- في خلال جولته الخليجية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سورية، والتقى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في العاصمة السعودية الرياض، مُقْدِماً على مفاجأة لمؤسسات إدارته لاقت ترحيباً إقليمياً واسعاً، واعتُبرت بمثابة مباركة لإدارة الشرع.
- انعكس تبنّي ترمب للسلطات السورية الجديدة على مواقف الأمم المتحدة، وأغلبية الدول في مجلس الأمن الدولي، التي أظهرت ترحيباً برفع العقوبات. أما أوروبياً، فلقد أدَّى قرار ترمب إلى ترجيح كفة المنادين برفع العقوبات عن سورية بالكامل داخل الاتحاد الأوروبي.
- سيؤدي رفع العقوبات عن سورية إلى تحسين الوضع المعيشي للسوريين جميعاً، ورفع مستوى الخدمات في البلاد، وسيفتح المجال أمام الدول العربية والخليجية من أجل إرسال المزيد من المساعدات الإنسانية، وإطلاق برنامج اقتصادي لإعادة إعمار سورية بالتعاون مع تركيا.
- التأثير الأكبر لقرار ترمب سيظل متركزاً في الساحة الداخلية السورية. إذ اعترف بشرعية الشرع، وكرَّسه زعيماً على سورية الجديدة، مُضعِفاً في الوقت نفسه الأقليات والتيارات المعادية له مثل الأكراد والدروز والعلويين، والقوى الثورية الداعية للتشاركية والديمقراطية.
في خلال جولته الخليجية التاريخية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سورية، والتقى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في العاصمة السعودية الرياض، مُقْدِماً على مفاجأة لمؤسسات إدارته لاقت ترحيباً إقليمياً واسعاً، واعتُبرت بمثابة مباركة لإدارة الشرع.
تحاول هذه الورقة فهم التداعيات المحتملة لهذا التحوّل المهم على المشهدين السوري والإقليمي.
مفاجأة ترمب من عدم الاعتراف بالشرع إلى مصافحته
لم تبدأ العلاقة بين إدارة ترمب الحالية والحكومة الانتقالية في دمشق بداية طيبة، إذ ظهرت مؤشرات عدة على توتر العلاقة في الأسابيع الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد. ففي فبراير، رفضت الولايات المتحدة التوقيع على بيان مؤتمر باريس الذي نصّ على الاعتراف بالحكومة الانتقالية، وتبع ذلك استخدام واشنطن لغة شديدة اللهجة في مارس بعد مجازر الساحل بحق العلويين. ثم خفّضت وزارة الخارجية الوضع القانوني للبعثة السورية إلى “بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة”، قبل أن تُعلن صراحة يوم 9 أبريل أنَّها “لا تعترف بأي كيان في دمشق باعتباره حكومة لسورية”. تزامن ذلك مع تقارير كثيرة عن انقسام داخل الإدارة الأمريكية بين تيار أيديولوجي رافض لأي انخراط، وآخر براغماتي يسعى لانتهاز الفرصة.
وسط تعثُّر المسار السياسي الرسمي بين دمشق وواشنطن، حصلت تحركات على مسارات جانبية قادها ستيفن ويتكوف، والنائب مارلين ستوتزمان، ورجل الأعمال جوناثان باس. كانت الرسالة المشتركة التي بعثها الثلاثة أن أحمد الشرع قد تغيَّر، وأن ثمة فرصة أمام الولايات المتحدة لعقد صفقة والاستفادة من سورية، تشمل بناء برج ترمب في دمشق، والوصول إلى الثروات الطبيعية، وتهدئة التوتر مع إسرائيل، وإخراج أو تحجيم دور إيران وروسيا والصين، وربط الاقتصاد السوري بالولايات المتحدة، وغيرها من الملفات التي قد تحقق مكاسب اقتصادية وأمنية لواشنطن.
