احتجاجات فرنسا.. الأسباب والمآلات

د. وفاء صندي

اثار مقتل نائل (17 عاما)، وهو مواطن فرنسى من أصل جزائرى، على يد ضابط شرطة اثناء تدقيق مرورى، الكثير من الغضب، خاصة فى صفوف المهاجرين. وادى الى اندلاع الشغب والنهب والعنف فى كبريات المدن الفرنسية. رغم قيام السلطات الفرنسية بنشر ازيد من 45 ألف شرطى ورجل أمن، فإن ذلك لم يمنع استمرار الاحتجاجات لأزيد من خمسة أيام، بينما بلغت تكلفة الخسائر فى الممتلكات العامة فى باريس نحو 20 مليون يورو، ونحو 35 مليون يورو فى الممتلكات الخاصة، وتم اعتقال أزيد من 2000 شخص، وإصابة 200 من رجال الشرطة.

الاحتجاجات الأخيرة، وإن أشعل فتيلها مقتل نائل، فإن سببها الرئيسى يعود لحالة الاحتقان التى يعيشها الفرنسيون من أصول عربية وإفريقية نتيجة استفحال الظلم والتهميش، وغياب العدالة وانعدام المساواة، وارتفاع معدلات الفقر بسبب جائحة كورونا والحرب الأوكرانية والتضخم، وتغول أجهزة الشرطة، وغياب رؤية واضحة وطموح سياسى حقيقى لإنهاء هذه الأزمات وحلها من جذورها.

تشهد فرنسا عنصرية متنامية داخل مؤسسة الشرطة. دقت دراسة منذ عام 2009 ناقوس الخطر بخصوص هذا الشأن. وقد اعتمدت على مواقع المراقبة، بحيث كان احتمال توقيف السود أكثر بنحو 3.3 إلى 11.5 مرة من البيض. وأشارت الدراسة الى ان العرب تعرضوا لمخاطر أكثر بنحو 1.8 إلى 14.8 ضعف ما تعرض له البيض من التوقيف من قبل الشرطة. هذا يعنى ان هناك تصورا مسبقا لدى عناصر الشرطة ان الشخص غير الأبيض يشتبه فيه أكثر من الرجل الأبيض، وهو افتراض يولد الكره ويشجع على استخدام القوة بشكل متزايد.

بالإضافة الى مشكلات الهوية والعنصرية المقيتة، تعانى فرنسا ضعف الميزانية المخصصة للأحياء الشعبية. رغم ان برنامج «سياسة المدينة»، الذى تم اعتماده سنة 1990، راهن على تحديث الأحياء الشعبية من أجل احتواء المشكلات والتوترات المحتملة وتحسين أوضاع الاهالي. رغم ان هذا البرنامج غيّر المشهد فى العديد من المدن، وغيّر وجه عدد لا بأس به من الأحياء الريفية والفقيرة، فإنه لم ينجح فى حل مشكلات وإدماج أفقر السكان، ولا فى تزويد الأحياء ذات الأولوية بخدمات عامة من صحة وتعليم وعمل على غرار باقى المناطق. ولم يستطع القضاء على التمييز فى الحصول على السكن اللائق، ولم يستطع فرض تكافؤ الفرص ولا تحسين العلاقة مع الشرطة، ما خلف تزايد الشعور بالظلم.

أنفقت فرنسا بين 2004 و2020 مبلغ 12 مليار يورو على برنامج سياسة المدينة، كما خصصت 12 مليار يورو إضافى لبرنامج ثان ينفذ حتى عام 2030. لكن ما يمنح للضواحى والمناطق الريفية من موارد هو أقل بـ4 أضعاف مما يقدم لأى مكان آخر، بالمقارنة بعدد السكان. هذا يعكس فشل السياسات الحكومية فى مجال الإسكان، وكذلك فشل السياسة الوطنية فى معالجة انعدام المساواة. ويعكس ايضا غياب الإرادة السياسية فى إصلاح وتغيير الواقع. فى عام 2018، رفض الرئيس ماكرون تقريرا إصلاحيا للمناطق الشعبية يتمحور حول التعليم والعمل ومكافحة التمييز، بما يتجاوز مفهوم تحديث المدن بالشكل الذى هو عليه الآن.

بعد مقتل نائل، اتهمت الأمم المتحدة قوات الأمن الفرنسية بالعنصرية الممنهجة. وشعر المحتجون السلميون بعدم الأمان بسبب المواجهات المنتظمة مع الشرطة. ويتوقع الفرنسيون استمرار خطر اندلاع العنف إذا بقيت العلاقات بين السلطات والمجمعات السكنية التى يقطن اغلبها المهاجرون، من دون تغيير حقيقى، كما حدث مرات عديدة كان الأمر فيها يحتاج فقط لاندلاع الشرارة الأولى حتى تشتعل النار مجددا.

فرنسا تواجه تحديات غير مسبوقة تهدد أمنها واستقرارها فى فترة ربما تكون هى الأسوأ فى تاريخها الحديث على الصعيد السياسى والاقتصادى والاجتماعى. الازمة الراهنة ستضعف ماكرون اكثر سياسيا بعدما اتهمه اليسار بإهمال الفقراء والمهمشين، وطالبه اليمين باتخاذ إجراءات صارمة ضد العنف، وفرض حالة الطوارئ فى جميع أنحاء البلاد. اما الرأى العام الفرنسى فيشعر بعدم الرضا على سياسات الحكومة، والقلق من أن احتجاجات كهذه قد تشعل غضبا أكبر فى الشوارع وتزيد من تشويه صورة ومكانة فرنسا الدولية.

تبدو فرنسا فى حاجة ملحة للتخلى عن نظرتها الاستعلائية والاستعمارية تجاه المهاجرين، وجعل محاربة الشعور بالتهميش والإهمال من قبل أفقر السكان أولوية وطنية، وتخفيف شروط استخدام الشرطة للأسلحة، وتبنى سياسات تعزز الانتماء والاندماج لكل الفرنسيين.

نقلا عن الأهرام

 

.

رابط المصدر:

https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/905877.aspx

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M