آفاق وضوابط “الحرب الباردة” في الشرق الأوسط

مع اقتراب عمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من عتبة العام تتضح أكثر فأكثر خريطة هذه الحرب لناحية موازين القوى المتحكمة فيها وضوابطها وحتى مآزقها وأوهامها بالنسبة للأطراف المشاركة فيها. هكذا فإن إسرائيل التي حاولت حكومتها اليمينية أن تتصرف أو أن تصور نفسها وكأنها سيدة على قرارها وكأنها هي وحدها من يحدد أولوياتها في الحرب أو السلم تخضع إلى هذا الحد أو ذاك للضوابط الأميركية، وإن كانت تحاول قدر المستطاع توسيع هامش مناوراتها مع الإدارة الأميركية لكنه هامش لا يستطيع أن يتجاوز نفسه عندما يتعلق الأمر بالأولويات الأميركية الرئيسة في المنطقة وفي مقدمتها راهنا عدم توسع الصراع إلى حرب إقليمية شاملة.

هذا ما ينطبق بالدرجة الأولى على الجبهة بين إسرائيل و”حزب الله” والتي تستمر منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي مسقوفة ومضبوطة وإن بتفاوت في التصعيد من قبل الطرفين وبالأخص من جانب إسرائيل التي بقيت محتفظة بقدرتها على رفع سقف التصعيد بالرغم من تهديدات “حزب الله” وردوده “المدروسة جدا” على التصعيد الإسرائيلي المتواصل. بالتالي فإن عامل الردع الرئيس في هذه الجبهة هو عدم رغبة الأميركيين في توسعة الحرب. وهذا خط أحمر أميركي سيكون من الصعب جدا على إسرائيل الآن تجاوزه وإن كانت تلوح بالحرب وتحضر لها، وإن كانت فكرة توسعة الحرب ضد “حزب الله” بدأت تفرض نفسها في الداخل الإسرائيلي كتطور “طبيعي” لمسار الحرب في غزة والجبهة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وهذا ما قد يُترجم إسرائيليا بتصعيد العمليات العسكرية ضدّ “حزب الله” في المرحلة المقبلة لكن دون سقف الحرب الشاملة، خصوصا أن “الحزب” لا يريد الانجرار إلى مثل هذه الحرب لأسباب لبنانية لكن الأهم لأسباب إقليمية متصلة بعدم رغبة إيران بتوسّع النزاع خشية التورط فيه، وهو ما يجعل إسرائيل أكثر استعدادا للتصعيد ضدّ “حزب الله”.

والواقع أن إسرائيل حتى لو كانت تفكر في الأضرار التي يمكن لـ”حزب الله” أن يلحقها بها في حال نشوب حرب أو “أيام قتالية” بينهما، فإن الرادع الرئيس لإسرائيل عن شن مثل هذه الحرب هو عدم تأمين واشنطن غطاء لها لشنها وليس قدرات “حزب الله” القتالية والعسكرية. كذلك فإن الكلام في تل أبيب عن أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على خوض حرب على جبهتين في الوقت عينه لا يفترض أخذه بمعناه العسكري البحت بعدما تراجعت تهديدات “حماس” لإسرائيل، بل بمعناه السياسي لجهة عدم وجود غطاء أميركي لحرب ضد “حزب الله” الآن.

بالتالي فإنه يصعب بل يستحيل إخراج الضوابط الأميركية من معادلات الردع بين الجانبين، باعتبار أن هذه الضوابط هي فوق كل محاولات تثبيت الردع المتبادل بينهما على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية. ولذلك يمكن القول إن أميركا حاضرة في هذه الجبهة أكثر من أي جبهة أخرى، خصوصا في ظل التصعيد الإسرائيلي المتواصل فيها مع تحول إعادة سكان مستوطنات الشمال كهدف من إهداف الحرب في ظل الضغط الذي يمارسه هؤلاء المستوطنون على الحكومة الإسرائيلية واتهامها بالتخلي عنهم، وهو ما يخلق واقعا معقدا للحكومة اليمينية من باب عدم قدرتها على حماية شعبها، الأمر الذي يمس أساسا بفكرة أن إسرائيل هي الملاذ الآمن ليهود العالم.

لكن بعيدا عن هذا البعد الأيديولوجي في مقاربة الصراع فإن الجبهة بين إسرائيل و”حزب الله” تتحول إلى جبهة رئيسة، ليس لأن إسرائيل توليها تركيزا أكبر بعد تخففها من كثافة العمليات العسكرية في قطاع غزة، بل لأن هذه الجبهة تحديدا هي نافذة لفهم التصور الأميركي للمنطقة، من حيث إن واشنطن تتطلع إلى احتواء الحرب وضبطها حتى لو استمرت بوتائر متراوحة التصعيد.