انعكست الأجواء، التي أشاعها باس بشكل متعمد عن عروض الشرع لواشنطن، على زيارة ترمب إلى السعودية وقطر ودولة الإمارات بين 13 و16 مايو، ومهَّدت الطريق أمام إعلان ترمب رفع العقوبات عن سورية تلبية لطلب السعودية وتركيا. وفي 14 مايو، التقى ترمب الشرع، بحضور الأمير محمد بن سلمان و(أردوغان افتراضياً). دعا ترمب الشرع إلى الانضمام للاتفاقيات الإبراهيمية وترحيل الإرهابيين الفلسطينيين وتحمُّل مسؤولية مراكز احتجاز المنتميين لداعش، بينما عرض الشرع فرصاً للاستثمار الأمريكي في قطاعي النفط والغاز، ومشاركة سورية في تسهيل التجارة بين الشرق والغرب. وذكر بيان الخارجية السورية أن الجانبين بحثا “سُبُل الشراكة في مكافحة الإرهاب”. كما أبلغ ترمب القادة الخليجيين أن بلاده تدرس تطبيع العلاقات مع دمشق، وأعلن عن اجتماع مرتقب بين وزير خارجيته والشيباني في تركيا لبحث الخطوات التالية. وبقراره هذا، غلّب ترمب جناحاً في الإدارة على جناح آخر. كما أنه فاجأ بشكل كبير مؤسسات الدولة الأمريكية بالمدى الذي ذهب إليه في إعلانه الرفع الكامل للعقوبات، والخطوة التي قدَّر مسؤولون أمريكيون أنها ستكون “مُعقَّدة وتستغرق شهوراً”.
انطلق ترمب في دفاعه عن اعترافه بالشرع، من حاجة أي دولة شرق أوسطية إلى رجل قوي قادر على ضبط الاستقرار، وليس إلى ديمقراطية أو تشاركية. وصف الرئيس الأميركي يوم 15 أيار، الشرع بـ “الرجل القوي“: “إذا كنت شخصاً ضعيفاً، فسنضيع الوقت فحسب … سنمنحه فرصة للصمود من طريق رفع العقوبات”، وذكر بعد عودته إلى واشنطن من جولته الإقليمية أن “الاستقرار في سورية لن يتحقق من دون قيادة رجل قوي مثل الشرع“.
تنفيذاً لقرار ترمب، أصدرت وزارة الخزانة في 23 مايو، الرخصة العامة رقم 25، والتي تقضي بـ “التخفيف الفوري للعقوبات المفروضة على سورية”. تسمح الرخصة للشركات بالاستثمار في سورية، وتتيح توفير الخدمات المالية، والعمليات المرتبطة بالنفط أو المنتجات النفطية سورية الأصل. وشملت الرخصة رفع أكثر من 28 شخصاً وكياناً من قائمة الحظر، بينهم الرئيس الشرع ووزير الداخلية ومصرف سورية المركزي وغيرها من المؤسسات المالية والاقتصادية السورية. وفي ذات اليوم، أصدرت الإدارة الأمريكية إعفاءً لمدة 180 يوماً من العقوبات المفروضة على سورية بموجب قانون قيصر. بينما دعا وزير الخارجية الأمريكي مجلس الشيوخ إلى إلغاء هذا القانون.
ردود أفعال إقليمية ودولية
كان لقرار ترمب رفع العقوبات عن سورية تأثير بالغ على الديناميكيات الإقليمية. فمن جهة، فتح الباب أمام دول الخليج كي تبدأ دعمها الحقيقي لسورية، ومن جهة أخرى، عزَّز من مكانة تركيا الإقليمية. في هذا المجال بدا أن هناك اتفاق بين ترمب ومحمد بن سلمان وأردوغان على إقامة شراكة سعودية (خليجية) تركية لرعاية التحوُّل السوري بعيداً عن إيران وروسيا. يعزّز القرار الأميركي موقفي تركيا والسعودية، اللتين تسعيان لممارسة دور قيادي في سورية، من طريق منع عودة إيران، والحد من السياسات الإسرائيلية المُزعزعة لاستقرار سورية، وجني مكاسب اقتصادية وسياسية من عملية إضفاء الشرعية على القيادة السورية، ودعم مسار التعافي الاقتصادي.
