزمة الاقتصادية التي لم تظهر آثارها السلبية على روسيا بعد. وكذلك فإن مشاركة أكثر من 150 شركة من 25 دولة غربية غير صديقة لروسيا ومن الدول التي طبقت العقوبات عليها أكدت احتياج هذه الدول إلى استدامة التعاون الاقتصادي مع روسيا بعد عدم عثورها على بديل مناسب لتعويض الشراكة التجارية والاقتصادية مع روسيا إلى الآن.
مكاسب متنوعة
مكاسب داخلية: كشف منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي عن الأسباب التي جعلت الاقتصاد الروسي لا ينهار بعد تطبيق العقوبات الأوروبية؛ إذ إن اتجاه روسيا إلى الشرق بدلًا من الغرب المعادي لها حاليًا فتح لها أبواب علاقات تجارية واقتصادية مع العديد من الدول في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. وسمح هذا التوجه الجديد لموسكو ليس فقط بتخفيف النتائج السلبية الناجمة عن العقوبات، لكن أيضًا فتح بابًا جديدًا لازدهار اقتصادي مع الدول التي تراها روسيا “ودودة” كما وصفها وزير التجارة والصناعة الروسي دينيس مانتوروف.
كشف “بوتين” كذلك أن انسحاب الكثير من الشركات والعلامات التجارية الغربية من روسيا كان سببًا رئيسًا في ازدهار الاقتصاد الداخلي؛ إذ إن خروج الشركات الأجنبية أفسح مجالًا للشركات المحلية للزيادة والازدهار. وأوضح كذلك أن معظم العلامات التجارية المشهورة عالميًا والمنتشرة في الأسواق المحلية والعالمية تستخدم في الأصل البضائع الروسية، مما أدى إلى عملها بشكل طبيعي بعد الانسحاب من روسيا ولكن تحت أسماء مختلفة ولكن أرباحها أصبحت داخلية في صالح الاقتصاد الروسي بدلًا من هذه الشركات.
مكاسب خارجية: سمح المنتدى لموسكو بزيادة العلاقات والاتفاقيات الاقتصادية مع الدول الشرقية؛ إذ إن معظم الصفقات المبرمة المقدرة قيمتها بأكثر من 46 مليار دولار كانت بالعملة الوطنية لروسيا (الروبل)، ويساعد هذا الاتجاه الجديد الكثير من الدول الشرقية في تخفيف التعاملات بالدولار واستبدالها الروبل الروسي أو اليوان الصيني بها. وقد دخل بالفعل هذا الاتجاه حيز التنفيذ، خاصة في الدول التي تملك احتياطيًا منخفضًا من الدولار الأمريكي. لا يفيد هذا الاتجاه الاقتصادي الروسي فحسب، ولكن له فوائد استراتيجية أيضًا بالنسبة لموسكو؛ إذ إن تهديد العملات الغربية سواء الدولار أو اليورو سيكون عامل ضغط كبير على الدول الغربية في دعمها لأوكرانيا في الأزمة الحالية.
وفي السياق ذاته، جرى إحراز تقدم كبير في اتفاقية التجارة الحرة بين موسكو وطهران، فصرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن زيادة الاستثمارات الداخلية ساعدت في تطوير شبكات نقل البضائع التجارية مع دول آسيا والشرق الأوسط، وسيتم الانتهاء من عمل شبكة تربط السكك الحديدية بالطرق البرية والسفن خاصة بين روسيا وإيران وأذربيجان، مما يساعد بشكل أكبر في تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة. ولن تقتصر فقط على إيران؛ إذ تريد روسيا أيضًا توقيع اتفاقيات مماثلة مع الصين والهند والإمارات ومصر وإندونيسيا، والعمل على شبكات تجارة حرة بين هذه البلدان لتعويض شراكة موسكو التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي.