 

واشنطن أخذت مقابلا من إسرائيل عن ردعها إيران و”حزب الله”، من خلال إحجام تل أبيب حتى الآن عن شن حرب شاملة ضد “الحزب” ولبنان

 

 

بالتالي فإن التعثر المتواصل للمفاوضات بين “حماس” وإسرائيل لا يؤدي بواشنطن إلى السماح لتل أبيب بتوسيع أجندتها العسكرية إلى حدود قصوى، خصوصا مع “حزب الله”، بل على العكس تماما فإن تسليم الإدارة الأميركية بالأمر الواقع المتعلق بصعوبة بل استحالة التوصل إلى صفقة توقف الحرب بين إسرائيل و”حماس” يجعلها أكثر تصميما على احتواء الحرب في جبهاتها المختلفة ورسم حدود لها بحيث تتحول إلى حرب باردة بين أطرافها، فلا هي تنطفئ تماما ولا تشتعل تماما.
هذه “الاستراتيجية” الأميركية ليست متصلة وحسب بموعد الانتخابات الأميركية القريب جدا، ولا بسعي الإدارة الديمقراطية إلى توفير أنسب الظروف وأوفر الحظوظ لانتخاب كامالا هاريس، وهذا أمر أساسي في المقاربة الأميركية لتطورات المنطقة، لكنه لا يفسر كل شيء في هذه المقاربة باعتبار أن واشنطن، كما ينقل عن مسؤولين فيها، تضع احتمالا لأن تستمر الحرب لعقد من الزمن. وهو وقت طويل جدا لا يمكن لـ”الدولة العميقة” في واشنطن إلا أن تتحسب له وتقيم حساباتها في الشرق الأوسط على أساس، وهي حسابات يدرك بنيامين نتنياهو أنه لا يستطيع تجاوزها سواء وصل دونالد ترمب أو كامالا هاريس إلى البيت الأبيض. وحتى لو كان احتواء التصعيد الإقليمي أولوية أميركية متصلة بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل- باعتبار أن توسع الحرب قد يؤدي بين نتائج أخرى إلى أزمة نفط تنعكس بشكل مباشر على الداخل الأميركي- فإن الإدارة الأميركية تتطلع إلى ما بعد انتخاب هاريس على قاعدة أنه سيصعب عليها بدء ولايتها على وقع حرب واسعة في الشرق الأوسط.

 

أ ف ب أ ف ب

تصاعد الدخان من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية حولا في جنوب لبنان في 16 سبتمبر 2024 

والحال، فإذا كانت أميركا قد ردعت إيران وبالتالي “حزب الله” عن تهديد إسرائيل بتصعيد مفتوح، فهي ردعت إسرائيل أيضا عن توسيع حربها مع “حزب الله”. وعليه، يمكن القول إن واشنطن أخذت مقابلا من إسرائيل عن ردعها إيران و”حزب الله” من خلال إحجام تل أبيب حتى الآن عن شن حرب شاملة ضد “الحزب” ولبنان. لكن ذلك كله ليس من دون ارتدادات في قطاع غزة والضفة الغربية حيث تطلق واشنطن إلى حد بعيد اليد الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الحلقة الأضعف في الصراع. وكأن هذا التوغل الإسرائيلي في تقويض الواقع الفلسطيني الهش أساسا عائد بشكل رئيس إلى أن الأراضي الفلسطينية سواء في غزة أو الضفة هي الميدان الذي تستطيع فيه تل أبيب أن تتصرف بحرية شبه مطلقة، وبشبه غطاء أميركي، أو بتسليم أميركي بأنه لا يمكن الآن – وربما لا يجب -“ضبط” إسرائيل في غزة والضفة.

 

من غير المتوقع أن تنشب حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله” قبل الانتخابات الأميركية ولا حتى بعدها في الأمد المنظور

 

 

وهذا يعطي مفعولا معاكسا لجبهة الإسناد التي يديرها “حزب الله”، باعتبار أن التوحش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين يأتي كتعويض أميركي لإسرائيل عن عدم خوضها حربا واسعة ضد “الحزب”. وبعبارات أخرى، فإن تركيز واشنطن على ضبط الجبهة بين “حزب الله” وإسرائيل لأنها جزء من استراتيجيتها للتعامل مع إيران، يقلّص تلقائيا الخطوط الحمر الأميركية في الضفة وغزة ويتيح لتل أبيب تحديها والذهاب بعيدا في عدوانيتها ضد الفلسطينيين، في ظل العودة الإسرائيلية للحديث عن “إسرائيل الكبرى” مع ما يرافق ذلك من عودة إلى نبش الخرائط. وكل ذلك ما هو إلا أوهام إسرائيلية يتيحها “التسامح” الأميركي، وهي أوهام تصطدم بالوقائع الجيوسياسية في المنطقة، وبالأخص في ما يتصل بالأولويات المصرية والأردنية والتي هي جزء رئيس من الأولويات العربية التي لا يمكن لواشنطن القفز فوقها من ضمن استراتيجيتها الإقليمية. وبالتالي فإن الضوابط الرئيسة لهذه الأوهام الإسرائيلية هي عربية- أميركية وليست إيرانية كما يدعي أعضاء “محور المقاومة”.
واللافت أن ثمة آراء بدأت تخرج من بيئة “محور المقاومة” تقول إن إسرائيل تفعل ما تفعله بالفلسطينيين بسبب ضعف “المقاومة الفلسطينية”، ولذلك فهي غير قادرة على أن تفعل الأمر نفسه مع لبنان بسبب قوة “حزب الله”، وهذا يشكل في العمق نقضا لنظرية “وحدة الساحات” باعتبار أن هذه الوحدة تقتضي أن يعوض الطرف الأقوى ضعف الأطراف الأخرى في أي صراع مع إسرائيل. وهذا ما لا يحدث واقعا وباعتراف “أبناء محور المقاومة” أنفسهم. ثم إن هذه المقولة تضيء على خصوصية الجبهة بين إسرائيل و”حزب الله” في سياق الحرب المندلعة في المنطقة، باعتبار أنها جبهة تتحكم فيها حسابات خاصة لكل من إيران و”حزب الله” ولكن أيضا لواشنطن التي تهتم بهذه الجبهة بالنظر إلى أنها تشكل مدخلا أو نموذجا لكيفية إدارة الصراع- التفاهم مع إيران في المرحلة المقبلة.

 

رويترز رويترز

فلسطينيون، يظهرون من خلال خيمة ممزقة، على متن آلية تمر بين الأنقاض في خان يونس، جنوب قطاع غزة في 16 سبتمبر 

لذلك فإن الجهود الدبلوماسية الأميركية المتواصلة لإيجاد حل سلمي للنزاع الدائر بين “حزب الله” وإسرائيل- والتي يقودها موفد الرئيس جو بايدن، آموس هوكشتاين، الموجود في إسرائيل حاليا- هي جزء من تصور أميركي لإدارة الملفات الشائكة في المنطقة في المرحلة المقبلة، على قاعدة أن واشنطن لا تتطلع إلى حسم الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط على نحو نهائي بل إلى احتوائها من خلال تفاهمات معينة، وهو ما يجنب أميركا الانخراط أكثر في هذه الصراعات، وهو انخراط لا تريده الولايات المتحدة بل على العكس تماما فهي تتجنبه قدر الإمكان، وليس قليل الدلالة أن واشنطن ما إن اطمأنت إلى أن إيران غير راغبة في التصعيد عقب اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران سارعت إلى سحب حاملة الطائرات “يو إس إس ثيودور روزفلت” من المنطقة.
بالتالي فإنه من غير المتوقع أن تنشب حرب بين إسرائيل و”حزب الله” قبل الانتخابات الأميركية ولا حتى بعدها في الأمد المنظور، بل إن المتوقع هو أن تدخل المنطقة في حرب باردة طويلة الأمد تقوم على ديناميتين: الأولى تفاهمات أميركية– إيرانية بهوامش متحركة، والثانية استمرار إسرائيل في استهداف البنى التحتية لـ”محور المقاومة” على امتداد المنطقة وصولا إلى قلب إيران، ومع تركيز على سوريا، نقطة الوصل بين إيران والعراق ولبنان.

 

ليس قليل الدلالة أن يعود الكلام الإيراني عن التفاهم مع الغرب وبدفع من المرشد علي خامنئي نفسه في عز الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة

 

 

وهذا لا يعني أن مستقبل الصراع في قطاع غزة لن يكون مؤثرا في تطورات المنطقة، إلا أن حسابات الأطراف المتصارعة لا تنحصر بما يحصل في الداخل الفلسطيني، وخصوصا أن مقاربة الوضع الفلسطيني بالنسبة لـ”محور المقاومة” هي جزء من مقاربته الإقليمية الشاملة. أي أن هذا المحور لا يقيم سياساته الإقليمية بناء على أولوية القضية الفلسطينية، بل إن هذه القضية هي أداة وحلقة من حلقات إدارة الصراع وليست المحددة الوحيدة له. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يعود الكلام الإيراني عن التفاهم مع الغرب وبدفع من المرشد علي خامنئي نفسه، في عز الحرب على غزة والضفة.
وهذا التفاهم عندما يحصل سينعكس آجلا أم عاجلا على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وإن كان “حزب الله” لا يزال يربط بين جبهتي غزة وجنوب لبنان، ولكنه ربط بعيد جدا من أن يعني أن الأولوية الفلسطينية لـ”حزب الله” تتقدم على أولويته اللبنانية التي تعني بسط نفوذه في الداخل اللبناني والحصول على اعتراف غربي- وبالتحديد من أميركا- بهذا النفوذ. وهذا أمر لا يمكن إسقاطه من حسابات “جبهة الإسناد”، ومن تصور مستقبل الوساطة الأميركية في شأنها وإن كان لا شيء محسوما بخصوصها لاسيما بعد الضربة القاضية التي تعرض لها القرار 1701، وما دامت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة متواصلة، ووفق خطط إسرائيلية جديدة تتعلق باحتلال شمال قطاع غزة وإعلانه منطقة عسكرية وإفراغه من ناسه. لكن هل سيؤثر ذلك على وتيرة التصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل؟ الواضح أكثر فأكثر أن هذه الجبهة أصبح لها منطقها الخاص وضوابطها الخاصة والأميركية تحديدا، وهو ما يدفع إلى اعتبار وساطة هوكشتاين جزءا من منطق هذه الجبهة ومن ضوابطها بغض النظر عن نتائج هذه الوساطة لاحقا.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M