لقد أغضب ترمب بشدة الإيرانيين الذين كانوا يطمحون إلى العودة إلى سورية، سواء من طريق اتفاق مع ترمب في خلال مفاوضاتهم النووية عبر سلطنة عمان أو بعد التوصل إلى الاتفاق مُستغلين ضعف سورية الشديد وحالة عدم الاستقرار التي يقومون بتغذيتها بأنفسهم. ووصف المبعوث الإيراني لسورية محمد رضا رؤوف شيباني يوم 19 مايو، سورية بأنها “محتلة” من إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، وأكد أن الشغل الشاغل لبلاده يتمثل في “احتلال” سورية إلى جانب قضايا استتباب الاستقرار، والحرب الطائفية، ومعالجة الحكومة لحقوق الأقليات.
كما أغضبت قرارات ترمب موسكو بشدة، خصوصاً أن روسيا كانت تعتقد أنها توصّلت إلى تفاهم مع الإدارة الأمريكية بشأن سورية، يقوم على التعاون في مكافحة الإرهاب، وضمان شمول العملية الانتقالية جميع السوريين، استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، بما يضمن لروسيا دوراً مركزياً. لكن قرار ترمب جاء مُناقِضاً لذلك، مُستبعِداً أيّ دور محوري لروسيا. كما أن قرار ترمب سيُعزز موقف دمشق في مواجهة موسكو؛ فبينما لا تمانع السلطات السورية علناً بقاء القواعد الروسية، إلا أنها تسعى على الأرجح إلى تشديد الشروط الناظمة لهذا الوجود وتحديد عديد القوات الروسية المنتشرة وعتادها. وجاء الرد الروسي على قرار ترمب سريعاً، إذ اتهم وزير الخارجية سيرغي لافروف يوم 20 مايو، الغرب بتجاهل “جرائم التطهير العرقي” التي تنفذها “الجماعات المسلحة المتطرفة” في سورية. مع التطورات الجديدة، ستُواجه روسيا صعوبة في فرض أجندتها في سورية، وقد تضطر للتهدئة والتفاوض بمرونة حول وجودها العسكري، ولا يُستبعَد أن تسعى للتنسيق مع إسرائيل لاستعادة جزء من نفوذها.
أما إسرائيل فهي كانت قد بدأت تتراجع بشكل منهجي عن مواقفها الرافضة للرئيس الشرع حتى قبل لقائه بترمب. فعشية زيارة الرئيس الأمريكي إلى الخليج، بدَّل وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر يوم 12 مايو موقفه من الحكومة السورية التي سبق أن وصفها بـ “الإرهابية”، ليقول إن حكومته تسعى إلى علاقات جيدة بها. وربما أتى هذا التبدل الإسرائيل على خلفية اتصالات مباشرة وغير مباشرة بين الحكم الجديد وإسرائيل، يُعتقد أنها مهَّدت الطريق لاستعادة إسرائيل رفات أحد جنودها الذي قتل في معركة بلبنان عام 1982، وكذلك تسليم إسرائيل وثائق ومتعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، والذي أكدت دوائر صنع القرار في دمشق بأنه مثَّل مبادرة غير مباشرة من الشرع في إطار سعيه لتهدئة التوتر وبناء الثقة لدى ترمب. والأرجح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتمكن من تغيير موقف ترمب خلال لقائهما في البيت الأبيض في أبريل الماضي حيال مسألة رفع العقوبات عن سورية، حيث أكد ترمب أنه لم يستشر تل أبيب قبل اتخاذ قراره الخاص برفع العقوبات. ومن المرجّح أن تتكيّف إسرائيل مع الوضع الجديد، ساعية لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من الإدارة السورية على المدى القصير، والتفاوض بشكل مباشر أو غير مباشر على مكتسبات أكبر على المدى البعيد مُستغلةً ضعف سورية.