وعلى هامش المنتدى، اجتمع الرئيس الروسي مع نظيره الإماراتي، وأكد كلاهما على أهمية زيادة العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وأشار “بوتين” إلى أهمية دور الإمارات في الشرق الأوسط عمومًا، وأن تعاون روسيا مع الدول الرائدة في المنطقة مثل مصر والإمارات والسعودية سيكون هو البوابة النمو والازدهار الاقتصادي في المنطقة.
مكاسب استراتيجية: لا تمثل هذه المكاسب الروسية نجاحات اقتصادية فقط؛ إذ إن التوجه الجديد للتعاون الاقتصادي بين الدول الشرقية بدلًا من الاعتماد على الدول الغربية، يخدم هدف موسكو الذي أكده الكثير من المسؤولين في روسيا وهو الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث لا يسيطر الغرب على العالم من خلال العولمة، وهو الهدف الذي تصبو إليه دول عديدة حول العالم وخاصة من الدول النامية؛ لأن عالم متعدد الأقطاب يعني احتمالات تحقيق شراكات اقتصادية تنافسية أكثر ربحًا.
ويمثل هذا الاتجاه ضغطًا هائلًا على الدول الغربية؛ فاقتصادات الدول الغربية تعاني بالفعل بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن الحرب، بالإضافة إلى استنزاف الموارد العسكرية والتكنولوجية في دعم الجانب الأوكراني والذي لم يأت بثماره المرجوة إلى الآن. وكانت الدول الغربية-خاصة الولايات المتحدة- تهدف إلى إضعاف الاقتصاد الروسي وتخفيف الاعتماد الأوروبي على موسكو بعد انتهاء الأزمة، لكن في حال نجاح هذا التوجه الجديد ستأتي الخطط الغربية بنتائج عكسية بشكل واسع. وتأمل روسيا في تخفيف الدول الغربية لمساعداتها لأوكرانيا بسبب التخوف من هذا التوجه، بالإضافة إلى تغيير شكل الخريطة الاقتصادية العالمية فيما بعد بشكل يضع روسيا في المقدمة برفقة الصين.
ختامًا، لم يكن منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي رسالة على الصمود الاقتصادي لروسيا فحسب، لكن من الممكن اعتباره -من الجانب الروسي- بوابة لطريق جديد بإمكانه انهاء سيطرة الدول الغربية على الاقتصاد العالمي، فبالرغم من أن المسؤولون الروس أكدوا على استعداد موسكو لقبول عودة العلاقات الاقتصادية مع الدول الأوروبية الراغبة في ذلك، إلا أن في حال هذه العودة ستكون روسيا هي المحرك الأساسي وليست الولايات المتحدة أو أي دولة غربية، فقال الرئيس الروسي “نرحب بعودة العلاقات الاقتصادية مع أي دولة أوروبية تدرك أن هذا في مصلحتها الاقتصادية، وتبتعد عن تنفيذ أهداف الولايات المتحدة الجيوسياسية” في إشارة منه إلى أن عودة هذه العلاقات ستكون مشروطة بالشكل الجديد الذي تهدف إليه موسكو وليس كما كان الوضع القديم.
ومن ناحية أخرى إذا نجحت أهداف روسيا في زيادة العلاقات مع الدول الشرقية التي من شأنها النهوض بموسكو وهذه الدول اقتصاديًا، من الممكن أن ينتج عنه شكل جديد أكثر تنافسية للاقتصاد العالمي وانقضاء عهد السيطرة الغربية عليه، وهو ما كانت تحاول الدول الغربية منعه من خلال مساعدتها لأوكرانيا في الحرب وتطبيق العقوبات الاقتصادية على موسكو. ومن الأكيد أن الكثير من محاولات التعاون الاقتصادي ستنجح وتأتي بنفع كبير سواء لموسكو أو لسائر الدول النامية، لكن مع ذلك ما زال من غير المؤكد نجاح المخططات الروسية بشكل كامل.
.
رابط المصدر: