قراءة نقدية في كتاب: “النموذج المفقود: من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة”

دفع الاعتقاد بأن إسرائيل تسيطر مؤقتًا على الأراضي التي استحوذت عليها قبل 53 عامًا في حرب الأيام الستة – الضفة الغربية وقطاع غزة– الخبراء والسياسيين والناس العاديين إلى التفكير بأن المستقبل الأفضل سوف ينطوي على تقسيم البلاد إلى قسمين، لكن بعد مشاهدة الدبلوماسيين والسياسيين يفشلون مرارًا وتكرارًا في التفاوض على مسار يؤدي إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية منفصلتين، أصبح هنالك حاجة إلى إعادة التفكير بطرق مختلفة.

فى هذا السياق، يجادل ” إيان إس لوستيك” أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، فى كتابه المعنون: “النموذج المفقود: من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة”، بأن خيار حل الدولتين أصبح محكومًا عليه بالفشل، بسبب عده إخفاقات إسرائيلية: أبرزها استراتيجية “الجدار الحديدي” المتمثلة في معاملة العرب كعدو يمكن التسوية معه،  بجانب استخدام “الهولوكوست” أو “المحرقة” كنموذج للحياة اليهودية، فضلًا عن هيمنة “اللوبي الصهيوني” على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.

فى المقابل، يوصي “لوستيك” بالتخلي عن فكرة الدولة الفلسطينية بالكامل وضرورة تحويل الاهتمام من مخططات الدولتين التي لا توفر خريطة للعمل الواقعي، والتركيز بدلًا من ذلك على “واقع الدولة الواحدة” لإسرائيل كدولة لكل من اليهود والعرب، مؤكدًا بأن مثل هذه الدولة الوحدوية ستؤدي إلى تحالفات بين المجموعات اليهودية والعربية ذات وجهات النظر السياسية المتوافقة.

أولًا: فشل استراتيجية الجدار الحديدى

أشار الكاتب إلى أن نظرية “الجدار الحديدي” التي قدمها جابوتنسكي مؤسس الحركة الصهيونية اليمينية التصحيحية، والتي تبنتها كل بقية الحركة الصهيونية تقريبًا تجاه السكان الأصليين في فلسطين حتى يستسلموا لواقع الاستيطان الصهيوني ويكونوا على استعداد لصنع السلام مع المستوطنين، لأنها تشير إلى خطة للانتقال من الرفض العربي القاطع للصهيونية إلى تسوية تفاوضية على أساس تلبية الحد الأدنى من متطلبات الصهيونية، باءت بالفشل لأن جابوتنسكي وأتباعه فشلوا في إدراك أن انتصارات إسرائيل المتعاقبة والحاسمة من شأنها أن تدفع علم النفس والسياسة اليهودية نحو مطالب أكثر تطرفًا لتحقيق الأهداف الصهيونية، ناهيك عن فشل الصهيونية الأصلية من الأساس في تلبية المتطلبات العربية.

بمعنى آخر، كان جابوتنسكي مخطئًا في اعتقاده أنه بعد القتال والانتصار في العديد من الحروب الدموية مع العرب، فإن اليهود سيظلون على استعداد للتوصل إلى تسوية، فبدلًا من ذلك، وبطبيعة الحال، زادت المطالب الصهيونية من العرب، وكانت النتيجة غير المقصودة هي الضم الفعلي والاستيطان الكثيف في الضفة الغربية وواقع الدولة الواحدة.

ثانيًا: تكلفة الهولوكوست

نوه الكاتب إلى ضرورة التركيز على الطريقة التي تم بها فهم المحرقة في إسرائيل بالإضافة إلى الدروس المستفادة منها، والتي انعكست في شعارات “لن يحدث مرة أخرى أبدًا” و”العالم كله ضدنا” وتم استخدامها في الدبلوماسية الإسرائيلية، التى سعت إلى تحويل الإبادة الجماعية النازية إلى واقع. وبناءً عليه، أصبحت المحرقة مصدرًا لكسب التعويضات، وبناء التعاطف العالمي، وإعاقة انتقاد السياسات الإسرائيلية.

وبشكل عام، تشير المحرقة أو الهولوكوست إلى الذاكرة الجماعية المدمرة التي تحكم الهوية الذاتية اليهودية، أو وجهة النظر القائلة بأن “جوهر الحياة اليهودية في العالم المعاصر هو أن كل اليهود مهددون بالتساوي بالإبادة الجماعية على النمط النازي”، والتى انتشرت ليس فقط في إسرائيل ولكن على ما يبدو في جميع أنحاء العالم الغربي، وبدأ السياسيون اليمينيون يتلاعبون بها وينقلونها من التاريخ إلى يومنا هذا ومن ألمانيا النازية إلى الدول العربية والإسلامية، وهو ما ساهم فى تفاقم الوضع الراهن وتقويض فكرة حل الدولتين.

ثالثًا: قوة تأثير اللوبي الصهيوني

أكد الكاتب بأن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة نجح في عرقلة أي سياسة أمريكية تعارضها إسرائيل، كما أجبر الولايات المتحدة على توفير الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي والدبلوماسي اللازم لإسرائيل. فمنذ عام 1948 حتى عام 2018، أرسلت الولايات المتحدة أكثر من 50 مليار دولار إلى إسرائيل كمساهمات خيرية، معظمها من اليهود الأمريكيين ولكن بشكل متزايد من المسيحيين الإنجيليين، والتي دعمتها الحكومة الأمريكية بإعفاءها من الضرائب. وفي الفترة نفسها، تلقت إسرائيل 134.7 مليار دولار فى شكل مساعدات عسكرية واقتصادية مباشرة من حكومة الولايات المتحدة، مع تعهدات أخرى بقيمة 38 مليار دولار خلال عام 2019، لتصبح بذلك إسرائيل أكبر متلقِ للمساعدات الأمريكية التي يتم تسليمها في جميع أنحاء العالم.

ضف على ذلك، الطريقة التي تتلقى بها إسرائيل المساعدات والتى تميزها أيضًا عن جميع المتلقين الآخرين، لأنها تتلقى مبالغ مقطوعة بدلًا من الأقساط، وتتلقى أيضًا فائض المعدات العسكرية الأمريكية بأسعار مخفضة للغاية. ناهيك عن سجل الحماية الأمريكية لإسرائيل في الأمم المتحدة، ففي عام 2015 فقط، على سبيل المثال، عارضت الولايات المتحدة ثمانية عشر قرارًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة كان صادرًا ضد إسرائيل.

فى هكذا سياق، نجح اللوبي الصهيوني، الذي يعمل كذراع طويلة لإسرائيل، والمتجذر في النظام السياسي والمجتمع الأمريكي، فى خلق فكرة مفادها أن انتقاد سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين يساوي معاداة السامية. ويمكن إرجاع هذا النجاح، إلى العمل الجاد وتفاني نشطاء اللوبي، والشغف الخاطئ لليهود والإنجيليين الأمريكيين بـ “حماية” إسرائيل، والطابع الأساسي للسياسة الأمريكية، وهو ما منح حركة ذات قضية واحدة في السياسة الخارجية الأمريكية نفوذًا هائلًا على الرؤساء وأعضاء الكونجرس.

انطلاقًا من هذا، أكد الكاتب بأن الدعم الهائل والساحق الذي قدمته واشنطن لإسرائيل نتيجة للوبي الصهيوني، أدى إلى شل المعتدلين الإسرائيليين وتمكين المتطرفين الإسرائيليين، لأنها قوضت الجهود التي بذلها اليهود الإسرائيليون الليبراليون لإجبار حكومتهم على تقديم تنازلات واعتماد سياسات من شأنها دفع “عملية السلام”، وهو ما أدى فى نهاية المطاف إلى عرقلة فكرة حل الدولتين.

باختصار، دفعت سياسات الدعم الأمريكي الكامل وغير المشروط،  الديمقراطية الإسرائيلية – والحكومات التي أنتجتها إلى الانحراف الجذري والمصيري للديمقراطية الإسرائيلية عن التسوية والسلام نحو التطرف والعدوان.

رابعًا: صعود وانحدار نموذج “حل الدولتين”

قدم الكاتب مناقشة نظرية عن فكرة صعود وهبوط النماذج الفكرية، حيث نوه بضرورة النظر إلى فشل حل الدولتين عن طريق التفاوض كخيار سياسي لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بطريقة أعمق من ذلك، أي التعامل معه كنموذج يحتوي على مجموعة من المفاهيم، والافتراضات وجداول الأعمال والأسئلة والالتزامات والمعتقدات المرتبطة بها.

فهو ليس مجرد سيناريو لتحقيق سلام مستقر بين إسرائيل والفلسطينيين، وعلى نطاق أوسع، بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط، بل أصبح مشروعًا سياسيًا وتحليليًا ذا أهمية كبيرة. وبناءً عليه، يجب علينا أن نعتبره برنامجًا سياسيًا، مع الناشطين والسياسيين الذين يربطون طموحاتهم به، وكنموذج أو برنامج بحثي للمحللين والعلماء والصحفيين الذين يرغبون في فهم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتحديد مسارات لتحسينه.

خامسًا: واقع الدولة الواحدة ومستقبلها

جادل الكتب بأنه حان الوقت للتخلي عن فكرة حل الدولتين كحل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ويجب التركيز بدلًا من ذلك على فكرة “الدولة الواحدة”، التى أصبحت أمر واقع خلقته إسرائيل بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهو ما ساعدها على السيطرة حصرًا على هذه المنطقة لتصبح قوة معترف بها دوليًا،  تؤثر سياساتها وأفعالها بشكل حاسم على حياة جميع السكان في هذه المنطقة. باختصار، أصبحت كل من الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن نطاق النظام السياسي الإسرائيلي قبل اثنين وخمسين عامًا وليس قبل واحد وسبعين عامًا، والحقيقة الواضحة هي أنهم يعيشون بداخله.

لهذا السبب، ستساهم فكرة “الدولة الواحدة” فى معالجة جميع المطالبات العربية واليهودية، فلا يمكن لليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين أن يتمتعوا بالديمقراطية التي يستحقونها إلا بعد عقود من النضال وسط العواقب غير المقصودة ولكن القوية لواقع الدولة الواحدة اليوم.

فى هكذا سياق، أكد الكاتب بأنه على الرغم من أن فكرة “الدولة الواحدة” ستستغرق فترة طويلة لتحقيقها نظرًا للطموحات التوسعية المستمرة للقيادة الإسرائيلية والتدهور المتزامن للرؤية والديناميكية بين الفلسطينيين،  لكنها ستمهد الطريق فى نهاية المطاف نحو ديمقراطية متعددة الأعراق، وهو ما نجح فى نماذج سابقة أبرزها الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، وضم أيرلندا في القرن التاسع عشر، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وبما أنه لا يمكن تحقيق دولة مشتركة واحدة من خلال المفاوضات بين الممثلين اليهود والعرب، كما هو الحال مع فكرة حل الدولتين. بدلًا من ذلك، قدم الكاتب رحلة طويلة المدى من أسفل إلى أعلى لبناء تحالفات سياسية يهودية عربية، تقوم على فكرة الحد من عدم المساواة السياسية، وتسليط الضوء على التمييز الاجتماعي والاقتصادي والتخفيف منه، والإصرار على الحماية المتساوية لحياة جميع المواطنين وممتلكاتهم. وقد أشارت الانتخابات الإسرائيلية في مارس 2020 إلى تطور هذا المسار عندما صوت عدد غير مسبوق من اليهود الصهاينة اليساريين لصالح القائمة العربية المشتركة، وهو ما أسهم فى حصولها على 15 مقعدًا في الكنيست.

سادسًا: دروس مستفادة

افترض الكاتب أن العقبات التي تعترض السلام تقع بالكامل على الجانب الإسرائيلي، وأن التعديلات في السياسات الإسرائيلية لا تزال قائمة، وأن العرب الفلسطينيين وغيرهم من غير الغربيين هم مجرد متفاعلين سلبيين مع الخير أو الشر الذي تفعله بهم الكيانات الغربية، وليس لديهم أي وجهات نظر أو ضرورات خاصة بهم، وهو ما يدعم فكرة رفض القبول بوجود إسرائيل بأي شكل من الأشكال.

يمكن الإستفادة من هذه الافتراضات فى تفسير أحداث “طوفان الأقصى” الراهنة والتى تجبرنا على ضرورة تحديد أسباب الهجوم وإزالتها، وهو ما أكده الكاتب في مقال له بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، حينما أشار بأن ردود الفعل العاطفية التي أبدتها واشنطن لن تمنع العنف في المستقبل، بل إن تفكيك سجن غزة هو الذي يستطيع فعل ذلك.

وعليه لا بد من إدراك أن القصة لم تبدأ صباح يوم السبت السابع من أكتوبر 2023، بل بدأت عام 1948 بقرار تقسيم فلسطين وتهجير إسرائيل لنحو 750 ألف فلسطيني، وبذلك تتغير السردية بشكل جذري، ونجد أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي ليستا من بدأ الحرب، بل أطلقتا ثورة في السجن فقط -حسبما يقول الكاتب- لأن غزة والمناطق المحيطة بها وأجزاء من صحراء النقب جزء من الدولة العربية المفترضة التي صوتت عليها الأمم المتحدة عام 1947.

ختامًا، أكد الكاتب بأن الحل الحقيقي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي سوف يستغرق عقودًا طويلة، ومع ذلك لا يجب التخلي عن الأمل، ففي نهاية المطاف، من كان يستطيع أن يتوقع نهاية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؟، مضيفًا بأن كلا الشعبين يستحقان الفرص من أجل تقرير المصير، وهو ما سيساهم بشكل عام فى تحقيق السلام بين اليهود والعرب.

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80203/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M