إن تبني ترمب للسلطات السورية الجديدة انعكس على مواقف الأمم المتحدة، وأغلبية الدول في مجلس الأمن الدولي، التي أظهرت ترحيباً برفع العقوبات. أما أوروبياً، فلقد أدَّى قرار ترمب إلى ترجيح كفة المنادين برفع العقوبات عن سورية بالكامل داخل الاتحاد الأوروبي. وسبق لليونان وقبرص أن عرقلتا الرفع الكامل للعقوبات على سورية في الاتحاد الأوروبي في فبراير الماضي، إلا أنهما وجدتا نفسيهما معزولتين في خلال الاجتماع الأوروبي (يوم 20 مايو)، الذي اتخذ قراراً برفع العقوبات. والأرجح أن تنسِّق أوروبا مع تركيا والسعودية لاستقرار الأوضاع في سورية ودفع عجلة التعافي الاقتصادي. في الوقت نفسه ستحاول تحقيق مصالحها الخاصة، وعلى رأسها الضغط على أحمد الشرع لإخراج روسيا من سورية وفتح باب عودة اللاجئين.
التداعيات الاقتصادية على الصعيدين الوطني والإقليمي
إن قرار ترمب رفع العقوبات عن سورية، والذي تلاه قرار مماثل من الاتحاد الأوروبي، أسفر عن موقف جديد بالنسبة للاقتصاد السوري والاقتصاد الإقليمي. فقد كانت العقوبات الخارجية، وخصوصاً الأمريكية، من أبرز أسباب تدهور الاقتصاد السوري بعد حربٍ مدمّرةٍ أنهكت البلاد. لذلك، من المتوقع أن يفتح رفع العقوبات المجال أمام تحسُّن الاقتصادي المحلي.
وسيؤدي رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية إلى إعادة دمجها بالمنظومة الاقتصادية العالمية وإعادة تفعيل نظام التحويل العالمي “سويفت”، حيث ستشهد البيئة الاقتصادية انفراجة تدريجية من شأنها تحريك عجلة الإنتاج. كما سيمكنها من تجديد صناعاتها واستقطاب رؤوس أموال سورية وعربية وأوروبية وأمريكية.
وسيوفّر رفع العقوبات فرصاً عدة لزيادة موارد الخزينة السورية، سواء من طريق استعادة الحكومة لأرصدة مجمَّدة في الخارج، تُقدّر بنحو 500 مليون دولار في أوروبا وحدها، أو عبر تلقي مساعدات خارجية مباشرة. على سبيل المثال، على خلفية عقوبات “قيصر”، لم تتمكن قطر من تقديم منحة مالية مطلع العام الجاري لدعم رواتب الموظفين السوريين مباشرة (حوالي 30 مليون دولار شهرياً، ولمدة ثلاثة أشهر)، إلا بعد حصولها على استثناء أمريكي يسمح بتحويل الأموال عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مع اشتراط توزيعها فقط على الموظفين المدنيين من دون الموظفين في وزارتي الداخلية والدفاع. ومع زوال العقوبات، ستزول هذه العوائق.
وسيوفِّر رفع العقوبات استثمارات خارجية لتطوير البنى التحتية الاقتصادية في سورية مثل الموانئ والمطارات ومحطات الطاقة. مثلاً، وبمجرد الإعلان عن رفع العقوبات عن سورية، وقَّعت “الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية” مذكرة تفاهم مع شركة “موانئ دبي العالمية” بقيمة 800 مليون دولار، لإنشاء “محطة متعددة الأغراض” في ميناء طرطوس.
ومن المرجّح أن يُسهم رفع العقوبات في تمكين الحكومة السورية من استعادة السيطرة على آبار النفط والغاز الخاضعة لـ “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في دير الزور (كونيكو والعمر) والحسكة، تمهيداً لجذب استثمارات خارجية في هذا القطاع الحيوي.
ومن المرجح أن يؤدي رفع العقوبات إلى زيادة التنافس الداخلي بين أنصار الشرع القادمين من إدلب، فضلاً عن المنافسة بينهم وبين بقية رجال الأعمال السوريين في الداخل الخارج. وسينشأ صراع على درجةٍ ما من الشدة بين مَن سيتمكنون من قطف ثمار رفع العقوبات بين أنصار الشرع، سواء داخل هيئة تحرير الشام أو الفصائل، وبينهم وبين من استُبعدوا عن الثمار الاقتصادية للمرحلة الجديدة.
ويتوقع مسؤولون سوريون، مثل وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار، ووزير المالية محمد يسر برنية، أن يكون لرفع العقوبات أثر إيجابي في الاقتصاد، بما في ذلك تحسين مستوى المعيشة وخفض معدلات البطالة. إلا أنهم يشددون على أن الأثر لن يكون فورياً. يرى الشعار أن التحسُّن الحقيقي يتطلّب أكثر من مجرد رفع العقوبات، بل يحتاج إلى إصلاحات اقتصادية جدّية وبيئة أعمال مُشجِّعة، موضحاً أن المستثمرين يبحثون عن الأمان القانوني والضمانات السياسية. وخلص إلى أن رفع العقوبات قد يكون بداية لمرحلة جديدة مليئة بالتحديات. ويتفق محمد يسر برنية مع هذا التقييم، مؤكداً أن نتائج رفع العقوبات لن تظهر فعلياً قبل مرور ستة أشهر على الأقل.
وعلى الصعيد الإقليمي، سيؤدي رفع العقوبات إلى إعادة ربط سورية باقتصادات دول الجوار القريب والبعيد، وهي الصلة التي انقطعت لسنوات، بما سيعزز مشاريع التكامل الإقليمي على صعد الطاقة والربط الطرقي والسككي. على سبيل المثال، لم ترَ مشاريع إمداد لبنان بالطاقة الكهربائية من الأردن وبالغاز المصري عبر سورية الموقعة عام 2022، النور نظراً لاصطدامها بقانون قيصر. ويتطلع لبنان الآن إلى إحياء هذه المشاريع، وإعادة تفعيل خط النفط العراقي من كركوك إلى لبنان عبر سورية. وسيكون لرفع العقوبات تأثير مهم في عودة جزء غير بسيط من اللاجئين السوريين إلى بلادهم، خاصةً من لبنان والأردن، بما يزيح أعباء قاسية عن اقتصادات الدولتين. حيث إن رفع العقوبات سيُمهّد الطريق لتدفّق الاستثمارات إلى سورية، ما سيتطلّب قوى عاملة لتنفيذ هذه المشاريع على الأرض. ومن المتوقع أن يُشجّع ذلك عدداً من اللاجئين في دول الجوار على العودة إلى بلادهم بحثاً عن فرص العمل. وعلى الأرجح، فإن الاتحاد الأوروبي سيُسهِم في تسهيل وتمويل عودة اللاجئين السوريين الراغبين بالعودة من دول الجوار ومن البلدان الأوروبية.
وبرفع العقوبات لن تظل مشاريع ربط موانئ الخليج العربي بموانئ بلاد الشام على البحر الأبيض المتوسط، أو جعل سورية جزءاً من “الممر الاقتصادي” العالمي الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، مجرد أحلام بعيدة المنال. فقد ذكر الشرع لرئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، يوم 21 مايو، أن سورية تشكل “ممراً اقتصادياً مهماً بين الشرق والغرب“. وجاء توقيع “موانئ دبي العالمية” على عقد لإنشاء محطة جديدة في ميناء طرطوس، ومنح شركة “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية، عقداً لتطوير ميناء اللاذقية وتشغيله، ليؤشرا إلى تعزيز دور الجغرافيا السورية بوصفها جسراً رابطاً بين الخليج ومن ورائه آسيا، والمتوسط ومن ورائه أوروبا.
ونظراً لحجم الاستثمارات التي ستتطلبها عملية إعادة إعمار سورية ولأهميتها الجيوسياسية، فعلى الأرجح سوف تحتدم منافسة إقليمية من حول سورية. لكن ثمة احتمالية عالية لحصول اتفاق خليجي تركي، بمباركة أمريكية وأوروبية، على إدارة عملية إعادة إعمار سورية، يُشابِه الاتفاق السوري الخليجي، الذي حصل في القرن الماضي بمباركة أمريكية، على إعادة إعمار لبنان، بعد اتفاق الطائف ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية.
سلطة الشرع والمواقف الداخلية
مَنَحَ لقاءُ الشرع مع ترمب، الأولَ الشرعية الخارجية التي كان يحتاجها للمضي قدماً في أجندة “بناء الدولة السورية” كما يتطلع، والتي تقوم على احتكار السلطة والسلاح، وإقصاء الخصوم، ومكافأة الحلفاء وسط تراجع الاهتمام الغربي بقضايا التشاركية، والعدالة والديمقراطية. أما تخفيف العقوبات، فسيمنحه الموارد المالية اللازمة لتنفيذ استراتيجية تقوم على الدمج والإقصاء: دمج الفئات الاجتماعية المستعدة لقبول قيادته عبر الحوافز والمكاسب المالية، وإقصاء المعارضين وتهميشهم. هذه العملية – التي تشبه تجارب بناء هيكل السلطة في مناطق أخرى عاشت النزاعات الداخلية – مرشحة لأن تُشكّل ملامح المشهد الداخلي في سورية لفترة غير قصيرة. والمؤشرات الأولية على هذا المسار بدأت بالظهور بالفعل.
واستعجل الشرع قطف ثمار نجاحاته الخارجية في الداخل، إذ أعلن تشكيل “هيئة للعدالة الانتقالية” تتولى كشف الحقائق بشأن انتهاكات نظام الأسد، من دون أن يشمل تفويضها الجرائم التي ارتكبتها “هيئة تحرير الشام”، أو الفصائل المتحالفة معها في عملية “ردع العدوان” أو تلك التي ارتكبتها فصائل “الجيش الوطني” المتحالف مع تركيا في شمال محافظة حلب، وبالتحديد بحق الأكراد في منطقة عفرين. كما لم يشمل تفويض الهيئة الكشف عن مرتكبي مجازر الساحل في مارس الماضي أو حقيقة ما جرى بحق الدروز في بلدة أشرفية صحنايا بريف دمشق مؤخراً.
كما كافأ الشرع وزير خارجيته على جهوده لرفع العقوبات، بتكليف وزارة الخارجية والمغتربين مهام التعاون الدولي مع الوكالات الأممية والمنظمات الدولية لتصبح “الجهة المركزية العليا” في هذا الشأن، مُلزماً جميع الوزارات بالتنسيق مع الوزارة في كل الشؤون المتعلقة بالعلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. وأطلق مساراً خاصاً للتعامل مع مسألة المقاتلين الأجانب، يتناسب مع رؤيته لمنحهم الجنسية السورية، لكن ضمن الشروط الأمريكية المتمثلة في إبعادهم عن مواقع القرار الرسمي. وسارع الشرع إلى حلّ “الحزب الإسلامي التركستاني“، الذي يتشكل من المقاتلين الإيغور المتحدرين من إقليم تركستان الشرقية/شنغيانغ الصيني، وشكل على أنقاضه يوم 20 مايو فرقة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع تدعى الفرقة “88” وتتمركز في الساحل السوري.
وكثَّف الشرع ضغوطه على الفصائل المسلحة التي لم تسلم سلاحها أو تنضوي تحت لواء وزارة الدفاع، فأعلن وزير الدفاع مرهف أبو قصرة يوم 17 مايو، عن “دمج الوحدات كافة ضمن وزارة الدفاع“، وطلب من “المجموعات الصغيرة” الالتحاق بالوزارة مانحاً إياها مهلة عشرة أيام، مُتوعِّداً باتخاذ “إجراءات” ضد المتخلفين. ويُستدل من تصريحات أبو قصرة أن النافذة قد أُغلقت تماماً أمام انضمام “قسد” أو الفصائل الدرزية بوصفها تشكيلات عسكرية متكاملة إلى وزارة الدفاع.
لكن لقاء الشرع بترمب ما كان ليمر مرور الكرام بين قاعدته المتطرفة التي تؤمن بعقائد “الولاء والبراء”، وتُكفِّر التواصل مع زعماء الدول الغربية والأمم المتحدة. وقد حصلت أعمال عنف ضد السلطات الأمنية في حلب ومدينة الميادين بريف دير الزور، اتهمت بها دمشق تنظيم داعش. لقد أوحت تلك الأعمال بتوسُّع الشرخ الأيديولوجي بين حكم الشرع وقسم من أنصاره الأشد تطرفاً، فضلاً عن بروز تيارات وجماعات جديدة تُكفِّر الشرع نفسه، كما ازدادت جاذبية “داعش” بين هؤلاء. وبالنسبة لعبد الرزاق المهدي، أحد شرعيي الهيئة المنشقين، فقد هاجم الشرع بشكل مبطن، مُنتقداً سعيه وراء رضا ترمب.
وإذا كان صحيحاً أن الشرع قد تمكَّن من تحييد المخاطر المعيشية عن تهديد حكمه، إلا أن رفع العقوبات سيؤدي إلى ازدياد حدة الصراع الداخلي بين أعضاء حلقته وسيَفُتُّ في عضد المجموعات المتطرفة الحاملة لحكمه، نظراً لتهديمها أساساتها الإيديولوجية. في ظل هذه الظروف، وفي ضوء التربص الإيراني، سينتعش تنظيم داعش. وسيكون على الشرع، إدارة مرحلة انتقالية، في ظل تصاعد تهديد داعش، وانفضاض مؤيدين وأنصار له لم يستفيدوا من ثمار رفع العقوبات، وسط تزايد التململ الشعبي من هيمنة القادمين من إدلب على صفقات إعادة الإعمار، بعد هيمنتهم على أجهزة الدولة ومواردها.
وفي المقابل، يواصل موقف الأكراد عامةً، و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) خاصةً، التدهور بوتائر كبيرة. فقد تدهور موقف “قسد” مع بدء انسحاب القوات الأمريكية من شرق سورية، وازداد حراجة بعد لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالشرع (7 مايو). وأتى لقاء الشرع بالرئيس الأمريكي، وقرارات رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سورية، ليضعفا بشكل خطير موقف “قسد” أمام دمشق.
وتحركت أنقرة سريعاً من أجل استغلال نافذة الفرصة التي وفَّرها اعتراف ترمب بحكومة الشرع وأوفدت رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالين يوم (20 مايو) إلى دمشق للقاء الرئيس السوري ووزير خارجيته ونظيره السوري حسين السلامة، ليبحث مصير “قسد” ويشدد على تسليمها السلاح أسوة ببقية الفصائل السورية، وسُبُل نقل إدارة المعسكرات والسجون التي تضمن بقايا تنظيم داعش من “قسد” إلى الحكومة السورية. ويصر الرئيس التركي على أن تمتثل “وحدات حماية الشعب” الكردية، نواة “قسد”، بوصفها جزءاً من منظومة حزب العمال الكردستاني لقرار الحزب حل نفسه الذي اتخذه يوم 12 مايو.
وأضعف اعتراف ترمب بشرعية الشرع موقف الفصائل الدرزية المناوأة له، وبالذات الشيخ حكمت الهجري الذي وصف في 10 أبريل، سلطة الشرع بالإرهابية. كما أن تراجُع موقف إسرائيل حيال الشرع والاختراقات التي حققتها المفاوضات معه، عقَّدت موقف الهجري الذي بدا معزولاً إقليمياً، بعدما عزله تعاونه مع إسرائيل داخل الطائفة الدرزية. ورفض الهجري ما ذهبت إليه السلطات الجديدة من أن رفع العقوبات كان “إنجازاً لها”، بل اعتبره انتصاراً للوطن، ودعا إلى وقف “انتهاكات (السلطات) والتخوين والتكفير” بحق الدروز.
وبالنسبة للعلويين، فقد استغلوا رفع العقوبات من أجل المطالبة، على لسان رئيس “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” في سورية والمهجر، الشيخ غزال غزال، بـ “خارطة طريق سياسية، وجدول زمني واضح وسريع لما يسمى بالحكومة الانتقالية تحت إشراف المجتمع الدولي ورعاية الأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ هيكلية تشكيل الدستور وفق معايير دولية”.
خلاصة واستنتاجات
سيؤدي رفع العقوبات إلى تحسين الوضع المعيشي للسوريين جميعاً، وسيرفع مستوى الخدمات في سورية ويوسع المجال أمام الدول العربية والخليجية من أجل إرسال المزيد من المساعدات الإنسانية وإطلاق برنامج اقتصادي لإعادة إعمار سورية بالتعاون مع تركيا، بما يصبّ في صالح الشعب السوري الذي عانى أهوال الحرب والعقوبات الدولية لأربعة عشر عاماً. وسيكون لرفع العقوبات تأثير عظيم على تعزيز الربط الإقليمي في الشرق الأوسط، وتعزيز موقع سورية بصفتها جسراً برياً يربط الخليج بالمتوسط.
لقد رسَّخ قرار ترمب النتائج النهائية للحرب السورية، على الصعيد الإقليمي، حيث كرَّس انتصار تركيا والسعودية، وهزيمة إيران، فيها. وقد مضى ترمب في رفع العقوبات عن سورية، بالرغم من الضغوط الإسرائيلية القوية عليه، وهو ما سيدفع إسرائيل إلى مراجعة سياستها حيال سورية والتراجع عن طموحاتها لإبقائها مفتتة والتدخل الدائم في شؤونها الداخلية. في نفس الوقت، ربما يُمهِّد ترمب الطريق أمام حصول اتفاق سعودي تركي على إعادة إعمار سورية. وسهَّل رفع العقوبات الأمريكية على الاتحاد الأوروبي رفع عقوباته عن سورية، ما زاد من قدرة الدول الأوروبية على منافسة ما تبقى من الدور الروسي المنحصر إلى في غرب سورية، والطموح إلى إنهائه.
وسيظل التأثير الأكبر لقرار ترمب على الساحة الداخلية السورية. إذ اعترف بشرعية الشرع، وكرَّسه زعيماً على سورية الجديدة، مُضعِفاً في الوقت نفسه الأقليات والتيارات المعادية له مثل الأكراد والدروز والعلويين، والقوى الثورية الداعية للتشاركية والديمقراطية.
وقرار رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية عن سورية سيتبعه تدفق موارد مالية على سورية سوف تُمكِّن الشرع من إرساء حكمه بين السوريين وتوزيع مغانم اقتصادية على أتباعه ومريديه وقاعدته، وإقصاء المناوئين له بعيداً عن الحكم والأعمال. وربما كان الأهم أن ترمب، لم يطلب مقابل ما قدَّمه للشرع تحقيق الديمقراطية أو تشاركية الحكم، وهو أمر سيُعزِّز من توجهات الشرع السلطوية.
وسيكون على الشرع مواجهة قاعدته الصلبة من السلفيين الجهاديين الذين يتمسَّكون برفض موالاة الغرب، لأسباب عقائدية، ولذلك قد ينفضَّ عنه قسم من مؤيديه، مع تصاعُد جاذبية تنظيم داعش بينهم.